إجراءات الأمن التي اتخذتها السلطات الأمريكية استعداداً لتنصيب جو بايدن حوَّلت واشنطن إلى ثكنة عسكرية، ورغم ذلك يحذر خبراء التطرف من أن القادم أسوأ في ظل استعدادات أنصار دونالد ترامب لحرب طويلة المدى
قبل ثلاثة أيام فقط من موعد تنصيب الرئيس الديمقراطي جو بايدن يوم 20 يناير/كانون الثاني الجاري، تحولت العاصمة الأمريكية واشنطن إلى ثكنة عسكرية مع انتشار نحو 20 ألف عنصر من الحرس الوطني فيها لتأمين مبنى الكابيتول، وهو المشهد الموجود أيضاً في عواصم ولايات أخرى ومدن رئيسية، وسط مؤشرات مقلقة للغاية على أن أنصار ترامب من جماعات اليمين المتطرف يستعدون للمواجهة بصورة علنية ومفتوحة.
هل كان اقتحام الكونغرس ضربة البداية فقط؟
وعلى الرغم من الغضب العارم الذي ساد الولايات المتحدة بعد صدمة الأربعاء الأسود أو يوم 6 يناير/كانون الثاني الجاري عندما اقتحم أنصار ترامب مبنى الكونغرس أثناء انعقاد جلسة التصديق على فوز جو بايدن واحتلوا المبنى بالفعل لعدة ساعات، وهو ما أدى إلى سقوط قتلى وجرحى، إلا أن تداعيات ذلك اليوم قد أثارت مزيداً من القلق على مستوى البلاد.
صحيح أن ترامب أصبح منبوذاً تماماً وصوَّت مجلس النواب على إجراءات عزله للمرة الثانية بعد أسبوع فقط من اقتحام الكونغرس، وصحيح أيضاً أن ترامب المحاصر وغير القادر على التواصل مع أنصاره أو غيرهم بعد حظر جميع حساباته على منصات التواصل الاجتماعي قد سجَّل أكثر من مقطع فيديو أدان فيها اقتحام الكونغرس وتوعَّد بمحاسبة المتورطين فيه، على الرغم من أنه قام بتحريضهم من الأصل، لكن الواضح الآن أن ما حدث في ذلك اليوم لم يكُن مجرد خطة مدبرة لتنفيذ انقلاب على نتائج الانتخابات وانتهى الأمر بالفشل.
“مؤامرات الغد يتم التحضير لها اليوم”، عبر نائب رئيس مركز التطرف الأمريكي أورين سيغال عن الموقف الحالي بتلك العبارة لشبكة CNN. فعلى الرغم من إحاطة مبنى الكابيتول بالأسلاك الشائكة والقوات المدججة بالسلاح حتى لا تتكرر أحداث الأربعاء الأسود، عبر خبراء عن قلقهم من أن اقتحام الكونغرس ربما يكون قد أزاح الستار عما قد تحمله ليس فقط الأيام القليلة المقبلة، بل أيضاً على المدى الطويل.
وتؤكد تلك المخاوف أنه عندما تمت السيطرة على أحداث اقتحام الكونغرس خلال ساعات واستئناف جلسة التصديق على فوز جو بايدن بالرئاسة، بدا أن ما شهدته واشنطن العاصمة كان رقصة أخيرة من أنصار ترامب سرعان ما انتهت رغم الفوضى والدماء التي سالت.
لكن الأحداث التي كشفت عنها الأيام التالية وصولاً إلى ما يحدث الآن تشير إلى أن ما حدث في ذلك اليوم ربما لا يكون سوى بداية سلسلة من الاحتجاجات والعنف لا أحد يمكنه التنبؤ بما قد تؤدي إليه في بلد يشهد انقساماً لم يمر به منذ أكثر من قرن ونصف.
قلق من حظر تويتر لترامب وبعض أنصاره
وعبر الخبراء كذلك عن قلقهم بشأن تصاعد الرسائل الداعية لتوحيد من يشعرون بالظلم بسبب ادعاءات تزوير الانتخابات من جانب من يتولون السلطة أو النظام السياسي بشكل عام أو شركات التكنولوجيا الكبيرة مثل فيسبوك وتويتر وجوجل، ومنبع القلق هنا ليس فقط من جانب الميليشيات اليمينية المتطرفة والمسلحة الداعمة لترامب، ولكن أيضاً من حقيقة أن حظر حسابات ترامب والآلاف من أنصاره على منصات التواصل الاجتماعي قد أدى إلى تعاطف آخرين معهم.
وهذه النقطة قد أدت، بحسب الخبراء، إلى زيادة مطردة في أعداد المتطرفين المستعدين للعنف لأنهم مقتنعون بأن السلطة قد سُرقت منهم وأنه لا بد من القتال من أجل إعادتها للشعب، بحسب ما وقر في أذهان هؤلاء المتطرفين الذين يرون أنفسهم وطنيين حقيقيين.
وقد انتقل البعض من هؤلاء من المنصات الشهيرة مثل فيسبوك وتويتر إلى منصات أخرى يمينية مثل بارلور وغرف الدردشة الأخرى التي أصبحت فضاءً نشطاً للتجنيد والتجييش.
وفي ظل هذه المعطيات، يصف سيغال اقتحام الكونغرس بأنه كان “لحظة ميلاد” ويقول إنها سيكون لها تأثير ضخم أكبر حتى مما يطلق عليها في أمريكا الثورات الكبرى ضد الحكومة: “هذه ليست حصار واكو وليست روبي ريدج. هذه الأحداث (اقتحام الكونغرس) أكبر بكثير من كل ذلك”.
حصار واكو أو مجزرة واكو إشارة إلى قيام رجال الشرطة الفيدرالية وقوات من الجيش والشرطة المحلية في ولاية تكساس بمحاصرة مزرعة تمترس فيها أتباع طائفة دينية تأسست في الخمسينات من القرن الماضي بزعامة ديفيد كوريش وكانوا يعتنقون فكرة نهاية العالم ومحاربة الحكومة الفيدرالية، وتسببت المواجهة التي استمرت من 28 فبراير/شباط وحتى 19 إبريل/نيسان 1993 في انقسام كبير في البلاد بين مؤيد للجماعة ورافض لها، وانتهت باقتحام القوات للمجمع الذي تمترس فيه دافيد وأتباعه.
أما روبي ريدج فهي منطقة في إيداهو شهدت حصار القوات الفيدرالية لمنزل أسرة شخص يدعي راندي ويفر في أغسطس/آب 1992 في حادثة تابعها الأمريكيون أيضاً على نطاق واسع بسبب أفكار ويفر الداعية إلى حمل السلاح في مواجهة الحكومة الفيدرالية، وفيما بعد أصبحت تلك الحادثة هي ميلاد حركات اليمين المتطرف التي نمت وتصاعدت بصورة كبيرة في ظل منصات التواصل الاجتماعي، وجاء ترامب ليعطيها زخماً وقوة غير مسبوقة.
الهدف “استعادة أمريكا”
النقطة الأخرى التي دعت خبراء التطرف الأمريكيين للتحذير من أن ما تمر به البلاد حالياً أخطر وأعمق من مجرد مجموعات من الناخبين الرافضين لنتيجة الانتخابات والمقتنعين بنظريات تزويرها فاندفعوا دون تخطيط أو حتى خططوا لاقتحام الكونغرس، هو أن الرسالة الحالية التي تتبناها المجموعات اليمينية المتطرفة تتمحور حول حتمية “استعادة أمريكا” مرة أخرى بأي ثمن، بحسب أنغيلو كاروسون، رئيس مؤسسة Media Matters for America.
كاروسون قال لشبكة CNN إن كثيراً من الأمريكيين، وإن كانوا غير منضمين تحت لواء تلك الجماعات، يعبرون عن اقتناعهم بأن الانتخابات تم تزويرها لصالح بايدن، مضيفاً أن مؤسسته رصدت ما يشبه الهجرة الجماعية من المنصات التقليدية كتويتر وفيسبوك إلى ارتفاع صاروخي في نشاط بارلور وبصورة أقل تطبيق تليغرام، حيث نشطت الجماعات المتطرفة هناك سعياً لاستقطاب أعضاء جدد.
وتشهد تلك الفضاءات أنشطة متصاعدة واستقبال أكثر تصاعداً لرسائل العنصريين البيض المليئة بالكراهية ضد كل من هو ليس “أمريكياً حقيقياً” بحسب توصيفهم، مع تزايد الدعوات لتوحيد الجهود من أجل استعادة أمريكا مرة أخرى، وبالطبع يقود أنصار ترامب المتطرفون تلك المحادثات بصورة أو بأخرى.
ورأى خبير ثالث هو مايكل إديسون هايدن أنه في ظل التكثيف الأمني غير المسبوق في واشنطن ربما يكون تنصيب بايدن أكثر أمناً مما كان عليه الكونغرس يوم الأربعاء الأسود عندما اقتحمه أنصار ترامب، لكن ذلك لا يمنع أن الرافضين للنتيجة قد يصبون غضبهم نحو مقار البرلمان في الولايات. وقد أعلنت ولاية تكساس بالفعل إغلاق مقر برلمانها من أمس السبت وحتى ما بعد تنصيب بايدن يوم الأربعاء 20 يناير/كانون الثاني، بعد اكتشاف أسلحة ومتفجرات وضعها أنصار ترامب في محيط المبنى.
لكن يظل الخطر قائماً حتى بعد انتهاء التنصيب هذا الأسبوع، وهذه النقطة هي ما تقلق الخبراء أكثر من غيرها، فرسائل الكراهية والانقسام مستمرة عبر الإنترنت وحتى عبر وسائل الإعلام التقليدية من خلال المروجين لنظريات تزوير الانتخابات أو المحللين بشكل عام، وقال سيغال: “نحن لا نحتاج إلى مزيد من الحذر من هؤلاء الساعين لإشعال حرب أهلية حتى يوم التنصيب، بل علينا أن نكون أكثر حذراً بعد يوم التنصيب”.