في زمن تتكالب فيه النكبات على الأمة، ويُذبح الأطفال في غزة أمام عدسات العالم، يخرج علينا الداعية السلفي المصري ياسر برهامي ليفتي – بوجه بارد وضمير غائب – بأن مقاومة الاحتلال لا تجوز، وأن قادة حماس “يعانون من خلل نفسي”، وكأن الدم الفلسطيني مباحٌ إلا بإذن “الشرع الرسمي”!
برهامي، الذي طالما تغنى بخطاب ديني محافظ، يبدو اليوم وكأنه الناطق باسم جيش الاحتلال، لا رجل دين يُفترض أن يكون في صف المظلوم لا الظالم. تصريحه بأن معاهدة كامب ديفيد تُحرّم الصدام مع إسرائيل ليس سوى إعادة تدوير لفكر الخنوع العربي، ولكن مغلفًا هذه المرة بعباءة “الشرع”، وكأن القرآن لم يقل: “وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين”.
الجهل المركب في الخطاب السلفي
هذه ليست زلة لسان. هذا امتداد طبيعي لخطاب ديني مفرغ من قيم العدالة والكرامة، لا يرى في الدين إلا طاعة ولي الأمر، وإن تحالف مع الشيطان. السلفية التي يمثلها برهامي ترفض العقل، تجرّم الاجتهاد، وتُقدّس النصوص المجتزأة، فتُخرج الفتاوى كالرصاص في ظهر الأمة.
من أين جاء برهامي بفقه يُحرم مقاومة الاحتلال ويُجيز تهجير أهل غزة إلى “أراض أخرى”؟! أليست هذه فتاوى الاحتلال نفسه؟ هل تحوّل الدين إلى أداة لشرعنة الاستسلام؟ وهل صار الصمت على المجازر فريضة، والمقاومة بدعة؟!
مفتي بلا شرف الموقف
في الوقت الذي تصرخ فيه أمهات غزة من تحت الركام، لا يجد برهامي ما يقوله سوى “الخلل العقلي هو ما يدفع للمواجهة”! بل ويُحذّر من “دفع الأمة إلى المهالك باسم المقاومة”. أي مهلكة أعظم من مهلكة الذل؟! أي فقه هذا الذي يبرر الخنوع ويجرّم الدفاع؟!
الخطير في هذه التصريحات أنها ليست رأيًا شخصيًا فحسب، بل تعبير عن مدرسة كاملة تُفرغ الدين من بُعده التحرري، وتجعل من الطغاة والأعداء شركاء في الفتوى.
خاتمة: حين يتماهى الفقيه مع المحتل
برهامي لم يكن أول من خان النصوص باسم النصوص، لكنه من أوضحهم صوتًا في هذا الزمن الرديء. لم يصدر عنه اعتذار، ولم يبرر، لأن ما قاله يعكس قناعة راسخة لا زلة عابرة. وهنا يكمن الخطر.
بينما يعلو في غزة صوت التكبير فوق الأنقاض، يُرفع في بعض منابر القاهرة صوت التثبيط والتكفير والتخوين، باسم الدين زورًا. فهل آن أوان أن نفضح هذا الخطاب، لا لأنه جاهل فحسب، بل لأنه خائن أيضًا؟
برهامي.. من داعية إلى ذراع أمنية
لفهم تصريحات ياسر برهامي، لا يكفي الوقوف عند النص، بل لا بد من النظر إلى السياق. فالرجل لم يكن يومًا صاحب موقف مستقل أو مناهض للسلطة، بل كان أحد أبرز الوجوه الدينية التي وفّرت غطاءً شرعيًا لأنظمة الحكم، خاصة بعد ثورة يناير 2011.
في أعقاب الثورة، تحوّل برهامي والدعوة السلفية إلى لاعب سياسي واضح، شاركوا في تأسيس حزب النور، وتحالفوا مع المجلس العسكري، ثم دعموا الانقلاب على أول رئيس مدني منتخب، وباركوا خارطة طريق عبد الفتاح السيسي، بل وأفتوا حينها بعدم جواز التظاهر ضد الحاكم “حتى لو ظلم”.
هذا التاريخ يفسر تمامًا لماذا يقف برهامي اليوم على يسار الاحتلال الإسرائيلي، لا يمينه فقط. فهو ببساطة يواصل دوره كأداة وظيفية في يد الأنظمة، يحرّف الدين ليُساير مصالح السلطة، ويُشيطن كل فعل مقاوم حتى لو كان دفاعًا عن أرض تُباد.