شابٌّ في الخامسة والعشرين من عمره، مثل الشبان الأمريكيين في مقتبل حياتهم وصباهم، أمامه الدنيا بحذافيرها، لا يربطه شيء بذلك العالم البعيد، جنديٌّ في سلاح الجوّ بجيش الولايات المتحدة، يمكنه أن يحجز لنفسه موقعًا في رغد العيش، وهناء الحياة، ولا يسأله أحدٌ عما يفعل، ولماذا يفعل، أن يفرح بما لديه من إمكانيات وسلاح وجنديّة، فيجرّب جميع الأزرار التي أمامه، ويضغط هذا ليقصف أطفال العراق، ويضغط هذا ليسير في جسر جويٍّ إلى تل أبيب، ويضغط هذا ليقصف الحوثيين في اليمن، ويضغط ذاك ليعود أدراجه، بينما يصوّر ذلك كله على تيك توك، آملًا أن يحصد أكبر عدد ممكن من المواعدات مع مراهقات أدنى منه عمرًا بقليل، لتكون تلك حياةً مثاليةً لجنديٍّ صغير السنّ في سلاح الجوّ الأمريكي.
لكن المشهد أمامنا، وأمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن يخبرنا بعكس ذلك تمامًا، بجنديٍّ يظهر فجأةً أمامنا، يتحدث إلى العالم بكلمات مقتضبة مختصرة عجولة، معلنًا إقدامه على احتجاجٍ “متطرف”، هو يعلم يقينًا ذلك، دون أن يشجّع أحدًا آخر عليه، متحديًا الأوامر، والآمرين، وأمراء الحرب، قائلًا بوضوح، وحدة، وصدق، يبدو من عينيه المغرورقتين المودّعتين: “لن أتواطأ في الإبادة الجماعية بعد الآن”، ثم يقول إن “ذلك الاحتجاج المتطرف، مقارنةً بما يحدث للشعب الفلسطينيّ على يد الاحتلال، ليس متطرفًا على الإطلاق، هذا ما قرره حكامنا أن يكون طبيعيًّا”، ثم بثباتٍ مخجل، وبغضبٍ حارق، يمضي الشاب إلى بوابة السفارة، ويسكب الوقود بغزارة فوق رأسه، سكبة رجلٍ واثق مما يفعل، مقررًا ما يريده، عازمًا على “التضحية” -من وجهة نظره-، ماضيًا إلى حتفه من دون تردد، صارخًا، حتى تأكل النار أنفاسه، وحلقه، وأحباله الصوتية: “فري بالستاين.. فري بالستاين.. فردي بالسـ..تاين”.. فلسطين حرة، ثم يسقط الرجل مشارفًا على الموت.
ذلك الشاب، الأمريكي، الرجل الأبيض، في معناه الإنسانيّ، وفي ضميره الحي، وفي فطرته الصحوة، وفي قلبه النقيّ، وفي تطهّره بمفهومه العدميّ، وفي فعله المتهوّر بقلبٍ متحرّق مشتعل مفتئد على غزة وفلسطين وأهلها، مكفّرًا عن نفسه، ومعربًا عن عجزه، بذلك الشكل من أشكال الفناء، تفانى حتى فنِي تمامًا، هو أخي، وأخو الغزيين، في مصابهم وآلامهم، وأخو الدم، والعرض، والشرف، والشهامة، والنخوة، والكرامة، والضمير، والوجع، والعجز، واللوعة، والوحدة، هو ذلك الأخ في تلك المشاعر المختلطة التي تعيشها غزة وأحبابها، رغم أي شيء.
ذلك الرجل، وقف هناك، يعلن كم غيّرت غزة في الدنيا، وإلى أي مدى تحولت إلى قضية “عالمية”، تخص الإنسان، ولا يحتكرها أحدٌ بحكم جيرة أو قرابة أو لسان، ولا تساندها الشعارات بقدر ما تصدقها الأفعال، قل ما شئت، لن تنال القرب حقًّا حتى تقدّم شيئًا، أو تقدم على شيء، من أجلها، وهذا ما فعله آرون، وفعله مرفوضٌ تمامًا -لأسبابٍ كثيرةٍ بعد أحكام الدين والعقيدة ولأن الحياة يمكن فعل الكثير بها أكثر من خيار الموت-، لكنه عدم الوسيلة، وفقد الطريقة، ولم يعرف ماذا يفعل، ولا كيف يقدّم لغزة وأهلها معذرته، ولا كيف يكفّر عن ذنب الوجود في مكانٍ بعيد، بينما هم يبادون جماعيًّا على البث المباشر، وهو جنديٌّ في صفوف جيشٍ شريك أساسي في تلك المحرقة، وبسلاحه تُفصل رؤوس الأطفال عن أجسامهم، وبإمرة قائده يستمر الاحتلال في محاولته محو غزة من على وجه الأرض تمامًا.
أخي آرون، الذي لم يربطنا دين أو عقيدة، ولم يجمعنا لسان ولا لغة، ولم يوحّدنا عرقٌ ولا نسل، ولم يكن جار غزة في المكان، ولا قريبها على الحدود، ولا لصيقًا بها خلف الحواجز، وإنما هو بعيدٌ كل البعد، بعيدٌ بطول عشرة آلاف كيلومتر، ستة آلاف ميل، بحار ومحيطات وأنهر، جبالٌ وهضابٌ وسهول، صحراوات واسعة، وغابات كثيفة، كل ذلك لم يفصل بينه وبين غزة التي في قلبه، والغصة التي تسري في بدنه، كلما رأى ما نرى جميعًا كل يوم.
أخي آرون حقًّا، لا المحيطون بغزة من جميع الجهات، أصحاب الإسقاطات والسقطات واللقطات، أصحاب المعابر والتنسيقات والعشرة آلاف دولار على الرأس -كما يرون-، أصحاب البضائع والجسور البرية والجوية والبحرية، أصحاب الجعجعات الفارغة، والخطب الرنّانة، والإمدادات الغذائية التي لم تنقطع، نحو مواني أسدود وحيفا، وتل أبيب، لا القطاع المحاصر، والعلاقات الاقتصادية، والتبادل التجاري، والتحالفات، والتطبيعات، والتطلعات؛ آرون، ذلك الشاب الأمريكي أقرب أخوة، وأصدق لسانًا وفعلًا ودمًا، من هؤلاء الذين يبدؤون خطاباتهم بـ”الأشقاء في غزة”، أو “جزة-دَكِي كارديشلاريميز”.
رحل آرون، بعدما اطمأنَّ على وصول الرسالة بشكل واضح وصارخ، أن ذلك الصمت، والسكوت، هو شراكة في الإبادة، ليس شرطًا أن تقاتل ولا أن تقصف ولا أن تحاصر من هناك، وإنما مجرد قعودك عن أي فعل، وركونك لأي عجز، هو سهمٌ لك، في مذبحة غزة، فابحث عما تطهّر به نفسك -عدا الانتحار- من تلك الخطيئة الإنسانية الجماعية، ولعلك تنجو من زمرة الجلادين، حين تهلك مع الضحايا.
أخي آرون بوشنل، أخي في الفطرة التي لم يلوثها دنس الدنيا، وأخي في الدم الذي ما زال يغلي في العروق الحامية، وأخي في الضمير الذي ما زال يسري في الإنسان الحر، وأخي في الشرف الذي ما زال يغار على العرض، وأخي في الدموع التي ما زالت تحفر في الخدود الأخاديد، وأخي في الحرقة والاحتراق على استقامة سبل النضال.. نم في سلامٍ نومة الأبطال!
النمسا – الكاتب يوسف الدموكي