من ساعٍ يقدم القهوة والشاي لرجل أعمال صاحب مشاريع ضخمة.. قصة رجل مدهش قابلته في إسطنبول

سألته هو ذاك الرجل الناجح في الوسط الإعلامي في إسطنبول، الذي يتكرر اسمه على مسمعي منذ سنوات: متى وكيف بدأت مسيرة حياتك المهنية؟ تنهد بطريقة توحي بأنه لم يصل إلى ما وصل إليه بسهولة، تركت له مهلة التفكير وأنا صامتة في احترام وتقدير لذلك الدرس الذي سأتلقاه من قصة حياته، قال لي أخيراً: بدأت مسيرة حياتي عندما كان سني ست سنوات، عندما رفضت أن آخذ مصروفاً من أبي، لاقتناعي بضرورة تحمل مسؤوليتي بنفسي.

لم أستطع محو معالم الدهشة عن محياي، خلته رجلاً بجسد طفل صغير، قرر في سن مبكرة أن يصير رجلاً مسؤولاً، بدأ ببيع أشياء بسيطة، ثم مر إلى خدمة الناس بتوزيع القهوة والشاي، ثم صار مديراً مالياً، فمنتجاً إعلامياً، فمديراً لإحدى أكبر القنوات الإعلامية على ساحة الإعلام العربي، فصاحب مشروع إعلامي شبابي، من المؤكد أنه سيلاقي نفس النجاح الذي شهدته أعماله السابقة.

ألقيت نظرة من حولي على مقر عمله، مكان متميز وجميل، مصمم بذكاء، فهمت بعدها أنه لم يستعن بمهندس ديكور وإنما هو صاحب الفكرة.

لا أدري لم ذكرتني قصته بمدير أعمال متقاعد التقيته قبل أسبوع، رجل شغر مناصب مهمة في شركات عالمية، كانت تدفع له آلاف الدولارات بالشهر في الثمانينات، بينما كان وقتها راتب الأستاذ لا يتعدى مئة دولار، أتذكر أنني سألته يومها عن كيف كانت البدايات، نزع نظارتيه اللتين كان ينزعهما كلما حدثنا، ويضعهما كلما نظر إلى شاشة حاسوبه وهو يستعرض بكل فخر مسار عمله وإنجازاته، هذه المرة لم ينزع نظاراته كي ينظر إلينا وإنما كي يزيح نظره عنا محاولاً إخفاء دموع قالت وسردت لنا ما عاناه قبل أن ينطق هو به، قال ويداه ترتجفان:

بدأت مسيرتي عندما كنت أسترق السمع أنا وأخي الأكبر مني إلى حديث دار بين أمي وجاراتها اللواتي أتين لتقديم التعازي في وفاة والدي، كان سني وقتها ثماني سنوات وكان أخي يكبرني بسنتين، سمعنا النساء يسألن أمي عما هي فاعلة بعد وفاة معيلها، سمعنا ردها وهي تقول لهن: إن كان ولداي يريدان الدراسة سأعمل خادمة في المنازل.

توقف هنا عن الكلام وأجهش بالبكاء، لابد أن نفس الإحساس بالقهر على أمه يوم سمع ردها هو الذي خالجه اليوم، لم يكن يريد أن يرى أمه المعززة المدللة سيدة بيتها تخرج للعمل فتصبح الخادمة بدل السيدة.

استشار الطفلين الرجلين يومها فيما سيفعلانه، هل يتوقفان عن الدراسة حتى لا تشقى أمهما من أجلهما ويخرجان للبحث عن لقمة العيش؟ لكنهما خافا أن يكون مصيرهما نفس مصير أغلب أبناء الحي الذين تركوا الدراسة فأصبحوا يقطعون الطرق ويسرقون وينهبون. أم يتمان دراستهما؟.

قررا في نهاية ذاك الاجتماع الصغير أن يتوجها للبحث عن عمل ليلي فيدرسان بالنهار ويعملان بالليل، ينقذان مستقبلهما ويبقيان على أمهما سيدة ببيتها، توجها إلى فران الحي وأخبراه أنهما يبحثان عن عمل بالليل، لا أتذكر طبيعة العمل الذي أوكله لهما، أتذكر أنه عمل يبدأ من العاشرة ليلاً إلى السادسة صباحاً يتقاضيان فيه كلاهما نفس ما يتقاضاه وقتها معلم المدرسة، كانا يتوجهان للعمل ليلا ويرجعان إلى البيت صباحاً لارتداء ملابس المدرسة وحمل حقيبتيهما، استمرا على العمل ليلاً والدراسة نهاراً وكانت أمهما رحمها الله تهتم ببيتها وتدخر من أجرة ولديها فاشتريا بيتاً صغيراً وادخرا بضعة دنانير ذهب، إلى أن وصلا إلى مرحلة الثانوية، فاتفقا أن ينهي الأخ الأكبر مرحلة الثانوية ويتوجه إلى عمل قار، يعيل به البيت ودراسة الجامعة للأخ الأصغر، على أن يرجع لإتمام دراسته بعد تحصل الأصغر على شهادته الجامعية، فيلج سوق العمل ويعيل بدوره البيت ودراسة الأخ الأكبر.

لم يخلفا الاتفاق وأتمم الأخ الأصغر دراسته في إدارة الأعمال بينما اختار الأخ الأكبر الأدب الإنجليزي.

حاولوا أن تسألوا الناجحين من حولكم ستجدون، ستجدون قصصاً لا يعلمها أحد وصعوبات لا تخطر على البال. ستجدون الكثير من سنوات الجهد والتعب والسهر والألم. ستجدون سنين من العمل المتصل الذي لا ينقطع. ستجدون أن النجاح لا يأتي صدفة والحظ لا يلعب دوره في كل الأحيان، ستجدون أن ما يتصدر الآن عن أنك يمكن أن تنام ليلاً لتصحو أغنى الأغنياء وأنجح الناجحين هو محض هراء، هو تشويه لقصص النجاح التي نراها كل يوم وتشويه للعرق والجهد والتعب الذي بُذل كي تخرج لنا هذه القصص نرويها هكذا في عدة دقائق. ستجدون أنكم أمام من نضجوا في سن مبكرة، أخذوا زمام أمورهم باكراً، قرروا أن يصيروا رجالاً وهم أطفال، فكانوا يسيرون بين الناس في أجساد أطفال وبروح ونضج ومسؤولية الرجال، وكأنهم سجناء أجساد ليست لهم

 

شاهد أيضاً

قانون لجوء الأجانب في مصر يثير الجدل.. كيف أجبر الاتحاد الأوروبي القاهرة على الإسراع بتمريره؟

مررت الحكومة المصرية بشكل مبدئي قانون لجوء الأجانب الذي أثار جدلاً حقوقياً وشعبياً واسعاً خلال …