عندما تتحول محاربة الإرهاب إلى شيك على بياض قصة أسرة فلسطينة في النمسا تروي لحظات استجوابهم

بالرغم من تمتع جميع الاشخاص المقيمين في النمسا بحقوق أساسية ”فجميع المواطنون سواسية أمام القانون، لا يفرق بين أحد منهم على أساس مولده أو جنسه أو منشأه أو انتمائه أو دينه .

وكانت النمسا قد صدقت في 1958 على الاتفاقية الاوربية لحماية حقوق الانسان والحريات الاساسية التي وضعها المجلس الاوربي في ذلك العام ,  كما يمارس جميع المقيمين في النمسا حقوقهم الأساسية – بغض النظر عن منشأهم وجنسيتهم ونوع تصريح إقامتهم وجنسهم وأعمارهم وميولهم الجنسية ولغاتهم ودياناتهم ومراكزهم الاجتماعية.

وهذا يعني أن الجميع سواء في التمتع بممارسة تلك الحقوق الاساسية دون السماح لأي أحد أن يمس بها ,  إن الذي أرسى هذه الحقوق الاساسية هو الدستور الفيدرالي وتلتزم المحكمة الدستورية بإنفاذها

ولكن وبدون مقدمات فوجئ الشاب الفلسطيني وزوجته وطفلتهما ذات الثمانية أشهر فقط بعشرات البنادق موجهة نحوهم داخل غرفة نومهم، ولم يكن المقتحمون سوى عناصر من الشرطة النمساوية يحاربون الإرهاب، فما علاقة الأسرة بالإرهاب؟

الحرب على الإرهاب مصطلح أمريكي أطلقه الرئيس جورج بوش الابن في أعقاب هجمات سبتمبر/أيلول 2001 التي أوقعت نحو 3 آلاف قتيل أمريكي في استهداف برجي التجارة العالمية في نيويورك ومبنى البنتاغون بطائرات ركاب تم خطفها من جانب أعضاء في تنظيم القاعدة.

وعلى مدى عقدين من الزمان أصبحت الحرب على الإرهاب مصطلحاً عالمياً كانت نتيجته المباشرة الغزو الأمريكي لأفغانستان ثم العراق، وتسببت تلك الحرب في تشريد أكثر من 40 مليون شخص ودمار دول كثيرة، بحسب تقرير لجامعة براون الأمريكية تزامناً مع الذكرى 19 لتلك الحرب

الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش

لكن “تجييش الشرطة” حول العالم كان أيضاً أحد أبرز تداعيات تلك الحرب على الإرهاب، حيث تمتعت قوات إنفاذ القانون بصلاحيات مطلقة في مطاردة المشتبهين، ما أدى في كثير من الأحيان إلى وقوع ضحايا لا علاقة لهم بالإرهاب من قريب ولا من بعيد، بحسب عشرات الدراسات والتقارير الصادرة عن منظمات حقوقية دولية على مدى العقدين الماضيين.

ورغم ذلك، تتواصل الممارسات القمعية للشرطة والتي قد تستهدف معارضين سياسيين سلميين تحت ذريعة محاربة الإرهاب كما يحدث في دول غير ديمقراطية مثل الصين وروسيا وكثير من الدول العربية، لكن حتى الدول الغربية التي ترفع شعار حرية التعبير والديمقراطية وسيادة القانون لا تزال تشهد هي الأخرى استهداف قوات الأمن لمواطنين في تلك الدول بسبب خلفياتهم العرقية أو الدينية، وما حدث في النمسا مجرد مثال صارخ.

ما الجريمة التي اتهمته الشرطة بارتكابها؟

الفلسطيني ك. أ. وزوجته رويا لوكالة الأناضول ما عايشاه خلال مداهمة ما يقرب من 20 من عناصر الشرطة الخاصة النمساوية لمنزلهم في التاسع من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي وما مرّا به من معاناة بعد ذلك.

وأوضح ك. أ. أنه يعيش حياةً طبيعيةً في النمسا منذ  14 عاماً، ولم تكن له أي مشاكل سواء مع جهاز الشرطة أو أي مؤسسة أخرى حتى ذلك اليوم، مشيراً إلى أنه يقوم بمهامه كفرد مسؤول دون تلقي أي مساعدات مالية من الدولة. وأعرب عن صدمته تجاه ما قامت به الشرطة من مداهمة منزلهم.

وقال: “استيقظنا في الصباح الباكر على وقع جلبة كبيرة. وخلال ثوانٍ فوجئنا بعشرات البنادق موجهة نحونا. كانت هناك وحدة من الشرطة الخاصة مكونة من 15 إلى 20 فرداً”.

وأضاف: “للوهلة الأولى ظننا أن جماعة إرهابية داهمت المنزل. كان أمراً مخيفاً للغاية. وكانوا يصرخون فينا بصوت عالٍ: “ارفعوا أيديكم، افعلوا كذا”، تجمدت زوجتي من صدمتها. ولم تستطع حتى أن تجيب عن ما طُرح عليها من أسئلة. وكانت طفلتي البالغة ثماني أشهر فقط تبكي طوال الوقت”

وأوضح أن عناصر الشرطة دخلوا غرفة نومهم واقتادوه إلى غرفة أخرى.  وتابع: “تركوا باب المنزل الخارجي مفتوحاً. وكانت زوجتي وطفلتي خائفتين وتبكيان بشدة. وقالوا إنهم سيصطحبونني للتحقيق”.

وأفاد بأن الشرطة استخدمت الكلاب في تفتيش جميع أنحاء المنزل، وأخذت من المنزل أجهزة إلكترونية كالهواتف المحمولة والحاسوب. وأضاف أنهم لم يفهموا ما كانت تبحث عنه الشرطة، مضيفاً: “انتقلنا إلى هذا المنزل منذ ثلاث سنوات. وقد ادخرنا مبلغاً لتجهيز المنزل وشراء الأثاث والاحتياجات الأساسية، لكنهم صادروا كل شيء”.

شاهد أم متهم؟

الرجل الفلسطيني قال إن الشرطة كذبت عليه أثناء احتجازه، وأخبرته بأنه قدم بصفته شاهداً وليس متهماً، إلا أن الأوراق التي أعطيت له بعد ذلك تذكر بوضوح أنه متهم. وقال إنه لم يجد في الاستجواب أي سؤال حول الاتهامات الموجهة إليه.

واستطرد: “كانت أسئلتهم كالتالي: هل تصلي؟ هل ترتدي زوجتك الحجاب؟ أما فيما يخص طفلتي البالغة من العمر ثماني أشهر فقد كانت أسئلتهم سخيفة من قبيل هل ستسمح لها بأكل كل أنواع اللحوم في النمسا عندما تكبر؟ هل ستختار لها زوجها عندما تكبر أم ستتركها تختار بنفسها؟”.

وقال ك.أ إن الشرطة طرحت عليه أسئلة تتعلق بشخصيات مهمة من العالم الإسلامي سواء على قيد الحياة أو شخصيات راحلة. وتابع: “دفعني حبي لتركيا لأن أشارك صورة علم تركيا ورئيسها رجب طيب أردوغان عبر حسابي على فيسبوك. ولكن وُجهت لي أسئلة حول أردوغان مثل ما علاقتك به؟ وهل تلتقي به؟ وهل هناك أي محادثة أو اتصال دار بينكما؟”.

وأضاف: “أخبرتهم بأني أحبه لأنه يمد يد العون للمظلومين في سوريا وفلسطين وأماكن متفرقة حول العالم، ولهذا السبب أشارك منشورات تتعلق به. وأني أذهب إلى تركيا في إجازتي لأني أحبها”.

وأوضح أنه على الرغم من كونه فلسطينياً فإنه سُئل العديد من الأسئلة حول مصر وحكومتها، كما سئل عن مجموعات وجماعات لم يسمع بها من قبل. وذكر أن الشرطة سألته عن شخصيات مثل الرئيس الفلسطيني الأسبق ياسر عرفات ويوسف القرضاوي، وأنها عرضت عليه عناوين كتب مختلفة وسألته إن كان قرأها أم لا، إضافة إلى توجيه بعض الأسئلة المتعلقة بالفقه والسير، قال إنه لم يستطع الإجابة عنها.

وأكد أن الشرطة طرحت عليه الكثير من الأسئلة أثناء الاستجواب، وأنه على الرغم من طلبه عدة مرات الدخول مع محاميه فإنها تجاهلت طلبه، وأشار إلى أن الشرطة استجوبته طيلة 18 ساعة دون انقطاع، وعرضت عليه صور لبعض الأشخاص. وأردف: “ضغطوا عليّ لأقول إن بعض الأشخاص ينتمون إلى حزب أو جماعة معينة. أو على ارتباط بمؤسسات ما”.

استخدام الزوجة والطفلة للتهديد

وقال: “لم يكن لديّ علم بما يسألون عنه، ولكنهم كانوا يصرون على استخراج إجابات ما مني. كما أنهم استخدموا طفلتي ذات الثمانية أشهر وزوجتي لممارسة الضغط عليّ. فكانوا يقولون إذا أردت العودة إليهما عليك أن تخبرنا. وإن لم تخبرنا الحقيقة فلن نسمح لك بالذهاب إلى عائلتك”.

كما أكد أن الشرطة حاولت الضغط عليه فيما يتعلق بالمنشورات التي شاركها ثلاثة من أشقائه يعيشون في غزة عبر مواقع التواصل الاجتماعي الخاصة بهم، وكان قد شارك منشوراً لدى أحد إخوته به صورة لفلسطيني أصيب برصاصة في ساقه في مظاهرة سلمية، وشارك منشوراً لدى شقيقه الآخر به صورة لفلسطيني يتم ضربه على حدود غزة، وسألته الشرطة حول هذين الأمرين، فقال إنه يحاول أن يقيم علاقة وتواصل بينه وبين إخوته من خلال هذه المشاركات

وأضاف أن علاقته بجيرانه كانت جيدة للغاية إلا أن نظرتهم له تغيرت بعد مداهمة الشرطة منزله، وأن زوجته أصبحت تشعر عند خروجها من المنزل بأنها غير آمنة ومنبوذة. ولفت إلى أنه قدم إلى النمسا لكي يعيش بأمان وبحرية وأنه أحبها مثل وطنه وأنه لم ولن يشارك في أي عمل يضر بها.

“الشرطة النمساوية تسببت في فصلي من العمل”

وأوضح أنه يعمل منذ سنوات في شركة معروفة جيداً في النمسا ويكسب رزقه بنفسه ولم يحصل على أي دعم مادي من الدولة، إلا أن الشرطة أرسلت رسالة إلى محل عمله تقول: “لا يمكن لهذا الشخص أن يعمل هنا”، وبناءً عليه تم فصله من العمل.

وأشار إلى أن الشرطة أخبرته بأنه يمكن أن يسحب من أرصدته التي تم تجميدها ما يكفي لسد احتياجاته الأساسية ودفع إيجار المنزل والفواتير المستحقة عليه، إلا أنه فوجئ عند ذهابه للبنك بأنه غير مسموح له بسحب أي مبالغ. وأضاف أنه أصبح غير قادر على تلبية الاحتياجات الأساسية لطفلته ولا متطلباته الإنسانية.

أما ل. أ زوجته فقالت إن بعض عناصر الشرطة ظلوا في المنزل بعد أن اقتادوا زوجها لمقر مديرية الأمن، وأن أفراد الشرطة أجبروها على المكوث في مكانها لمدة طويلة دون أي حركة، لدرجة أنها كانت تذهب إلى الحمام والسلاح موجه نحوها

وأضافت أنها لم تكن تتوقع أن تعيش موقفاً كهذا في النمسا، وأنها أصبحت تتذكر كل ما مرت به كلما رأت أفراد الشرطة في الشارع، وتفزع عند سماع أي صوت منذ ذلك اليوم.

وأوضحت ل. أ أنهم يعانون من مشاكل نفسية بسبب الصدمة التي عاشوها، وأن طفلتها ذات الثمانية أشهر توقفت عن الرضاعة منذ ذلك اليوم. وأضافت أنها لم تتمكن من التواصل مع عائلتها في فلسطين لمدة خمسة أيام بسبب قيام الشرطة بمصادرة هواتفهم وحاسبهم الآلي ونقودهم.

وتابعت: “اتصلت بعائلتي لأول مرة بعد خمسة أيام وكانوا قلقين ويبكون ويسألون عما حدث لي فأخبرتهم بأن هاتف زوجي قد تعطل ولذلك لم أتمكن من الاتصال بهم. ولم يطمئنوا إلا عندما تحدثنا عبر  الفيديو”. وأشارت إلى أنها قالت للشرطة عندما داهمت المنزل إنها عاصرت أربعة حروب في فلسطين ولكنها لم تشهد وحشية وهمجية مثل تلك.

وفي 9 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي نفذت الشرطة النمساوية مداهمات على 60 منزلاً بتهم تشكيل كيان إرهابي وتمويل الإرهاب وتبييض الأموال. وتم توقيف 30 ناشطاً وأكاديمياً مسلماً ثم تم إطلاق سراحهم بعد ذلك عقب انتهاء التحقيقات. وقوبل الحدث بردود فعل غاضبة من عدد من السياسيين والإعلاميين وأوساط مختلفة من المجتمع النمساوي.

وطالب الكثير من الكُتاب والصحفيين ومؤسسات المجتمع المدني الشرطةَ بالتوقف عن هذه الممارسات التي لا تتفق مع أبسط معايير حقوق الإنسان الفردية والجماعية ولا يقرها الدستور النمساوي

 

 

شاهد أيضاً

“الإمبراطور الأبيض”.. مقاتلة الجيل السادس الصينية المصممة للهيمنة على السماء والفضاء

تشهد المنافسة بين الصين والولايات المتحدة تصعيداً ملحوظاً في العديد من المجالات، من أبرزها التسابق …