قبلة السوريين بعد التحرير.. كيف أصبحت “إدلب الخضراء” مركزاً سياحياً بعد أن كانت “مدينة منسية”؟
“هذه ليست دبي، بل إدلب الخضراء”، عبارة تتكرر اليوم على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي في سوريا، عند الحديث عن محافظة إدلب أو مدينة “إدلب الخضراء”، التي بقيت لسنوات معزولة عن غيرها من المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة نظام بشار الأسد قبل تحرير البلاد.
فبعد تحرير دمشق أو الشام كما يحلو لأهلها تسميتها، وهروب بشار الأسد، فُتحت أبواب محافظة إدلب على مصراعيها أمام السوريين الموجودين تحت حكم الأسد، فأثارت دهشتهم بحلّتها الجديدة بعدما كانت تسميتها السائدة لسنوات سابقة قبل الثورة “المدينة المنسية”.
وُصفت بذلك بسبب ما عاشته محافظة إدلب من إهمال فرضه عليها الرئيس الأسبق حافظ الأسد، الذي تعرّض للرشق بالبندورة خلال زيارته اليتيمة لها في سبعينيات القرن الماضي، ثم تعمق هذا الحقد الأسدي عليها بعد مشاركتها في أحداث الثمانينيات.
كان ذلك كفيلاً بالحكم على إدلب وأهلها بالمزيد من التهميش والإهمال، وازداد الأمر أكثر بعد اندلاع الثورة عام 2011، فعزلها نظام بشار الأسد المخلوع عن بقية المدن السورية وأرسل إليها كل معارضيه، دون أن يتردد في قصفهم طيلة الوقت.
رحلات يومية في اتجاه محافظة إدلب
لكن اليوم تغيّر هذا الأمر، فالمدينة المحاصرة بدت أفضل حالاً من العاصمة، ولهذا قرر سكان دمشق التوجه للمحافظة الثائرة والتعرف عليها، وبدأت تنطلق الرحلات السياحية بشكل يومي لاستكشاف “إدلب الخضراء” التي تبعد بنحو 323 كيلومتراً.
من بين الرحلات المتوجهة إلى إدلب تلك التي تُنظمها السيدة آلاء ببيلي، التي انشغلت بتجهيز برنامجها الأسبوعي الممتلئ، فالكل يريد الذهاب إلى إدلب والتسوق من مراكزها التجارية، في رحلة قصيرة مدتها يوم واحد، تنطلق في الصباح وتنتهي في المساء، كما تؤكد ببيلي.
من العاملين في المكتب، نور الدين عباس، وهو شاب جامعي في مطلع العشرينيات، ينحدر من منطقة عربين التي عصت النظام خلال الثورة فعاقبها بالقصف والتهجير. أخبرنا هذا الشاب بأن الحرب فرقته عن أقاربه الذين سافروا إلى إدلب، لهذا اتجه فوراً إلى هذه المحافظة بعد تحرير دمشق.
رحلة نور الأولى نحو إدلب لم تكن سهلة، فالطريق يومها كان شديد الازدحام، وأثار انتباهه انتشار الملابس العسكرية والأسلحة الملقاة على الطريق وأيضاً بعض الجثث. ولكن هذه المظاهر تراجعت خلال طريق العودة إلى دمشق.
وبهدف تنظيم رحلتهم السياحية، كرر نور زيارته لإدلب التي رآها بعيون مختلفة هذه المرة، وقال لـ”عربي بوست”: “المكان جيد بالتأكيد، ولكنه ليس دبي كما يُشاع”. ومن أبرز الأمور التي لفتته الكهرباء المستمرة طيلة اليوم، والأبنية الحديثة والمولات الضخمة، فضلاً عن سرعة الإنترنت الكبيرة وانتشاره الواسع.
ما الذي يميز “المدينة الخضراء”؟
من اللاذقية انطلق الصديقان صلاح الرملي وأحمد موسى، وهما من أعضاء جمعية “أصدقاء الطبيعة” المهتمة بالبيئة. ومن ضمن مهامها تنظيم رحلات داخل سوريا، وتمكنوا خلال سنوات الحرب من تنظيم رحلات بالمناطق الخاضعة للنظام السابق، وبعد تحرير البلاد قرروا العودة إلى إدلب التي يعرفونها وزاروها سابقاً عدة مرات.
يصف صلاح رحلته إلى إدلب بأنها كانت جيدة، واستغرقت معه حوالي الساعة والنصف، ولم يتعرضوا لأي مضايقات. ويقول في حديثه لـ”عربي بوست”: “أجمل ما فيها عدم الوقوف على أي حاجز، إذ لم أضطر لإخراج هويتي الشخصية من محفظتي، على عكس ما كان يجري خلال فترة الثورة عند المرور على حواجز النظام”.
توجه الصديقان صلاح وأحمد في رحلتهما إلى سرمدا والداما، ويؤكد صلاح ما أجمع عليه الكثير من السوريين بأن هاتين المنطقتين مختلفتان عن الداخل السوري، حيث تنتشر المولات والبضائع الأجنبية ذات الأسعار المنخفضة مقارنة باللاذقية، فضلاً عن التشكيلة الواسعة.
وفي طريق العودة عرجا على إدلب المدينة، والتقى صلاح بصديق له لم يره منذ سنوات وتناولوا “الشعيبيات” الشهيرة. ويوضح صلاح لـ”عربي بوست” أن المدينة تُعتبر بسيطة، ولا يوجد فيها شيء مميز باستثناء الكهرباء والإنترنت المتوفرة طيلة الوقت مجاناً في بعض المناطق.
بينما أثار انتباه صلاح خلال زيارته إلى إدلب التعامل اللطيف الذي لمسه من أهل المدينة، ويستشهد بما قدموه له من مساعدة للتمكن من الاتصال بشبكة الإنترنت، باعتبار أن الشبكات السورية لا تعمل هناك.
الزيارة الموفقة دفعت أحمد، وهو مدير عام مؤسسة “أصدقاء الطبيعة”، للتخطيط لتنظيم رحلة تسوق إلى إدلب. وبمجرد إعلانه عنها عبر صفحة المؤسسة في فيسبوك، انهالت التعليقات الإيجابية، ونجح في تأمين حوالي خمسين مشاركاً سيتجهون جميعاً إلى المحافظة الخضراء يوم الجمعة 27 ديسمبر/كانون الأول 2024.
وعن رأيه بما شاهده في إدلب، يقول أحمد: “تشعر بأنك في بلد ثانٍ، ولست في سوريا”. ولم يكن يقصد أن الناس يتعاملون بالعملات غير السورية فقط، أو أنهم يستخدمون شبكات اتصالات غير المعروفة في مناطق النظام، ولكنه قصد أيضاً المولات الفخمة والمنتجات الأجنبية، وتوفر الكهرباء والإنترنت السريع.
كما أثار انتباه مدير عام مؤسسة “أصدقاء الطبيعة” حالة الأمن في إدلب، والتي تناقضت مع الصورة التي زرعها النظام السابق لسنوات بأن أهالي إدلب “سيذبحون سكان الساحل”، على حد قوله.
ويخطط صلاح لرحلة تشمل المواقع الطبيعية الموجودة في محافظة إدلب في جسر الشغور ودركوش وغيرها، وبرأيه أن هذه المحافظة تملك الكثير من المناظر الطبيعية المميزة التي تستحق الزيارة.
صدمة أهل إدلب من الوضع في دمشق
بينما هبّ السوريون لزيارة إدلب، قرر سكان هذه المحافظة، وخاصة القادمون من مناطق أخرى، العودة إلى ديارهم وزيارة الأهل بعد سنوات من التهجير، لكن الانطباعات كانت محزنة، إذ صدمهم ما آلت إليه دمشق وحلب وبقية المحافظات، كحال أحمد الشالط، الذي أكد أنه لن يستطيع في الفترة الحالية العودة إلى دوما والاستقرار فيها.
الشالط غادر دوما في الباصات الخضراء التي حملت آلاف العائلات من مختلف مناطق النظام وجمّعتهم في محافظة إدلب. وخلال السنوات الفائتة لم يكن باستطاعة الشالط ومن خرج معه العودة إلى مدينته، ولا رؤية من بقي من أقاربه. ولكن بمجرد زوال الأسد قرر العودة، وكان يحلم برؤية منزله وحيّه وجيرانه، فصدم بما رأى.
يشرح الشالط لـ”عربي بوست” الوضع السيء الذي شهده، فمنزله الذي تهدم خلال الحرب لم يجد من يُعيده للوقوف ثانية على رجليه، وغالبية من كان يعرفهم انتشروا في أحياء دمشق أو خارج البلاد. أما من بقي منهم، فهم يعانون الأمرّين في إضاءة خافتة تعمي العيون، أو يمضون بقية يومهم في البحث عن لقمة العيش.
ويؤكد الشالط أن سعادته لا توصف لأنه عاش هذا اليوم الذي عاد فيه إلى بيته، ورأسه مرفوع بعدما خرج مجبراً في “باصات الذل”، كما وصفها. ويضيف بأنه لن يتمكن من الاستقرار في دوما في الوقت الحالي على أقل تقدير، وستبقى بالنسبة له مكاناً يزوره بين الحين والآخر.
لا يختلف كلام الشالط عما وصفه الكثيرون ممن عادوا من إدلب إلى المناطق المحررة، خاصة ممن وجدوا منازلهم مدمرة وأحيائهم منكوبة، كحال زاهر العمر، العائد إلى منطقة جوبر بعد سنوات من التهجير. فهذه المنطقة القريبة من دمشق سويت تقريباً على الأرض، ولم يبقَ فيها أبنية قائمة إلا ما ندر.
والأسوأ من ذلك أن النظام السابق منع سكان جوبر من العودة لها حتى بعد خروج المعارضة منها، ولكن هذا الواقع المرير لم يمنع زاهر من الاستمتاع بالنصر وتحرير دمشق، ويقول: “لطالما أحببت دمشق واشتقت لها، ومهما كان وضعها الحالي فهي جميلة جداً”.