دروس تعلمتُها في رحلتي مع المرض

القاهرة – حنان فارس —–

بعض الآلام لا تُوصف، تجثو على صدرك بثقل وغموض، كلما أردت أن تلفظها إلى الخارج تكتشف أنها أضخم من أن تمر بحلقك، وتأبى الكلمات أن تحملها، فتعجز عن صياغتها في ألفاظٍ بسيطة ومجردة، وتخشى أن ينتقص وصفك من عظم فداحتها ويسكب في طريقه جزءاً من حقيقة فظاعتها، فلا تصل للمستمع بما يليق بها -لاسيما إن لم يختبر مثلها من قبل- فتسكت وأنت أحوج ما تكون للحديث. هذه هي المعاناة بعينها، وليس أصعب على المرء من شرح معاناته، ولا أثقل من ترويضها واحتوائها داخله.

تظل حبيسة بين جنبيك وتتشابك بعبثية وصخب شديدين، ولأنها لا تجد لنفسها مخرجاً منك تهدر طاقتها في الاصطدام بجدرانك، فتحطم جزءاً وتنسفه، وتعيد تشكيل جزء آخر بهندسة وإبداع، حتى تخبو نارها وتنطفئ تماماً، وتصبح آلاماً ماضية بائدة، لا لهبَ لها ولا رماداً، وكذلك تصبح أنت إنساناً جديداً، معمارك الداخلي أكثر فناً وأشد تطوراً.

إن الآلام التي لا نصفها هي أكثر ما يُشكلنا، وتصنع مِن كلٍّ منا نسخةً جديدةً نتفاجأ بوجودها بمرور الزمن، نسخاً متقنة ومتطورة، تعي أن الحياة مُحقة فيما جعلتنا نشعر آنذاك، وأنّ صدورنا يجب أن تكون أكثر رحابةً من فضاء يتسع لكل موجودات الكون، لبعض الآلام التي قصدتنا نحن بالتحديد، لتمر بِنَا وتبقى حتى تعيد إنتاجنا.

بعد كل رحلة لنا مع هذا النوع من الألم هناك سؤال يتوجب طرحه: ما الذي عرفته عن نفسي في حزني؟ في الغالب ستجد أن شيئاً ما أضاء زاوية جديدة من عقلك فزاد من رقعة وعيك وتيقظك، لتفطن إلى معانٍ لم يكن لك أن تختبرها من دون التجربة.

منذ ديسمبر (كانون الأول) الماضي وأنا أتجرّع في اليوم الواحد أطناناً من الألم الفظيعة، رحلة العلاج بدأت مع إصابة بالغة بالعمود الفقري، ثم توالت التشخيصات والمضاعفات، وتضاعفت الأدوية والمسكنات، ثم بدأت معدتي وكليتاي في الصراخ، حتى التبس عليّ الأمر، فلم أعد أعرف من أين تحديداً يأتي كل هذا الوجع، ولم يكن في وسعي شيء سوى تحمله والتعايش معه، حتى الحديث عنه بات فارغاً مفرغاً من المعنى الحقيقي للمعاناة.

اليوم استيقظتُ ووجدتُ للحظة أنني لا أشعر بأي ألم في جسدي، أخذتُ أُدقق في جسدي جزءاً جزءاً وأتأمله عضواً عضواً، باحثة عن أحد الآلام التي اعتدتُها في الأشهر القليلة الماضية، فلما لم أجد كاد قلبي يخرجُ من صدري من فرط سعادتي بتلك اللحظة، وهي -إن شئت القول- إحدى اللحظات العادية جداً التي مررت بآلاف مثلها قبل الألم، ولم ألقِ لها بالاً، ولم أدرك عظم شأنها، بل كان يحجبني الملل والتهاون عن الاستمتاع بها وما فيها من عافية وسكينة.

الآن وأنا أدرك معنى أن يبيت المرء ويصحو متألماً، متأملاً في لحظة واحدة يعلن فيها جسده السلام ويعطيه ولو هدنة سريعة من الأوجاع، أصبحتُ أعرف عن نفسي التفريط في بلوغ أبسط معاني الحياة والتكاسل عن الانغماس فيها، وكأنني كنت أعيش أبيات درويش بإتقان:

فلا أَمس يمضي،

ولا الغَدُ يأتي

ولا حاضري يتقدم أو يتراجع

لا شيء يحدث لي!

كان الملل مما ندعوه “الأيام العادية” مسيطراً عليَّ ويملأني بتساؤلات حول قيمتها وتمني انقضاءها أو استبدالها بشيء آخر، شيء لا أعرفه، ولكنه يجب أن يكون أكثر إثارة وحماساً، ولم ألتفت إلى عظم النعمة التي وصفها الرسول الكريم ببساطة “مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِناً فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي بَدَنِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا”.

حيزت لي الدنيا وأنا لا أزال ذاهلة عنها متذمرة من هدوئها وسكينتها، حتى جاء الألم وعصف بي، ليعيد ترتيب المشهد بداخلي، ويقيم الحدود الفاصلة بين البلادة والحياة.

وإن جعلني أعاني مرة فإنني أشعر بالامتنان عشرات المرات، لأنه جعلني أيضاً أُثمّن تلك الدقائق والثواني التي كنت أراها “رتيبة وبلا قيمة”، وأفهم كيف يمكن أن تُسبغ بأعمق معاني الحياة. وهكذا أصبح بإمكاني القول إن شعور الألم العميق هو ما يمنحنا الإحساس بأننا أحياء، يحفظ إدراكنا لِلّحظات البسيطة، وما بها من نِعَم تستحق الشكر والامتنان.

“أيُّ الناس أشد بلاءً؟ قال: الأنبياء، ثم الأمْثَلُ فالأمثلُ”

أدرك أن كلامي اقترب على مديح الألم والغلو في شأنه، بالطبع ليس هذا هدفي، فنحن نسأل الله المعافاة صباحاً ومساءً بكل رجاء، ولكني أحاول أن أهمس في أذن المتألمين وأهل الابتلاءات، وأتساءل معهم: لماذا يتم احتقار الألم والتبرؤ منه أو مداراته؟ ولماذا يعتقد الناس أن السعادة عكس الألم؟ وأنها الفضيلة التي يجب السعي إليها والمباهاة بها، بينما يكون الألم مثيراً للشفقة والفرار، في حين أن غيابه التام يقتل بداخلنا الشعور بالنعم ويحرمنا تذوق لذة العافية.

وكيف يكون الأنبياء هم الأكثر عرضة للبلاء؟ أوَلَيسوا هم الصفوة المختارة من بين كل البشر؟ والأقرب والأحب إلى الله، فلماذا عُنيوا بكل هذه الآلام؟

ولماذا في قانون الله -سبحانه وتعالى- تكون الطهارة والرفعة مُكافئِة للألم؟

الألم بمعناه المطلق لا يقتصر على واحدة من اثنتين: الجسد أو الروح، بل دائماً ما يُمزج بينهما، فما إن تألمت الروح تداعى لها الجسد وتأوّه، وكذلك إنْ أنَّ الجسد بَكَتْهُ النفسُ وتمخَّضت. ولذلك فإن القلب معنيّ بكل الآلام التي يتعرض لها الإنسان، وتعد كل تجربة له مع الألم بمثابة درجة في سلم طهارته، حيث تنجلي عنه بعض الآثام العالقة به، وكلما طهر القلب رقّ، وكلما رقّ استنار، ولا تستقيم الحياة وتطيب إلا باستنارة القلوب والبصائر.

وتكمن عبقريته -أي الألم- في قدرته الخارقة على ربط الجسد بالمعنى ودمج الوقائع الجسدية بدلالات ومعانٍ أكبر من مجرد انعكاس الأوجاع الناتجة عنها، حتى يصبح الألم بذاته بوابةً إلى عالم آخر مليء بالرموز والشفرات، كلما انفكت منها واحدة بلغ المرء منزلة أسمى من الإنسانية.

فإن كان الزمان بتجاربه يجعل من المرء حكيماً، وإن كان العِلم بنظرياته ومعطياته يجعل منه عالِماً، فالألم تحديداً هو ما يُعيد إلينا إنسانيتنا، وبمكابدته تُصبح إنساناً!

شاهد أيضاً

“الإمبراطور الأبيض”.. مقاتلة الجيل السادس الصينية المصممة للهيمنة على السماء والفضاء

تشهد المنافسة بين الصين والولايات المتحدة تصعيداً ملحوظاً في العديد من المجالات، من أبرزها التسابق …