بين ارتباك وتردد وتقزم.. كيف كشف حرب غزة تراجع مكانة مصر؟

يبدو أن تناول الوضع العربي يحتم لازمة أنه: ليس سقف وقيمة ومكانة الدول في شخص الحاكم إطلاقاً. وهو ما أشاعه النظام الرسمي العربي، خصوصاً في فترة اهتزاز معالمه في “الربيع العربي”، باعتبار أي انتقاد للحاكم يعني انتقاصاً من الوطن.

فالحاكم كمعيار لسقف الأوطان، وخاصة فيما يعرف بـ”الجمهوملكيات” الوراثية، حيث الحاكم “والد المواطنين والأمة”، أو “الأخ الأكبر”، أسس نوعاً من الثقافة عند البعض، تحت مطرقة بروباغندا صناعة أنصاف آلهة، تجعل انتقاد سياسات الأنظمة بمثابة “خيانة” و”عداء للوطن”. إذ معه يبدأ تاريخ البلد، وقبله لم يكن ثمة تأسيس، فيصير نصف إله “والأب المؤسس”، كما على سبيل المثال سُوِّق في الشام لحافظ الأسد، وتعاد الكرة من اليمن إلى الجماهيرية “العظمى” أيام معمر القذافي.

وتلك الفرضية تذكر تماماً بالحالة الصهيونية التي تبتز الناس باسم “معاداة السامية” لمنع انتقاد الاحتلال الإسرائيلي، أو طلب فرض عقوبات ومقاطعة بحقه.

كذلك، حين السؤال عن دور العرب في حرب الإبادة على غزة، وطيلة 76 سنة في قضية فلسطين، فهذا لا يعني أن السائلين يطالبون بتحشيد الجيوش العربية للحرب، ولا حتى بإنزال جوي للدواء والغذاء للمحاصرين، فتلك، وغيرها كثير، لم تعد في حسابات الإنسان العربي، بعد أن أدرك في محطات كثيرة مستوى الضعف الذي أوصلت أوطانه أنظمة حكم تبحث عن شرعية غربية، ملامسين حضيض الدفاع عن المصالح “القُطرية”. فالغرب الذي يهرول دعماً للإسرائيليين يدرك خنوع السياسات الرسمية العربية وضعفها الذاتي.

إذاً، حين يجري تناول مواقف وسياسات بعض الأنظمة فليس المقصود لا العداء ولا “الكراهية والحب” ولا “التآمر” بحق الدول، بل أحياناً يكون مصدر ذلك التناول مرتبطاً بقيمة ومكانة هذه وتلك من الدول العربية، في سياق تقرير مصير قضايا العرب، والأهم في الراهن العربي الكارثي هو وقف حرب الإبادة في غزة.

جمهورية مصر العربية نموذج للارتباك والإرباك

بدخول الحرب على قطاع غزة الشهر الخامس يبدو أن بعض السياسات الرسمية العربية عولت على “انتصار” إسرائيلي سريع. وإلا فإن البيانات الموسمية، في الشجب والإدانة والقلق، بما فيها قرار قمة الرياض العربية الإسلامية حول كسر حصار غزة، لم تصرف في التطبيق، لإظهار أن العرب لديهم إرادتهم ومكانتهم، ليس فقط لوقف حرب التطهير والإبادة في غزة، بل على الأقل لتطبيق عملي للرفض اللفظي لمساعي الصهيونية الدينية تهجير الفلسطينيين إلى سيناء من غزة أو إلى الأردن من الضفة الغربية المحتلة.

ومصر، الدولة العربية الأكبر، والمفترض أنها رائدة العمل العربي المشترك، أصبحت سياساتها أقل تأثيراً منذ 2013، بكثير من التماشي مع سياسات واشنطن، وبعض الأطراف الإقليمية التي تتلاعب بأدوار القاهرة المفترضة.

فالمشهد السياسي، ومنه/وفيه مسألة تحقيق “الأمن القومي”، ومصالح أكثر من 106 ملايين إنسان، يبقى تحت أسقف الارتباك والترقب، بعيداً عن مكانة وقيمة مصر الحقيقية، وتأثيرها المفترض إقليمياً ودولياً، بينما تبرز دول في عالم الجنوب أقل قدرات ومكانة من القاهرة.

ومراجعة ردود نظام القاهرة على ادعاءات ممثلي دولة الاحتلال الإسرائيلي أمام محكمة العدل الدولية عن إغلاق معبر رفح، برميه المسؤولية على مصر، لا تعكس حجم وقيمة السياسات المصرية. فقد كانت فرصة لتقوم القاهرة بفتح المعبر ولو باتجاه واحد، ونافذة لإخراج نحو 11 ألف جريح ومريض مهددون بالموت، وباتجاه التخفيف عن تكدس مواد الإغاثة في العريش، ووضع الاحتلال أمام مسؤوليته إذا ما أعاق ذلك.

فُوتت الفرصة في سياق ضعف واضح لمتخذي القرار في أروقة نظام القاهرة. ومرة أخرى أعاد الرئيس الأمريكي (الصهيوني بتعريفه الذاتي) جو بايدن رمي الكرة في ملعب نظام عبد الفتاح السيسي عن قصة معبر رفح، فجاء الرد ركيكاً وعائماً، دون انتهاز ولو فرصة واحدة لوضع العالم أمام مسؤولياته بفتح المعبر، أقله لكشف نفاق المواقف المحملة للقاهرة مسؤولية الصمت عن جرائم الإبادة. فبينما المتطرف إيتمار بن غفير يقول لواشنطن واضحة: “لسنا نجمة أخرى في العلم الأمريكي” ترى نظام القاهرة يتصرف كتلميذ مطيع في الفصل الأمريكي، دون أن يمس حتى العلاقة الدبلوماسية مع دولة الاحتلال التي تتصرف معه باستعلائية وعجرفة وبما يشبه إصدار أوامر.

والمحير في ظاهر سياسات البلد الكبير، بهذا الشكل المستجيب استجابة فولاذية باشتراطات ورقابة دولة احتلال ترتكب المذابح منذ عقود، أن النظام لم يستغل ولا واحدة من تلك الفرص: قمة الرياض، محكمة العدل الدولية، تصريحات البيت الأبيض، لقلب الطاولة وجعل قصة الحدود خاضعة لعلاقة فلسطينية مصرية.

يعرف رجالات دولة مصر، بمن فيهم الجيش والاستخبارات ومؤسسات الأمن القومي، أن أهل غزة هواهم التاريخي مصري، رغم افتعال حالة ردح “إعلامي” غير مسبوقة منذ 2013، بتحويل القطاع وكأنه “قوة عظمى” تتدخل في شؤون مصر، ولغة تشف بهذا الدمار والقتل على يد الإسرائيلي، الذي يعلنها صراحة على قنواته الإخبارية العبرية أنه “لا يجب أن تأخذنا شفقة ولا رحمة ولا حتى بالصغار في غزة”. فلو قالها صحفي مصري لاختفى وراء الشمس، إذ إن دماء الإسرائيليين تبدو أعلى قيمة عند النظام العربي من مواطنيه و”الأشقاء” في العروبة والدين والتاريخ.

فحجم ومكانة مصر الدولة، وليس النظام، هو ما يُناقش تحت قشرة الحيرة من مواقف استلاب للدولة وحصرها على مقاس الحاكم. بل وستكشف الأيام التالية للحرب ممارسات أبشع للضغط على المقاومة الفلسطينية، وابتزاز يتجاوز إتاوات آلاف الدولارات للمرضى وغيرهم من المسافرين من معبر رفح، هذا عدا عن تعميق ورفع السور الفاصل بين غزة ومصر، بأكثر مما هو بين مهربي المخدرات إلى دولة الاحتلال، بدءاً من جنوبي قطاع غزة في الحدود بين سيناء وفلسطين المحتلة.

بالطبع مرة أخرى وجب التذكير، لا أحد يطالب جيش مصر ونظامها الانتفاض على وقائع مذلة للعرب، وفتح جبهة مع الاحتلال الإسرائيلي، ولا أحد يظن أن المواد المكدسة في العريش هي من جيوب النظام في القاهرة، وذلك أيضاً ملف مخزٍ سيفتح حين تضع الحرب أوزارها، إذ يمس دولاً ومنظمات أرسلت مئات الأطنان وسيارات إسعاف ومعدات أخرى حيوية لإنقاذ الحياة، والتي صار مصيرها مجهولاً في أروقة نظام الأوليغارشية.

خطاب إطباق الحصار والفرجة على الإبادة

فخطاب أنه لن يُسمح بتهجير سكان غزة إلى سيناء لا يواجه الحقيقة المرة (ليس في طلب السيسي بداية الحرب نقلهم إلى النقب وقوله: ريثما تنتهي من تصفية المسلحين، وإعادتهم إن رغبت) في أن مأساة حصار قطاع غزة المزدوج يعمقها تفريط النظام بالفرص الكثيرة لكسر الحصار، على الأقل تطبيقاً لمنع التهجير بتعزيز صمود الغزيين على أرضهم.

أقله كان يمكن للقاهرة، لو طبقت كسر الحصار وقلبت الطاولة على أوروبا وأمريكا، وحتى دول الإقليم، استعادة بعض ما يأمله العربي وعول عليه من “أم الدنيا” و”الشقيق الأكبر”.

التساوق مع توجهات بوصلة واشنطن وتل أبيب، ومراهنة بعض الأطراف الإقليمية العربية على كسر المقاومة الفلسطينية، للعودة نحو مسار “فلسطين ليست قضيتي”، لأجل “تطبيع” تبين أنه لم يجلب سوى مزيد من الوهن والتفكك و”قلة القيمة والقدر”، لا يزرع في ذاكرة الأجيال سوى حالة عار وخزي رسمي عربي واسع، اختار الوقوف عاجزاً، بل ومراهناً على “التخلص من صداع قضية فلسطين”، حتى في فعل شيء متعلق بتحقيق مصالح “الأمن القومي”.

لعل هذه الركاكة (اتسمت بها سياسات نظام السيسي منذ 2013)، وخاصة فيما يتعلق بدور مصر وتأثيرها ونفوذها، لم تقد إلى إظهار مخالب فرض ولا حتى خطاً أحمر واحداً بوجه تل أبيب عليه. بل إن التهديد الأخير بتجميد “كامب ديفيد” لا يعيره نتنياهو بالاً، لأنه يدرك أنها شعارات لا أكثر.

فحتى في زمن الرئيس الأسبق حسني مبارك لم تصل السياسات الخارجية وريادة مصر، بالتعاون مع السعودية ودول الخليج في قضايا عربية عدة، إلى هذا المستوى من “الحيادية”، وتحويل البلد العربي الأكبر إلى مجرد “وسيط”.

ما يجري على الأرض ليس في مصلحة مصر الدولة على المديين المتوسط والبعيد. فاستصغار دورها واختزاله بتلك الصورة التي يظهرها مرتبكة ومائعة المواقف، في غياب الحزم المطلوب للجم الاحتلال عن تجاوز الخطوط، ليس فقط بشأن محور فيلالفيا واجتياح رفح، بل  باستخدامه التجويع وضرب البنى التحتية والعقاب الجماعي في سبيل تحقيق الإبادة وتهجير الفلسطينيين إلى سيناء.

بالطبع مصر أكبر من أن يجري تقزيمها، وتقديمها للعرب على أنها ملحق في سياسات واشنطن، أو راضخة لدولة احتلال بحجة “معاهدة السلام”، التي خرقت من الاحتلال عشرات المرات، وبقيت مصر هدفاً للتجسس والاستهداف الصهيوني الأمني، لأجل ضرب مجتمعها ونسيجها الوطني، ولاستهداف مصالح وقوة مصر في دوائرها الإقليمية، بما في ذلك في القارة الأفريقية.

نعم، القاهرة قادرة على تشكيل جبهة عربية واضحة الرسالة: أوقفوا الحرب.. ومعبر رفح مفتوح لدخول ما يحتاجه الناس للصمود على أرضهم. فلتجرب مرة واحدة، وحينها سترى مصر الدولة أن مصلحتها ليست في تسجيل ما سجلته نكبة عام 1948، وأدوار جيوش “تسليم فلسطين”.

فيينا – الكاتب ناصر السهلي

شاهد أيضاً

النمسا – حلول رقمية مبتكرة لتقليل انبعاثات قطاع التنقل

دشنت النمسا برنامجا جديدا للحد من انبعاثات الغازات الدفيئة في مجال التنقل، يركز على تحقيق …