خلال السنوات الأخيرة، باتت الولايات المتحدة وحلفاؤها يواجهون “أزمة فشل الردع”. فالصين تهدد سفن جيرانها (حلفاء واشنطن) في بحر الصين الجنوبي وربما تجهز جيشها لغزو تايوان. ولا تظهر روسيا أي علامة على التخلي عن حربها في أوكرانيا.
وفي الشرق الأوسط، تهدد إيران بالانتقام من “إسرائيل” لاغتيال زعيم حركة حماس إسماعيل هنية في طهران، ويكثف حزب الله هجماته الصاروخية على “إسرائيل” التي تواصل حربها ضد غزة ولبنان وتهدد النفوذ الأمريكي مع كل قنبلة تلقيها، فيما يواصل الحوثيون مهاجمة السفن التجارية التي تسير نحو “إسرائيل” في البحر الأحمر وإغراقها في بعض الأحيان.
وتتزايد المخاطر المركبة المتمثلة في مقتل أفراد عسكريين أميركيين بالصواريخ الإيرانية، أو ضربة حوثية لسفينة تابعة للبحرية الأميركية، أو غرق سفينة شحن أخرى مع مرور الوقت. وأي من هذه الأحداث من شأنه أن يجبر واشنطن إما على الانخراط في حرب أكبر أو التراجع، وأي من الخيارين سيعكس “فشل الردع” بشكل كبير، كما تقول مجلة “فورين أفيرز” الأمريكية.
كيف سقطت نظرية الردع الأمريكية وأصبحت عديمة الفائدة؟
تقول المجلة الأمريكية، إن أسس “نظرية الردع” الأمريكية تكمن في كتابات الحرب الباردة التي كتبها مفكرون بارزون مثل توماس شيلينج، الذي سعى إلى صياغة استراتيجية لردع الضربة النووية من الاتحاد السوفييتي. وقد أثبتت مبادئها المركزية ــ الاستقرار الناتج عن الدمار المؤكد المتبادل، ومخاطر التصعيد ودور سياسة حافة الهاوية، وقيمة الإشارة إلى الالتزام والعزيمة ــ فائدتها في ردع الخصوم المسلحين نوويا عن شن هجمات نووية وتقليدية على قوى نووية أخرى. ولكنها كانت أقل فائدة في ردع الهجمات التي تشنها قوى غير نووية. وعندما يتعلق الأمر بالجهات الفاعلة غير الحكومية، كانت نظرية الردع عديمة الفائدة تماماً.
ولم يكن هذا أكثر وضوحا في أي مكان مثل الشرق الأوسط في الأشهر الأخيرة، حيث بدت إيران وحلفاؤها على استعداد لمهاجمة القواعد العسكرية الأميركية وأفراد الخدمة، وإغراق السفن التجارية، وشن هجمات مباشرة على “إسرائيل” أهم حليف لواشنطن، وربما إشعال حرب إقليمية أكبر تهدد “إسرائيل” والمصالح الأمريكية في المنطقة.
وتقول “فورين أفيرز” إنه “إذا كانت واشنطن تريد منع المزيد من التآكل في الردع في المنطقة، فسوف تحتاج إلى إظهار استعداد أكبر للرد. ولن يكون التركيز على حزب الله والحوثيين كافيا؛ فالطريقة الوحيدة لاستعادة الردع هي ملاحقة إيران. وينبغي للقوات الأميركية أن ترد ردا على الضربات الصاروخية الإيرانية التي تلحق الضرر بالعسكريين والمدنيين الأميركيين”.
وتضيف: “ينبغي لواشنطن أن تشير إلى طهران بأن الأضرار التي تلحق بالسفن الأميركية أو غيرها من السفن التي تمر عبر البحر الأحمر سوف يقابلها رد انتقامي على الأصول أو الأراضي الإيرانية. ونبغي للجيش الأميركي أيضا أن يضع أصوله بطريقة تمكنه من الاستمرار في اعتراض الهجمات الجوية الإيرانية كما فعل عندما أطلقت إيران وابلا من الطائرات بدون طيار والصواريخ على إسرائيل في أبريل/نيسان”، على حد وصفها.
ولكن إذا اعتبر المسؤولون الأميركيون أن الضغط على إيران بهذه الطرق أمر محفوف بالمخاطر، فقد يحاولون تجاوز العاصفة، وانتظار انتهاء الحرب في قطاع غزة والأزمة الإقليمية الحالية، وتحويل انتباههم بدلاً من ذلك إلى الصين وروسيا والصورة الأكبر.
وأوضحت استراتيجية الدفاع الوطني لإدارة بايدن، بعد كل شيء، أن الجيش الأميركي يحتاج إلى التركيز في المقام الأول على الصين. ومن شأن مثل هذا الاختيار أن يفرض مشاكله الخاصة: استمرار الهجمات على إسرائيل، وتقييد التجارة الدولية، وتراجع موقف الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
أسس “نظرية الردع” الأمريكية
قبل عام 1945، لم يكن الردع موضوعاً رئيسياً في دراسة الحرب الأمريكية. ومن الصعب أن نجد مبادئه في كتابات مفكرين مثل نيكولو مكيافيلي وكارل فون كلاوزفيتز. ولكن ابتداءً من أواخر أربعينيات القرن العشرين، ومع فجر العصر النووي، بدأ استراتيجيون مثل شيلينج وبرنارد برودي وألبرت وولستيتر في صياغة أسس نظرية الردع.
وبالمفهوم الأمريكي، فإن أساس الردع النووي هو القدرة على توجيه ضربة ثانية، وهذا يعني أن أي جانب يمكنه شن ضربة ثانية مدمرة رداً على هجوم من خصمه، وهي الديناميكية المعروفة باسم “التدمير المتبادل المؤكد“. وتتمتع الصين وفرنسا وروسيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة بهذه القدرة. والصواريخ الباليستية العابرة للقارات والغواصات والصوامع وحاملات الصواريخ المتنقلة تجعل من المستحيل على أي من هذه القوى تدمير خصم دون أن يتم تدميرها هي نفسها.
ويشكل التصعيد مصدر قلق بالغ الأهمية عندما يمتلك كلا الجانبين أسلحة نووية. وفي كتابه الصادر عام 1966 بعنوان ” الأسلحة والنفوذ” ، زعم شيلينج أن أي عمل عسكري قد يؤدي إلى سلسلة من الإجراءات والتدابير المضادة التي قد تؤدي عرضياً إلى كارثة كاملة. وكتب: “ما قد يحدث هو مسألة تنبؤ أو تخمين. فالمقاومة العسكرية تميل إلى تطوير زخم خاص بها”. ويتحمل كلا الجانبين المخاطر، فلا تستطيع الولايات المتحدة أن تتخذ إجراءً ضد الصين أو روسيا دون أن تجلب على نفسها خطر خروج الأمور عن السيطرة. وكما كتب الزعيم السوفييتي نيكيتا خروشوف إلى الرئيس الأميركي جون كينيدي في ذروة أزمة الصواريخ الكوبية:
“لا ينبغي لنا ولا لكم الآن أن نشد طرفي الحبل الذي ربطتم به عقدة الحرب، لأن كلما شدنا أكثر، كلما أصبحت تلك العقدة أكثر إحكاماً. وقد تأتي لحظة تصبح فيها تلك العقدة مشدودة إلى الحد الذي يجعل حتى من ربطها لا يملك القوة لفكها، وعندئذٍ سيكون من الضروري قطع تلك العقدة، ولا أستطيع أن أشرح لكم ما يعنيه ذلك، لأنكم أنتم تدركون تماماً القوى الرهيبة التي تمتلكها بلدانا.”
ونظراً لخطر التصعيد، فإن أي خطوة صغيرة قد تكون بالغة الخطورة، حيث إن وضع القوات البرية بالقرب من قوات العدو، أو تحليق طائرة فوق سفينة حربية، أو مرور السفن البحرية بالقرب من مياه العدو، كلها عوامل تنطوي على خطر التصعيد. ولقد أولى صناع القرار الأميركيون والسوفييت مثل هذه الإجراءات اهتماماً كبيراً لأنهم كانوا مدركين للمخاطر التي تنطوي عليها.
الردع مع الدول غير النووية
ولكن شيلينج ومعاصريه لم يطوروا نظرية الردع لشرح كيفية التعامل مع الدول غير النووية ــ وعندما حاول المسؤولون تطبيقها بهذه الطريقة، كانت النتائج هزيلة. ففي عام 1964 وأوائل عام 1965، حاولت إدارة جونسون تطبيق تفكير شيلينج على فيتنام الشمالية، فنفذت سلسلة من الضربات الجوية المتدرجة لإظهار أن الضرر الأعظم سوف يأتي إذا لم تتراجع هانوي. ولكن الأمور لم تسر كما تمنى واشنطن، فلم يكن كبار قادة فيتنام الشمالية مقتنعين بأن الولايات المتحدة سوف تطيح بهم؛ وكانوا على استعداد لتحمل خسائر متزايدة من أجل توحيد بلادهم، واستمروا في شن الحرب في فيتنام الجنوبية وهزموا الأمريكيين وأخرجوهم من بلادهم في النهاية.
إن مواجهة قوة غير نووية تقلل إلى حد كبير من خطر الدمار المتبادل المؤكد. فالقوة النووية لا تواجه خطر الكارثة النووية. ولكن هذا لا يعني أن القوة النووية حرة في استخدام القوة كما يحلو لها. ففي بعض الحالات، كما حدث في الغزو الأميركي للعراق في عام 2003، يسمح غياب الدمار المتبادل المؤكد لقوة نووية، مثل الولايات المتحدة، بممارسة مستويات عالية من القوة مع القليل من القلق بشأن التصعيد.
ولكن في حالات أخرى، قد يدفع الخوف من حرب تقليدية شاملة ضد دولة غير نووية عدواً نووياً إلى الانخراط، كما حدث في الحرب الكورية وحرب فيتنام، وهو ما أثار قلق الإدارات الأميركية. وفي بعض الحالات، قد تكون تكاليف الحرب وخسائرها مرتفعة للغاية. وهنا يعد ردع قوة غير نووية أمر صعب لأن الخصم غير النووي سيفترض أن الولايات المتحدة غير راغبة في تحمل تكاليف حرب تقليدية شاملة.
وتقول “فورين أفيرز” إن الأدوات المستخدمة لردع الصين أو روسيا من غير المرجح أن يكون لها نفس التأثير على إيران أو أي دولة أخرى غير نووية لأن الولايات المتحدة تواجه في مثل هذه السيناريوهات خطراً أقل كثيراً من الانتقام النووي. والخطوة التي قد تبدو عالية المخاطر إذا اتخذتها واشنطن ضد الصين أو روسيا قد تبدو خطوة حذرة إذا اتخذت ضد إيران.
ومن المرجح أن ترى بكين أو موسكو إشارة مثل نشر سفينة تابعة للبحرية الأميركية بالقرب من مياهها على أنها تصعيد شديد، وهو مؤشر على أن الولايات المتحدة مستعدة للقتال والمخاطرة بحوادث قد تؤدي إلى إطلاق نار واعتبارات نووية. ولكن عندما يتم تطبيق نفس التكتيك ضد إيران، فإن الولايات المتحدة لا تواجه خطر الكارثة النووية. وبالتالي، فمن المرجح أن تفسر طهران ذلك على أنه علامة على الحذر. وعند التعامل مع دولة غير نووية، فإن الخطوة الصغيرة تشير إلى أن التكاليف أو الفوائد المترتبة على حرب كاملة لا تستحق العناء؛ ولا تنقل العزم.
لعبة حافة الهاوية مع القوى غير النووية
ولهذا السبب، تقول المجلة الأمريكية إنه يتعين على الولايات المتحدة أن تتخذ “خطوات أكبر” عندما تواجه خصوماً غير نوويين مثل إيران. بطبيعة الحال، لا تضمن خطوة كبرى، مثل توجيه ضربة جوية ضد هدف حيوي لنظام أو تدمير بحرية العدو، ردع قوة غير نووية مثل إيران. وإذا كانت القوة غير النووية واثقة من أن الولايات المتحدة غير ملتزمة بالنصر العسكري، فقد يُنظَر إلى الخطوة الكبيرة على أنها خداع أو مجرد ضربة أخرى في حرب استنزاف مستمرة.
وإذا تم النظر إلى الخطوة الكبيرة على أنها مؤشر على نية عدوانية، مثل تغيير النظام، فقد تختار قوة غير نووية يائسة، من منطلق القلق على بقائها، التصعيد بدلاً من تقديم التنازلات. وتفضل أوكرانيا مثلاً محاربة روسيا بدلاً من تقديم التنازلات، معتقدة أن التنازلات لن تؤدي إلا إلى تقوية يد موسكو وتؤدي إلى الغزو.
في لعبة حافة الهاوية ضد دولة غير نووية، قد يتعين على الولايات المتحدة إرسال “إشارات مكلفة” تثبت الالتزام والقدرة، مثل الضربات الانتقامية أو نشر حاملات الطائرات والغواصات لفترات طويلة. على سبيل المثال، يمكن للولايات المتحدة إسقاط طائرة خصم أو إغراق سفنه، كما فعلت في سوريا في عام 2017 وفي “حرب الناقلات” في الخليج الفارسي في الثمانينيات.
وأظهر دفاع أمريكا عن “إسرائيل” في صد حوالي 300 صاروخ وطائرة بدون طيار إيرانية مسلحة في أبريل/نيسان 2024 التزام الولايات المتحدة بحليفتها في الشرق الأوسط. ولأكثر من عقد من الزمان، اعتمدت إيران على صواريخها الباليستية لردع الضربات الجوية الأمريكية والإسرائيلية. وكما يقول فرانك ماكنزي، الذي شغل منصب قائد القيادة المركزية الأميركية من عام 2019 إلى عام 2022، في كتابه “نقطة الانصهار”، فإن أي ضربة أميركية أو إسرائيلية على المنشآت النووية الإيرانية “ستثير بلا شك رد فعل قوي من الإيرانيين” في “حرب نيران دامية وعنيفة حيث ستكون قواعدنا ومدن أصدقائنا الإقليميين أهدافا”.
ومع ذلك، فإن عمليات الاعتراض في أبريل/نيسان تلقي بظلال من الشك على قوة الردع المزعومة لدى إيران، كما تقول المجلة الأمريكية.
نظرية الردع أمام التنظيمات المسلحة غير الحكومية
إن نظرية الردع لا تفيد كثيراً عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع الجهات الفاعلة غير الحكومية مثل حزب الله والحوثيين وغيرهم. ذلك أن “العصابات المسلحة” تفتقر إلى الأهداف العسكرية ذات القيمة العالية التي تتمتع بها الدول وليس لديها الكثير من الحسابات.
ولأن وحدات العصابات المسلحة قادرة على الحركة وتخفي نفسها جيداً، فإن أنظمة الصواريخ التي تستخدمها يصعب القضاء عليها. كما يتمتع قادة العصابات المسلحة بقدرة عالية على تحمل المخاطر الشخصية، حيث يتوقع الكثيرون أو حتى يتمنون أن يصبحوا شهداء، وهو ما يجعل التهديد بالقتل في غارة جوية رادعاً ضعيفاً، كما تقول المجلة الأمريكية.
لذلك فإن الطريقة الأكثر فعالية للتعامل مع مثل هذه الجماعات تتمثل في الضغط على “راعيتها”، إيران، من خلال نقل رسالة مفادها أن استمرار الهجمات الصاروخية والصاروخية سيكون له عواقب. وهذا المسار من العمل غير مثالي: إذ ستنفي طهران نفوذها على وكلائها وتتهم الولايات المتحدة بالتصعيد، ولحزب الله والحوثيين مصالحهم الخاصة وقد لا يستمعون إلى راعيهم. ومع ذلك، تعتمد كلتا المجموعتين على الدعم الإيراني، واستعداد طهران لخوض الحرب نيابة عنهما ليس مضمونًا على الإطلاق، مما يمنح إيران نفوذاً كبيراً لإقناعهما بالتوقف عن تهديد المصالح الأمريكية وغيرها.
وتقول المجلة الأمريكية إنه لكي يحدث هذا، لابد من جعل طهران تدرك العواقب التي ستواجهها إذا ألحقت أفعالها الضرر بالقوات الأميركية. ويتعين على الولايات المتحدة أن توضح استعدادها للرد من خلال الأفعال وليس الكلمات والخطوات الصغيرة السبيل الصحيح. ويتعين على واشنطن أن توضح المخاطر التي تواجهها إيران: حرب شاملة وإلحاق الضرر بالمصالح الحيوية لإيران. ويتعين على إدارة بايدن أن تبلغ طهران بأنها ستعترض أي صواريخ موجهة إلى إسرائيل، وأنها ستنتقم لخسارة الأرواح الأميركية، وأن الهجمات الصاروخية الحوثية في البحر الأحمر لابد أن تتوقف.
وقبل أن يضرب صاروخ ضال سفينة، لابد أن يقترن كل إطلاق صاروخ حوثي مضاد للسفن بعمل أميركي ضد إيران. وقد يتخذ هذا شكل المراقبة داخل المياه الإقليمية، أو إطلاق طلقات تحذيرية على السفن الإيرانية، أو الصعود إلى السفن التجارية الإيرانية التي قد تهرب الأسلحة.
ويتعين على البنتاغون أيضا أن يفكر في طرق مختلفة لإظهار أن الأصول العسكرية الإيرانية يمكن أن تتضرر على الفور، مثل الحرب الإلكترونية أو العمليات الخاصة. ويتعين على واشنطن أن تعزز هذه الرسالة بإرسال قوات هجومية إلى الشرق الأوسط.
لكن كل ذلك قد يورط أمريكا في مستنقعات حروب لا تريدها بالمطلق وقد ذاقت مرارتها في العراق وأفغانستان وغيرها، كما أنها ستعطي فرصة لقوى مثل الصين وروسيا للتمدد وزيادة النفوذ بكافة أشكاله، على حساب النفوذ الأمريكي الذي يتقلص يوماً بعد يوم.
لذلك، إذا بدت المخاطر المترتبة على هذا النهج مرتفعة للغاية، وكانت الموارد المطلوبة من شأنها أن تصرف الانتباه عن أولويات أخرى، فقد تتراجع الولايات المتحدة. وقد تمتنع عن قول أي شيء بشأن الضربات الصاروخية على إسرائيل، وقد تزيل وجودها البحري وتثني حركة المرور التجارية عن المرور عبر البحر الأحمر لتخفيف خطر “التصعيد العرضي”.
المصدر – وكالات – شبكة رمضان الإخبارية