في سياق تنامي الخطاب المعادي للإسلام والمسلمين في فرنسا، وتصاعد أصوات اليمين المتطرف المنادية بالتضييق على قيمهم تحت ذريعة “صون قيم الجمهورية”، تواجه مؤسسة “الكندي”، آخر المدارس الإسلامية في فرنسا، مستقبلاً غامضاً بسبب انتقادات تتعلق بمدى توافق مناهجها التعليمية مع قيم الجمهورية.
تأسست مدرسة الكندي الخاصة، الواقعة في منطقة ديكين-شاربيو قرب مدينة ليون، عام 2007، وتعد واحدة من أبرز المدارس الإسلامية في فرنسا، كما تُعتبر مؤسسة تعليمية مميزة بفضل نتائجها الأكاديمية الممتازة واحتلالها مراكز متقدمة على مستوى الجمهورية.
ولعل استقطابها أكثر من 600 طالب في 22 فصلاً دراسياً خلال العام الجاري دليل يؤكد هذا الأمر، لكن، ورغم ذلك، تواجه المدرسة اليوم تحديات إدارية ومالية تهدد استمرارها. ويأتي هذا بعد أشهر من فقدان مدرسة ابن رشد في مدينة ليل عقدها مع الدولة للأسباب نفسها.
في 3 ديسمبر/كانون الأول 2024، أعلنت إدارة مقاطعة “الرون” أنها بصدد النظر في إنهاء العقد بين الدولة ومجموعة “الكندي”، التي تضم مدرسة ابتدائية وإعدادية. إذ من المقرر عقد اجتماع للجنة التنسيق الأكاديمية في 12 ديسمبر للبت في هذا الأمر.
هذه الإجراءات تستند عادةً إلى مراجعات حكومية تشمل المواد التعليمية وإدارتها، والانتقادات الموجهة غالباً ما تركز على مزاعم تخص “الرموز الدينية” والمناهج، خصوصاً بعد تفتيشات ركزت على مواضيع مثل التعددية الدينية وقضايا حقوقية حساسة.
تتضمن ما وجهته المحافظة للمجموعة التعليمية تهماً بوجود كتب “مثيرة للريبة” تم العثور عليها في مكتبة المدرسة خلال عمليات التفتيش المفاجئة، وتطبيق قواعد صارمة للزي المدرسي الخاص بالإناث، إضافة إلى آراء أحد المعلمين الذي قد يكون دعم أئمة طُردوا من فرنسا عبر قناته على “يوتيوب”.
كما يزعم المراقبون وجود لبس وغموض بين الأموال التي تستفيد منها المدارس الإسلامية في فرنسا، والتي يربطها عقد بالدولة وتلك التي لا تملك عقداً.
“استهداف ممنهج” للمدارس الإسلامية
تطبق فرنسا قواعد متشددة على المدارس الخاصة المتعاقدة مع الدولة، خاصة الإسلامية منها، والتي تحصل على تمويل حكومي مقابل شرط الالتزام بمبادئ الحياد العلماني وعدم التمييز بين الطلاب على أساس الدين أو الجنس.
ومع ذلك، يجد كثير من هذه المؤسسات، مثل الكندي، نفسه في مواجهة مباشرة مع السلطات تحت ذريعة تعزيز قيم الجمهورية والاندماج.
وطالما أثار سياسيون وأكاديميون انتقادات بشأن مواجهة المدارس الإسلامية عمليات تفتيش وضغوطاً تفوق تلك التي تعرفها المدارس الخاصة الأخرى، مما يثير شعوراً بـ”الاستهداف الممنهج”، وفقاً لاتحادات تعليمية مثل “FNEM”.
وغالباً، كما في حالة مدرسة الكندي، تُستخدم للرد على تلك الاتهامات ذرائع مرتبطة بالتمويل الخارجي، إذ يقول بعض المسؤولين والمنتخبين من اليمين المتطرف إن المؤسسة تلقت دعماً مالياً من جهات أجنبية. وفي حال إلغاء العقد مع الدولة، ستفقد المدرسة الدعم المقدم لها، مما قد يؤدي إلى إغلاقها عملياً.
معارضة واسعة لتهديدات لجنة المراقبة
قبل أيام من صدور قرار اللجنة، أبدت جهات كثيرة دعمها للمؤسسة وتضامنها مع أطرها، معتبرة أن ذلك من شأنه ضمان توفير تنوع العرض التعليمي في فرنسا، حيث تتيح المدارس الخاصة الإسلامية بديلاً تعليمياً يحترم قيم الأسر المسلمة ويتلاءم مع مبادئها.
في هذا السياق، دعا المجلس الإقليمي لمساجد منطقة “الرون” إلى دعم آخر المدارس الإسلامية في فرنسا، مؤكداً أهميتها في تقديم تعليم عالي الجودة يحترم قوانين الجمهورية الفرنسية.
من جانبهما، أدان نائبان من منطقة الرون، ينتميان إلى حركة “فرنسا الأبية” (LFI)، “بشدة” المعاملة التي تعرضت لها المؤسسة، في “سياق استهداف ممنهج للمؤسسات الإسلامية وفي جو إعلامي-سياسي معادٍ للإسلام”.
واستحضر النائبان، إدير بومرتيت وعبد القادر لحمر، حالة مدرسة “أفيرو” في ليل، التي تعرضت لفسخ مفاجئ لعقدها، “بعد إجراء تم التشكيك في صحته من قبل إدارتها ومنظمات الدفاع عن الحريات العامة”، وأعربا عن دعمهما لمجموعة مدارس الكندي.
ازدواجية المعايير في فرنسا
البرلمانيان أضافا أنه “على الرغم من أن الدولة لها الحق الكامل في مراقبة المؤسسات الخاصة التي تعمل بعقد مع الدولة، وأن تفضيلنا السياسي يميل إلى التعليم العام، إلا أن تهديد فسخ عقد الشراكة غير متناسب مع الوقائع الموجهة ضدها”.
وأشار النائبان إلى أنه “في نفس الوقت، هناك بعض المؤسسات الخاصة الأخرى التي تنتمي إلى ديانات مختلفة تفلت من هذه الرقابة الصارمة والتهديدات بفسخ عقد الشراكة”.
وساق بومرتيت على حسابه بموقع التواصل الاجتماعي “إكس” حالة مدرسة “ستانيسلاس” الخاصة الكاثوليكية التي تم التعامل مع قضيتها بشكل غير عادل مقارنةً بمدرسة “أفيرو”.
من ناحية أخرى، أكد النائبان أنهما وجها إلى المحافظة الإقليمية، فابيان بوشيو، ورئيس الأكاديمية في ليون، أوليفييه دوغريب، رسالة تحذر من هذه الوضعية المقلقة، لكنها “لم تلقَ ردّاً حتى الآن”.
وذكرا أنه يجب أن يكون “التعامل مع مجموعة مدارس الكندي من قبل الدولة والمحافظة محايداً ويتوافق مع المبادئ الجمهورية”. وأكدا أنهما سيبقيان “متحمسَين في الأسابيع المقبلة ويراقبان تصرفات المحافظة في هذا الملف”.
“خطر وشيك” يهدد الجالية المسلمة
بناءً على دعوة من جمعية أولياء الأمور، تم تنظيم وقفة احتجاجية لدعم المؤسسة يوم السبت 7 ديسمبر/كانون الأول 2024 أمام المدرسة، نادت بضرورة العدول عن سحب عقد الشراكة الذي يمكّن المدرسة من الاستمرار في عملها.
وخلال مؤتمر صحافي عقده مجلس إدارة المؤسسة الجمعة للدفاع عن نفسها ضد ما وصفته بـ”الإخفاقات الجسيمة” التي تم تحديدها أثناء عمليات التفتيش من قبل المفتشية الأكاديمية، أكد المسؤولون أن الأمر يتعلق بأخطاء بسيطة، وأنهم يعتبرون أنفسهم ضحايا لجو من انعدام الثقة من قبل السلطات تجاه الجالية المسلمة في فرنسا.
في السياق ذاته، وصف المحامي وأحد مؤسسي مدرسة “الكندي”، عبد الحكيم شيرقي، الوضع بأنه يمثل “خطراً وشيكاً”. وأشار إلى أن المدرسة الثانوية، المرتبطة بعقد رسمي منذ 17 عاماً، تم تصنيفها في المرتبة الثالثة من حيث الجودة على مستوى فرنسا من قبل مجلة “L’Étudiant” في عام 2022.
كما أشار شيرقي إلى أن 53٪ من الطلاب يحصلون على منح دراسية، مما يجعلها مساهماً في تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية.
من جهة أخرى، اعتبر المحامي أن الاتهامات الموجهة إلى المجموعة المدرسية من قبل السلطات “أمور تافهة” أو “أكاذيب” تهدف إلى الإساءة إلى سمعتها باستخدام أسوأ ما يمكن، وهذا أمر راديكالي، نافياً ما وُجه إليها من اتهامات بشكل قاطع.
ورداً على زعم تقرير اللجنة إظهار عمليات التفتيش وجود كتب في مركز التوثيق والمعلومات (CDI) قيل إنها تروج للجهاد، وتدعو إلى العنف ضد المثليين، وتعرض رؤية متخلفة للمرأة، قال سيفن غيز غيز، محامي المؤسسة، إن نفس المركز خضع للتفتيش 11 مرة، أحياناً من قبل نفس المفتشين، دون تسجيل أي ملاحظات في السابق.
تحريض اليمين المتطرف
طالما تعرضت المدارس الإسلامية في فرنسا، وعلى رأسها “مدرسة الكندي”، إلى حملة تحريضية واسعة من قبل اليمين المتطرف، مطالبة بإغلاقها بزعم عدم تناسب مناهجها مع مبادئ العلمانية.
أحد أبرز الشخصيات التي دأبت على انتقاد هذه المدارس هو زعيم حزب “الاسترداد” المعروف بعدائه للمسلمين، إريك زمور، إذ اتهم غير مرة المدارس الإسلامية، بما في ذلك مدرسة الكندي، بأنها “تروج لأيديولوجيات دينية”.
كما أشار اليميني المتطرف الفرنسي زمور، في أكثر من مرة، إلى أن بعض المدارس الإسلامية في فرنسا تتلقى تمويلاً من دول أجنبية.
بدورها مارين لوبان، زعيمة حزب “التجمع الوطني”، اليميني المتطرف، انتقدت هي الأخرى المدارس الإسلامية مراراً، معتبرة أنها تهدد “هوية” فرنسا.
في العديد من تصريحاتها، دعت لوبان إلى تشديد الرقابة على المدارس الخاصة الإسلامية، بل وذهبت إلى حد المطالبة بإغلاق المدارس التي لا تتوافق مع القيم الجمهورية والعلمانية.
في سياق النقاش حول مدرسة الكندي، كانت لوبان قد ربطت بين تمويل بعض المدارس الإسلامية في فرنسا من دول خارجية وبين خطر “التطرف” الديني، الذي قالت إنه قد يؤثر على الشباب في هذه المدارس.
في نفس السياق، انتقد جورج بوشو، النائب من حزب “التجمع الوطني”، أيضًا المدارس الإسلامية الخاصة، بما في ذلك مدرسة الكندي. كان بوشو قد صرّح في وقت سابق أن هذه المدارس غالباً ما تكون “مراكز لتغذية الأيديولوجيات المتطرفة”، وأنها لا توفر بيئة تعليمية محايدة.
فاليري بوييه، النائبة عن حزب “الجمهورية إلى الأمام” (La République En Marche)، كانت من بين المنتقدين لمدرسة الكندي. وأكدت في تصريحات لها أن هناك حاجة للمزيد من الرقابة على المؤسسات التعليمية التي تتلقى دعماً من دول أجنبية.
وأشارت بوييه إلى أن المدارس التي تديرها منظمات إسلامية قد تكون عرضة للتمويلات الخارجية التي تؤثر على استقلالية هذه المؤسسات وتعارض القيم الجمهورية.
المدارس الإسلامية في فرنسا
أُنشئت أول المدارس الإسلامية في فرنسا سنة 1947 في منطقة لا ريونيون “La Réunion”، وهي مقاطعة فرنسية في المحيط الهندي، وكانت في البداية تُدرِّس برنامجاً دينياً مكتملاً، إضافة إلى برنامج وزارة التربية الوطنية الفرنسية.
بينما ذكرت تقارير فرنسية أن أقدم المدارس الإسلامية في فرنسا تم إنشاؤها في البر الرئيسي لفرنسا هي مدرسة “La plume” في مدينة غرونوبل جنوب شرق فرنسا، عام 2001.
وتشير بيانات وكالة الإحصاء الفرنسية إلى أن ما يُقدَّر بنحو 6.8 مليون مسلم يعيشون في فرنسا، أي حوالي 10% من السكان، مما يجعل الإسلام ثاني أكبر دين في البلاد بعد الكاثوليكية.
وفق آخر البيانات الصادرة عن “الفيدرالية الوطنية للتعليم الخاص الإسلامي” في فرنسا، فإن عدد المدارس الإسلامية بالبلاد يبلغ 126، وأشارت الفيدرالية، التي تأسست عام 2014، إلى أن المدارس الإسلامية تُدرِّس 12 ألف تلميذ.
لكن فقط 10 مدارس هي من تتلقى دعماً حكومياً، وفق ما كشفته وكالة رويترز، وحتى التي لا تزال تحظى بالتمويل الحكومي الفرنسي فإنها أصبحت مهددة بفقدانه في ظل القرارات الحكومية الأخيرة.