تشكل الخدمة المدنية اليوم في النمسا عنصراً محورياً في الهيكل الاجتماعي والدولة، متجاوزة النظرة السابقة التي اعتبرتها مجرد وسيلة للتهرب من الخدمة العسكرية الإلزامية. فقد تحول هذا القطاع ليصبح يساهم بشكل مباشر في تحسين الخدمات العامة، لا سيما في المجالات الصحية وخدمات الإسعاف والإنقاذ.
تحول نظرة المجتمع تجاه الخدمة المدنية
قبل خمسين عامًا، كان يُنظر إلى الخدمة المدنية (Zivildienst) في النمسا على أنها بديل للتجنيد العسكري، يُستخدم لتفادي التجنيد الإجباري. ومع مرور الزمن، وتطور الاحتياجات المجتمعية، اكتسبت الخدمة المدنية أهمية كبيرة في دعم البنية التحتية للدولة. وفي تصريحات وزيرة شؤون المستشارية، كلوديا بلاكولم من حزب ÖVP، أوضحت أن الخدمة المدنية لم تعد مجرد خيار معنوي، بل أصبحت عنصراً أساسياً في تقديم الخدمات الاجتماعية والصحية التي يحتاجها المجتمع.
توزيع الخدمة المدنية والقطاعات الرائدة
خلال الفترة من يناير إلى مارس 2025، سجل حوالي 12 ألف شاب في الخدمة المدنية على مستوى النمسا، مما أظهر تغطية تتجاوز الـ 90% من المواقع المتاحة. إلا أن التوزيع الجغرافي لهذه الخدمة ليس متساويًا، حيث سجلت ولاية شتايرمارك أعلى نسبة بتغطية تجاوزت 95%، بينما تواجه ولاية كارنتن تحديات واضحة مع تغطية لا تتعدى 63%.
ومن ناحية توزيع المهام، يحتل القطاع الصحي الأولوية مع خدمات الإسعاف والإنقاذ بنسبة 42%. تليها مؤسسات الرعاية الاجتماعية ودعم ذوي الإعاقة بنسبة 25%، ثم تأتي مؤسسات رعاية المسنين بنسبة 12%. هذا التنوع في المجالات يعكس مدى أهمية الخدمة المدنية في توفير يد عاملة متخصصة للمجتمع ومواجهة احتياجات المواطنين في مجالات مختلفة.
التحسين المادي والتحفيز على الانضمام للخدمة المدنية
تعتبر التطورات الأخيرة في مجال الخدمة المدنية ذات بُعدين: المعنوي والمادي. فمن الناحية المادية، تم رفع الراتب الشهري الأساسي إلى 605 يورو، أي ما يعادل زيادة تصل إلى 2,500 يورو خلال فترة الخدمة مقارنةً بعام 2022. كما يحصل المتطوعون على تعويض غذائي يومي يصل إلى 16 يورو، مما يعكس اهتمام الحكومة بتقديم حوافز لجذب الشباب للالتزام بهذه الخدمة القيمة.
وفي سياق آخر، تسعى السلطات إلى تشجيع تمديد الخدمة المدنية بشكل طوعي، خاصة لمن يرغبون في استغلال فترة الانتظار قبل بدء الدراسة الجامعية أو التدريب المهني. بينما لا تزال مسألة توسيع الخدمة الإلزامية موضوع نقاش، تركز الحكومة حالياً على خلق بيئة جاذبة تضمن تحقيق الاستفادة القصوى من تلك الخدمة دون فرضها على الجميع.
الخدمة المدنية: استثمار في مستقبل الدولة والمجتمع
تتجلى أهمية الخدمة المدنية في النمسا في دورها الحيوي في دعم الخدمات الأساسية وتحقيق التكافل الاجتماعي، مما يساهم في تعزيز جودة الحياة للمواطنين. فمن خلال هذا القطاع، تساهم الدولة في تجهيز كوادر قادرة على تلبية احتياجات المجتمع، سواء عبر تقديم خدمات الإسعاف والإنقاذ أو من خلال دعم شرائح المجتمع الأكثر عرضة للتهميش.
إن التحول في مفهوم الخدمة المدنية يعكس رؤية عميقة نحو بناء مجتمع أكثر تعاونًا وتضامنًا، حيث يُقدّر العمل الخدمي ويعتبره استثمارًا في مستقبل الدولة. وبفضل هذا التحول، تواصل النمسا تقديم نموذج ناجح لخدمة المواطنين، يعزز من قدرتها على مواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية بروح من المسؤولية والتضامن.
ونحن بدورنا نؤكد أن الخدمة المدنية في النمسا لم تعد مجرد خيار بديل، بل أصبحت ركيزة أساسية للنهضة الاجتماعية وتقديم خدمات حيوية تضمن استقرار ورفاهية المجتمع النمساوي في ظل التحديات المتزايدة.