في مشهد يُلخّص عمق المأساة الفلسطينية، لم يأتِ الهجوم الأخير على الدكتور مصطفى البرغوثي من جيش الاحتلال ولا من أذرع التطبيع، بل من داخل البيت الفلسطيني نفسه. السلطة الفلسطينية، التي كان يُفترض أن تكون حاضنة للمقاومين والمدافعين عن الحق، اختارت أن تنقضّ على أحد أبرز وجوه الصدق والنزاهة في العمل الوطني، فقط لأنه تجرّأ وقال الحقيقة.
الدكتور البرغوثي، الذي لم يساوم يومًا على ثوابت القضية، وجد نفسه فجأة هدفًا لحملة منظمة تقودها مؤسسة الرئاسة الفلسطينية، بعد كشفه لتواطؤ النظام الإماراتي مع الاحتلال في عدوانه الدموي على غزة. التصريحات التي أطلقها، والتي فرّقت بوضوح بين النظام والشعب الإماراتي، كانت كافية لإشعال أبواق السلطة، وعلى رأسها نبيل أبو ردينة، الذي سارع إلى إصدار بيان يدين البرغوثي… لا الاحتلال، ولا الإبادة في غزة، بل البرغوثي!
ويا للمفارقة: أبو ردينة نفسه كان من أوائل من انتقدوا تطبيع الإمارات مع “إسرائيل”. فهل تغيرت المبادئ، أم أن البوصلة السياسية في المقاطعة باتت تشير نحو مصالح أخرى؟
الرد الذي قدّمه البرغوثي لم يكن دفاعًا عن نفسه فحسب، بل صرخة في وجه عبث السلطة التي باتت تتعامل مع الوطنيين كخصوم، وتوزّع تهم “الإساءة” و”الخروج عن الصف” كلما تجرأ أحد على قول ما لا يروق لحلفائها.
اللافت في الأمر أن هذا الهجوم الرسمي قابله تضامن شعبي واسع، واحتضان من ناشطين وصحفيين ومدافعين عن الحق، ممن رأوا في البرغوثي آخر الأصوات النزيهة التي لم تتورط في مستنقعات التنسيق الأمني أو صفقات العار.
فما الذي يُخيف السلطة من صوت حر؟ أهو الخوف من انكشاف الغطاء؟ أم أن البرغوثي أصبح خطرًا لأنه يذكرهم بما يجب أن يكونوا عليه؟
وهل أصبح الدفاع عن غزة “جريمة سياسية”؟ وهل تحوّلت السلطة إلى جهاز رقابة لا يهمه سوى كتم الأصوات وملاحقة أصحاب المواقف المستقلة؟
في زمن تتواطأ فيه أنظمة عربية علنًا مع المحتل، وتُبنى عليه التحالفات، يصبح الهجوم على رجل مثل البرغوثي دليلاً على أن المعركة لم تعد فقط مع الاحتلال، بل مع من ارتضى لنفسه أن يكون وكيله المحلي.
بين بنادق الاحتلال وأنياب السلطة، ما يزال صوت البرغوثي عاليًا، لأنه ببساطة لا يملك إلا الحقيقة، ولا يرضى إلا بالحق. وفي هذا الزمن المسموم، هذا وحده يكفي ليجعلك عدوًا.
من رام الله إلى أبوظبي: حين تصبح مقاومة الاحتلال تهمة!
في وقتٍ تُباد فيه غزة على مرأى العالم، وتُقصف البيوت على رؤوس ساكنيها، خرج صوت وطني ليقول الحقيقة: الدكتور مصطفى البرغوثي، الذي حمل القضية في قلبه ولسانه منذ عقود، اتّهم النظام الإماراتي بالتواطؤ مع الاحتلال في جرائمه ضد القطاع. وما كان من السلطة الفلسطينية إلا أن هبّت… لا للدفاع عن غزة، بل للهجوم على الرجل!
الناطق باسم الرئاسة، نبيل أبو ردينة، تصدّر حملة الهجوم، مدينًا تصريحات البرغوثي ومعتبرًا أنها “إساءة” لدولة الإمارات. هذا الموقف الرسمي أثار ذهولًا واسعًا، خصوصًا أن أبو ردينة نفسه كان أحد أشدّ المنتقدين لتطبيع الإمارات مع الاحتلال قبل سنوات، فمتى غيّرت السلطة جلدها؟ ومتى أصبحت الحاضنة الرسمية لتبييض صفحات المطبعين؟
السلطة ومواسم المبادئ: تناقض صارخ
المفارقة ليست في الهجوم ذاته، بل في التوقيت والدوافع. فالسلطة الفلسطينية، التي تصمّ آذانها عن المجازر اليومية في غزة، وتبدو عاجزة عن اتخاذ موقف حقيقي في مواجهة الاحتلال، قررت أن تُجنّد إعلامها وبياناتها الرسمية لملاحقة صوت وطني مستقل.
كيف تفسّر هذه السلطة دفاعها المستميت عن نظام عربي اختار الاصطفاف مع “إسرائيل”، في الوقت الذي تصف فيه نفسها بـ”القيادة الشرعية” للشعب الفلسطيني؟ وهل باتت تصرفاتها تعكس إرادة وطنية، أم حسابات ضيقة مرتبطة بمصالح مالية وسياسية؟
إن هذا التناقض ليس جديدًا، بل يفضح ما بات يعرف بـ”سياسة الكيل بمكيالين” التي تنتهجها السلطة: تهاجم من يكشف علاقات التطبيع، لكنها تصمت أمام طائرات “إسرائيلية” تحلّق في أجواء الخليج، أو مليارات تصب في استثمارات الاحتلال.
الإمارات: من التطبيع إلى الشراكة الأمنية
هجوم البرغوثي لم يأتِ من فراغ، بل استند إلى حقائق باتت معروفة للجميع. فالإمارات لم تعد فقط دولة طبّعت مع الاحتلال، بل تحوّلت إلى شريك أمني وسياسي علني له، بدءًا من صفقات الأسلحة، مرورًا بالتعاون الاستخباراتي، وصولًا إلى تسويق الرواية الصهيونية في الإعلام العربي.
وفي هذا السياق، يبدو صمت السلطة الفلسطينية – بل وتغطيتها على هذا التواطؤ – ليس مجرد تجاهل، بل تورطًا صريحًا. فبدلًا من الوقوف إلى جانب من يكشف هذا الانحدار العربي، اختارت رام الله الوقوف في صف المال السياسي، حتى لو كان على حساب الدم الفلسطيني.
الإعلام الرسمي… بوق من؟
المتابع لخطاب الإعلام الرسمي الفلسطيني يلاحظ تغيّرًا مثيرًا: تحول من صوت مقاوم إلى نسخة رمادية من البيانات الدبلوماسية الفارغة. فحين يُقصف أطفال غزة، يكتفي الإعلام الرسمي بالإشارة إلى “الوضع الميداني”، لكن حين ينتقد أحدهم الإمارات، تشتعل النشرات الإخبارية وتُجهّز الاستوديوهات للهجوم.
فهل أصبحت الرواية الوطنية تُحدَّد من أبو ظبي؟ وهل باتت برامج السلطة تُدار بروح الاسترضاء لا المقاومة؟
لماذا يخيفون من البرغوثي؟
مصطفى البرغوثي ليس مجرد شخصية سياسية. هو رمز للاستقلالية، ورجل نزيه لم يلوّن مواقفه بحسب العواصم. وهو ما يزعج السلطة التي تعوّدت على نمط “القيادات المطيعة”. فالبرغوثي لا يساوم، ولا يهادن، وهو بذلك يشكّل خطرًا على تركيبة تخشى كل ما هو مستقل أو صادق.
الهجوم عليه لم يكن بسبب ما قاله فقط، بل بسبب ما يُمثّله: نموذج القائد الفلسطيني الذي لا يُباع ولا يُشترى، والذي بقي منحازًا لوجع الناس، لا لمكاتب البروتوكول.
الشارع قال كلمته: مع البرغوثي
وسط سخط شعبي متصاعد على أداء السلطة، وجد البرغوثي دعمًا واسعًا من الشارع، من الصحفيين، من النشطاء، ومن كل من يعرف أن الكلمة الحرة باتت عملة نادرة في مشهد سياسي ملوّث.
الناس لا تنسى من وقف مع غزة، ومن تماهى مع الاحتلال. ولا تنسى من يحاول إسكات الوطنيين، ومن يحاول شراء المواقف بمقاعد ومنح ووعود.
https://twitter.com/i/status/1911029062274785577