فساد مالي يلاحق اليمين المتطرف الفرنسي.. كيف تهدد المحاكمات رموزه ومن يستفيد من هذه المتابعة؟

تتوالى الضربات على أبرز أحزاب اليمين المتطرف في فرنسا على إثر اتهام شخصيات بارزة من حزب “التجمع الوطني” اليميني بالفساد المالي وملاحقتهم قضائيًا، ما دفع المهتمين بالشأن السياسي في فرنسا للتساؤل حول مستقبل الحزب وزعيمته المثيرة للجدل مارين لوبين.

إذ أنه يوم الأربعاء 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، طالبت النيابة العامة الفرنسية بالحكم على زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا، مارين لوبين، بعدم الأهلية السياسية مع التنفيذ الفوري في إطار قضية اختلاس أموال من البرلمان الأوروبي.

وبعد ذلك بأيام قرر حزب “التجمع الوطني” نفسه، يوم الثلاثاء 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، تعليق عضوية نائبته البرلمانية كريستين إنغران، لمدة ستة أشهر، من ضمن كتلته في الجمعية الوطنية، بسبب استخدامها أموال التفويض لأغراض شخصية.

“فساد” زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا

طالب الادعاء الفرنسي خلال أولى جلسات محاكمة لوبين بإنزال عقوبة السجن 5 سنوات منها سنتين مع النفاذ قابلتان للتعديل، وتغريمها 300 ألف يورو، بعد تقدير أنها في “قلب نظام مدبر” يهدف إلى استخدام البرلمان الأوروبي “مصدر أموال” لحزب التجمع الوطني.

وفيما سيقدم دفاع المتهمة مرافعته الاثنين 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، يرتقب صدور حكم من محكمة الجنايات في فرنسا أوائل العام المقبل، أي قبل نحو سنتين من موعد الانتخابات الرئاسية المقررة سنة 2027، والتي تسعى لوبان للترشح إليها.

تجدر الإشارة إلى أن زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا، لوبان متهمة مع نحو 20 من المسؤولين البارزين في حزب التجمع الوطني بـ”خلق وظائف وهمية لاختلاس أموال البرلمان الأوروبي، يدفعون كلهم ببراءتهم”، وفق لائحة الاتهام.

تعود جذور قضية مارين لوبان إلى فترة عملها نائبة بالبرلمان الأوروبي في الفترة ما بين 2004 و2017، حين وجهت السلطات الأوروبية إلى زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا تهمًا تتعلق بسوء استخدام الأموال المخصصة للمساعدين البرلمانيين.

زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا مارين لوبان وجوردان بارديلا رئيس حزب التجمع الوطني

وركزت تحقيقات السلطات الأوروبية على شبهات حول توظيف زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا مساعديها في أنشطة حزبية محلية بدلًا من الاقتصار على المهام البرلمانية التي تم تمويلهم لأجل زعيمة حزب “التجمع الوطني” الفرنسي.

في سنة 2015، خلال مراجعة البرلمان الأوروبي إنفاق الأموال المخصصة لمساعدي النواب، ظهرت شكوك حول أنشطة بعض مساعدي مارين لوبان، مثل كاثرين غريزيه، التي زُعم أنها كانت تعمل لصالح الحزب وليس لخدمة العمل البرلماني.

وبناءً على طلب البرلمان الأوروبي، قررت النيابة العامة الفرنسية فتح تحقيق رسمي في القضية، ركز على ما إذا كانت زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا قد استخدمت أموال الاتحاد الأوروبي بشكل غير قانوني لتمويل أنشطة حزبية.

وبعد سنتين، تم توجيه تهمة “سوء استخدام الأموال العامة” ضد لوبان، إذ اشتبه في تورطها في تحويل نحو 6.8 مليون يورو لصالح الحزب. وأدرجت القضية ضمن إطار أكبر من التحقيقات التي شملت مسؤولين آخرين في حزب التجمع الوطني.

في المقابل، أبدت زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا رفضها القاطع لهذه التهم، ووصفتها بأنها “حملة سياسية تهدف إلى تقويض حزبها”. وأكدت أنها لم ترتكب أي انتهاك، معتبرة أن توظيف مساعديها كان ضمن الإطار القانوني.

رغم ذلك، تم استدعاء المسؤولة الحزبية قضائيًا مرات عدة لاستجوابها والتحقيق معها بشأن الملف، وقد أسفر ذلك عن تجميد أموال الحزب في 2018، الأمر الذي رفضته لوبان معتبرة أنها ضحية “النظام” الذي “يحاول كبح صعود حزبها”.

 أموال الشعب للاشتراك في “موقع مواعدة”

فضيحة لوبان ليست الأولى التي تلطخ سمعة حزب “التجمع الوطني” اليميني المتطرف الذي جعل على رأس أولوياته معاداة المهاجرين ومحاربة الثقافة الإسلامية في فرنسا، كما أنها ليست الأخيرة في تاريخ الحزب الذي تزعمته عائلة لوبان.

فقد قرر حزب “التجمع الوطني” أبرز أحزاب اليمين المتطرف في فرنسا تعليق عضوية نائبته البرلمانية كريستين إنغران لمدة ستة أشهر من ضمن كتلته في الجمعية الوطنية بسبب استخدامها أموال التفويض لأغراض شخصية، وفق ما ذكرته وسائل إعلام محلية.

وفقًا لموقع “Mediapart” الفرنسي، قامت النائبة باستخدام مخصصاتها البرلمانية لدفع نفقة كلبيها، كما تضمنت النفقات الأخرى اشتراكًا في موقع للمواعدة بقيمة 39.99 يورو شهريًا، إضافة إلى تكاليف جنازة بلغت 5,971.94 يورو.

ويقدّر الموقع الفرنسي أن “المعاملات المثيرة للجدل تجاوزت قيمتها 10 آلاف يورو من الأموال العامة”، ويقول إن القضية وضعت لوبان في موقف محرج وطرحت تساؤلات حول إدارة الموارد داخل الحزب ومدى التزام أعضائه بالأخلاقيات.

https://twitter.com/i/status/1859562375851966587

 ضربة قاسية لليمين المتطرف الفرنسي

وفق مختصين في الشأن السياسي الفرنسي، تشكل فضيحة إنغران هي الأخرى ضربة قاسية لحزب يسعى لتقديم نفسه كبديل جاد ومتماسك للقوى السياسية التقليدية، ما ينذر بفقدان الثقة لدى جزء من ناخبيه، خاصة أولئك الذين انجذبوا لخطاب الحزب المناهض للنخب الفاسدة.

حول تداعيات هذه الأزمات المتلاحقة على حزب مارين لوبان واليمين المتطرف في فرنسا، يقول الأستاذ فريد حسني عضو حزب الخضر الفرنسي لـ”عربي بوست”: “موضوعيًا، أرى أن تأثير هذه الفضائح، للأسف، سيكون له أثر جد محدود على مستقبل الحزب، اعتبارًا لطبيعة المشهد السياسي الحالي وتداعياته على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين”.

وأوضح المتحدث: “التجمع الوطني يجني اليوم ثمار فشل حكومة ماكرون ويستغل سوء تدبير الحكومة الحالية لحشد الدعم والاستمرار في التعبئة، ما يجعل فئة كبيرة من المواطنين ترى في لوبان ومن حولها مخلصين ومنقذين من الأزمة، ويربطون ما يحيط بهم من أزمات بنظرية المؤامرة وتواطؤ وسائل الإعلام لضرب سمعتهم”.

ويضيف حسني مستدركًا: “شيء واحد قد يكون له أثر قوي ويغير موازين القوى هو صدور حكم قضائي بعدم إمكانية ترشح لوبان للانتخابات الرئاسية، ما قد يكون أكثر إقناعًا لكثيرين نظرًا لاستقلالية المؤسسة القضائية” على حد تعبيره.

 مستقبل “غامض” لحزب ماري لوبان

في وقت تسعى فيه لوبان بشكل حثيث وواضح للترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة، وتعمل على استقطاب أكبر قاعدة انتخابية ممكنة. قد تشوه هذه الاتهامات والانحرافات صورتها وتقلل فرصها في الحصول على دعم الناخبين المترددين.

أنتوني بيرتوليي، صحافي فرنسي مختص بالشأن السياسي في جريدة “هافنغتون بوست” بباريس، يرى أنه من المهم التزام الحذر، إذ نتحدث فقط عن ملتمسات النيابة العامة. لكن ذلك، لا يمنع، وفقًا له، من اعتبار هذه التطورات ضربة قاسية جدًا لمارين لوبان.

وأوضح بيرتوليي لـ”عربي بوست”، أنه: “في طلباتها، تُذكِّر العدالة بأن عقوبة الإقصاء من الترشح للانتخابات تصبح تلقائية في حالة الإدانة بتهمة اختلاس الأموال العامة، وذلك استنادًا إلى قانون تم اعتماده في عام 2016، مستقبل لوبان السياسي يزداد غموضًا بالفعل”.

ويقول المتحدث: “النتيجة بسيطة جدًا: إذا أصدرت المحكمة حكمًا بإدانة مارين لوبان وأكدت طلبات النيابة (عقوبة الإقصاء من الترشح مع التنفيذ الفوري)، فإنها لن تكون قادرة على الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة، سواء في عام 2027 أو قبل ذلك”.

من جهة أخرى، يرى بيرتوليي أنه: “في الوقت الحالي، يبدو أن جوردان بارديلا، الرئيس الشاب للتجمع الوطني، هو الأنسب لتولي القيادة إذا لزم الأمر. ومع ذلك، فإن هذا يثير تساؤلات جديدة، خاصة فيما يتعلق بنقص خبرته واحتمال أن يكون ملفه أقل قبولًا أو إجماعًا مقارنة بلوبان لدى الرأي العام”.

وحول مدى تأثير ما يواجهه الحزب من أزمات على مستقبله السياسي، يقول المتحدث إن: “قياس تأثير هذه الفضائح على الناخبين لا يزال أمرًا صعبًا في الوقت الحالي”.

ويستطرد بيرتوليي قائلًا: “هناك سيناريوهان رئيسيان، بتأثيرات متناقضة: لوبان التي طالما دافعت عن النظام والقسوة في العقوبات، قد يجد الناخبون صعوبة في تقبل ما يبدو أنه معيار مزدوج يتبناه حزبها. في المقابل، يدين التجمع الوطني العقوبات بوصفها قاسية للغاية ويتحدث عن ‘محاكمة سياسية’، وهو موقف قد لا يكون مقنعًا للجمهور”.

ويضيف المتحدث: “من جهة أخرى، قد يتمكن التجمع الوطني من استغلال مكانته كحزب مناهض للنظام، كما أن القاعدة الجماهيرية للحزب، وهي من الأكثر ولاءً، قد تقتنع بسردية “الاضطهاد القضائي” و”الاستهداف السياسي”.

هذا النوع من “الالتفاف حول الزعيمة المتهمة”، يقول المتحدث لـ”عربي بوست” يشبه ما حدث مع دونالد ترامب في الولايات المتحدة، “الذي استفاد من موجة دعم شعبي مشابهة عند مواجهته اتهامات قضائية”.

في السياق ذاته، يخلص الصحافي إلى أن “التجمع الوطني” قد يحاول مواجهة أي تأثير سلبي للفضيحة على سمعة أبرز أحزاب اليمين المتطرف في فرنسا، وبقلب الموقف لصالحه من خلال التعامل معه في إطار خطاب المظلومية ومناهضة النخب السياسية.

ومع ذلك، يقول أنتوني بيرتوليي، الصحافي الفرنسي المختص في الشأن السياسي: “فإن خسارة لوبان كوجه قيادي قد تفتح تحديات جديدة للحزب في المستقبل”.

ماكرون إلى جانب زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا

من المستفيد من “فساد” اليمين المتطرف؟ 

توالي الأزمات والفضائح ضد مارين لوبان وبعض أعضاء حزبها قد يؤدي إلى تصدعات داخلية، إذ إنها قد تدفع ببعض الأعضاء أو المؤيدين لإعادة النظر في ولائهم، خاصة إذا لم يتم التعامل مع القضية بشفافية وحزم.

لكن في المقابل، لا يستبعد مراقبون إذا تمكنت زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا من تبرئة نفسها من الاتهامات، أن تستخدم ذلك لتعزيز موقفها السياسي، معتبرة أن هذه المحاولات كانت لإعاقتها عن ما تعتبره في خطاباتها “إنقاذ فرنسا”.

أما في حال ثبتت الاتهامات عليها أو على أعضاء آخرين في الحزب، فقد يكون ذلك نقطة انعطاف تؤدي إلى تقليص شعبيتها وربما استبدالها بقيادة جديدة أكثر قبولًا على الساحة السياسية.

على رأس الخصوم السياسيين الممكن استفادتهم من الوضع الحالي لحزب التجمع الوطني الأحزاب اليسارية، مثل فرنسا الأبية بزعامة جان لوك ميلانشون أو الأحزاب الوسطية بقيادة إيمانويل ماكرون، إذ يمكنهم استخدام هذه الأزمات لتعزيز خطابهم المناهض لليمين المتطرف ولفت الانتباه إلى أخلاقيات أحزابهم السياسية.

وزير الداخلية السابق، الذي يسعى إلى تعزيز موقعه السياسي من خلال مزج خطاب أمني يميني مع سياسات اجتماعية، قد يستغل هو الآخر الفرصة لإقناع الناخبين الذين فقدوا ثقتهم في التجمع الوطني لكنهم ما زالوا يرغبون في بديل يميني قوي.

ورغم انتقاد وزير الداخلية السابق دارمانان لملتمسات النيابة العامة ودفاعه عن زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا بشكل غير مباشر والدعوة إلى مواجهتها في صناديق الاقتراع، فذلك لا يمنع احتمال استثماره الوضع الراهن ليظهر كبديل معتدل للناخبين المحافظين.

المصدر – وكالات – شبكة رمضان الإخبارية

شاهد أيضاً

“الإمبراطور الأبيض”.. مقاتلة الجيل السادس الصينية المصممة للهيمنة على السماء والفضاء

تشهد المنافسة بين الصين والولايات المتحدة تصعيداً ملحوظاً في العديد من المجالات، من أبرزها التسابق …