“التلويح بعلم فلسطين إرهاب”.. كيف سقطت أوروبا بامتحان الحريات بعد حظرها الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين؟

الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين في ألماني

تجمَّع 10 آلاف شخص أمام بوابة براندنبورغ الشهيرة في برلين، يوم الأحد 22 أكتوبر/تشرين الأول، لإظهار تضامنهم مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وأيَّدت الأحزاب السياسية الكبرى هذه الوقفة، بل وأعلن المستشار الألماني في خطاب متحمّس أن بلاده تقع عليها مسؤولية وطنية عن “حماية الحياة اليهودية”.

على النقيض من ذلك، اقتحم ضباط مدججون بمعدات مكافحة الشغب تجمعاً أصغر كان قد وقف المشاركون فيه على بُعد بضعة بنايات فقط من التجمع الأول ملوِّحين بالأعلام الفلسطينية في تحدٍّ للحظر المفروض على الاحتجاجات المناصرة للفلسطينيين. وبعد مداهمة الاحتجاج، اقتاد الجنود بعض المشاركين بعيداً عن المكان وأيديهم مقيدة. وتفرّق بقية المتظاهرين وقد أخذ منهم الغضب كل مأخذ.

أوروبا تسقط في امتحان “حرية التعبير” عندما يتعلق الأمر بفلسطين

قالت رابعة، وهي امرأة تبلغ من العمر 28 عاماً ويعيش بعض أفراد عائلتها في قطاع غزة، بُعيد تفريق الاحتجاج لصحيفة The Washington Post الأمريكية: “لكل شخص الحق في أن يحزن، ولكل شخص الحق في أن يروي قصته”.

أخذت شوارع أوروبا تتحول إلى ساحة اختبار لبعض المبادئ الأساسية المزعومة في العالم الغربي بسبب الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وعلى رأس هذه المبادئ: الحق في التجمع السلمي وحرية التعبير.

بزعم الحفاظ على المصلحة العليا للنظام العام وسلامة المواطنين، حظرت الحكومات الوطنية والمحلية في الدول الأوروبية الكبرى الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين، واعتقلت مئات المتظاهرين. وأذِنت مدينة برلين لمدارسها في حظر الأوشحة الفلسطينية، وخرائط الأراضي المحتلة التي تحمل ألوان العلم الفلسطيني، والملصقات التي كُتب عليها “فلسطين حرة”.

جاءت هذه التحركات وسط مزاعم من السلطات بأن هناك “موجة من التهديدات باستهداف المدارس والمواقع الثقافية ومحطات المواصلات، وزيادة في البلاغات الواردة عن حوادث معاداة السامية”.

دعم مطلق ومفتوح لإسرائيل

ومع ذلك، شككت الأصوات الناقدة في استناد القيود المفروضة على الاحتجاج إلى “مخاوف على الأمن العام”، وذهبت إلى أن هذه القيود إنما هي تجسيد لانتهاك الحكومة حقوق المواطنين وانحيازها لبعضهم على حساب آخرين، وقد ارتفعت هذه الأصوات بعد أن خفتت حدة الاستهجان العالمي لهجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول في مقابل المخاوف المتصاعدة من تزايد عدد الضحايا من الفلسطينيين تحت وطأة القصف الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة.

وأعرب بعض الزعماء الأوروبيين عن قلقهم بشأن سقوط آلاف الضحايا من المدنيين الفلسطينيين، إلا أن زعماء ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا، ومعهم رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، أجمعوا على الدعم المطلق لإسرائيل.

وانطوى هذا الدعم الدبلوماسي على إشارات بأن هذه الدول ترى نفسها لا تزال مديونة بدين غير قابل للسداد لليهود واليهودية. فعلى سبيل المثال، أعلنت حكومة رئيسة الوزراء الإيطالية اليمينية المتشددة، جورجيا ميلوني، عن تخصيص أموال لإنشاء مُتحف جديد للهولوكوست، وقال وزير الثقافة الإيطالي، جينارو سانجوليانو، في بيان: “من واجبنا أن نفعل ذلك حتى لا ننسى شرور المخطط النازي الفاشي الإجرامي، والقوانين العنصرية المشينة”، و”هذا الأمر أكثر أهمية اليوم.. ونحن نشهد مذابح في إسرائيل”.

تتصاعد التوترات بشأن الصراع في الشرق الأوسط في الولايات المتحدة أيضاً، وخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي، وفي الشركات، والجامعات. لكن القيود المفروضة على حرية التعبير والتجمع أوسع نطاقاً بكثير في أوروبا. ويعدُّ إنكار المحرقة النازية لليهود جريمة يعاقب عليها القانون في أكثر من 12 دولة أوروبية.

قالت ديما الخالدي، مديرة منظمة “فلسطين القانونية”، وهي مجموعة مناصرة مؤيدة للفلسطينيين في الولايات المتحدة: “ليس هناك شك في أن تدابير حماية الحقوق التي ينص عليها التعديل الأول من الدستور [في الولايات المتحدة] أقوى بكثير من نظيرتها في أوروبا”، والمقصود أن”المؤسسات العامة والمسؤولين في الولايات المتحدة تعترضهم قيود أكبر في فرض الرقابة. فنحن لا نرى هنا حظراً على الكوفية الفلسطينية، ولا حمل العلم الفلسطيني، أو إلغاء المظاهرات على نحو ما نشهده في أوروبا”.

فرنسا تسعى إلى حظر شامل على الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين

تضم فرنسا أكبر جالية لليهود والمسلمين في أوروبا، ومع ذلك فهي تفرض إحدى أوسع عمليات الحظر في القارة على الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين. وقد سارع المسؤولون الفرنسيون بإعلان التضامن مع إسرائيل بعد هجمات حماس، وأضاءوا برج إيفل بنجمة داود، وسمحوا للمتظاهرين بإنشاد النشيد الوطني الإسرائيلي في الشوارع، لكن وزير الداخلية جيرالد دارمانين أمر -في المقابل- بحظر جميع الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين، بدعوى “أنها من المرجح أن تخلَّ بالنظام العام”.

منعت السلطات الفرنسية الرابطة الإقليمية للفلسطينيين من تنظيم احتجاج في باريس في 14 أكتوبر/تشرين الأول. وقال وليد عطا الله، رئيس الرابطة، إنه “أمر شائن، وصادم، فمن غير المقبول ألا نستطيع التعبير عن احتجاجنا وهناك مذبحة تُبث على الهواء مباشرة”.

بُعيد ذلك، حكمت أعلى محكمة إدارية في فرنسا برفضِ الحظر الشامل الذي أقرته السلطات على المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين، غير أنها منحت السلطات المحلية حقَّ منع الاحتجاجات على أساس النظر في كل حالةٍ على حدة. وشملت الأسباب التي رأت المحكمة أنها تستدعي حظر التظاهرات: استثارة “الأعمال المعادية للسامية في فرنسا”، و”المخاوف المشروعة بشأن النظام العام”.

قالت فاني جالوا، رئيسة برنامج الحريات في منظمة العفو الدولية بفرنسا، إن تدخل المحكمة قلَّل من “خطر الحظر التعسفي لهذه المظاهرات”، إلا أنه لا يزال بإمكان السلطات أن تفتش في البيانات المتوفرة لديها بشأن المنظمات، وأن تستدعي حججاً فضفاضة لمنعها من تنظيم مسيرات أو احتجاجات.

سمحت سلطات باريس بتنظيم مسيرة مؤيدة للفلسطينيين يوم الأحد 22 أكتوبر/تشرين الأول، واحتشد آلاف الأشخاص في ساحة الجمهورية، ولوّحوا بالأعلام الفلسطينية. وذكرت صحيفة “لوموند”، نقلاً عن السلطات المحلية، أن الاحتجاج كان سلمياً إلى حد كبير، لكن الشرطة اعتقلت 10 أشخاص، بدعوى رفعهم شعاراتٍ مُعادية للسامية وطلاء تمثال ماريان في ساحة الاحتجاج.

“التلويح بعلم فلسطين ربما ينطوي على تمجيد للإرهاب!”

لم تحظر السلطات في بريطانيا الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين، إلا أنها اتهمت كذلك بالتعسف في القيود المفروضة على التظاهرات والشعارات المرفوعة فيها. إذ كتبت وزيرة الداخلية، سويلا برافرمان، رسالة إلى كبار رجال الشرطة في إنجلترا وويلز، تقول فيها إن القيود يجب ألا تقتصر على الرموز والشعارات المؤيدة لحماس صراحةً، و”أحثُّ الشرطة على النظر فيما إذا كانت الهتافات مثل: (فلسطين ستتحرر من النهر إلى البحر) تعبِّر عن رغبة عنيفة في محو إسرائيل من العالم”، وزعمت أن “التلويح بالعلم الفلسطيني، في سياقات معينة، ربما ينطوي على تمجيد للإرهاب”!

ويتخوف المسؤولون البريطانيون من الارتفاع الكبير في الحوادث المعادية للسامية هذا الشهر. فقد ذكرت شرطة العاصمة لندن أن البلاغات عن حوادث مُعاداة السامية قد ارتفعت بنسبة 1353%، وأن بلاغات الحوادث المعادية للإسلام زادت بنسبة 140%، بالقياس إلى المدة نفسها من العام الماضي.

استنكر النشطاء التوصيات المتداولة باعتقال من يرفع العلم الفلسطيني. ووصف بن جمال، مدير حملة التضامن مع فلسطين، تعليمات برافرمان بأنها “مدعاة للقلق للعميق”. وقال: “هذه التصريحات تهدد الحريات المدنية، وتجعل تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم أمراً طبيعياً”.

على إثر ذلك، حذرت نائبة مفوض شرطة العاصمة، لين أوينز، من اتهام الناس بتأييد حماس بناءً على تأويلات فضفاضة. وكتبت: “إن ظواهر التعبير عن الدعم للشعب الفلسطيني علانية، ورفع العلم الفلسطيني، لا تمثل بمفردها جريمة جنائية”. ومع ذلك، فقد اعتقلت شرطة لندن ما يقرب من 30 متظاهراً الأسبوع الماضي.

جدل في النمسا بشأن شعار مؤيد للفلسطينيين

حظرت الشرطة في فيينا مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين قبل ساعات فقط من بدايتها لأن المنظمين استخدموا شعار “فلسطين حرة من النهر إلى البحر” في دعوة الناس للاحتشاد عبر الإنترنت.

تباينت المعاني المتداولة لهذا الشعار. واعترض ميكيل أوليغا، أحد منظمي حركة مقاطعة إسرائيل في النمسا، على المزاعم القائلة بأن هذا الشعار يحرض على إلقاء اليهود في البحر، وقال إنه صرخة استنكار لنظام الفصل العنصري في إسرائيل.

وقال أوليغا إن السلطات النمساوية تتعسف البحث عن أي حجة لإلغاء التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين، و”لا شيء يكرهه المجتمع النمساوي أكثر من الوصم بمعاداة السامية، على الرغم من أن سلوك اليمين المتطرف في البلاد مشحون بمعاداة السامية”.

أعلنت شرطة فيينا في بيان أصدرته بعد ذلك أن الشعار “لا يمثل تحريضاً على الكراهية”.

ألمانيا تقمع الاحتجاجات العامة المؤيدة للقضية الفلسطينية

وربما تكون قضية الشعارات والمظاهرات أكثر حساسية في ألمانيا من أي مكان آخر، فعلى الرغم من أن البلاد تضم أكبر جالية فلسطينية في أوروبا، فإنها مسكونة كذلك بهواجس التفكير في المحرقة النازية ومسؤولية ألمانيا التاريخية عنها.

ينص الدستور الألماني على حماية حرية التعبير والرأي والتجمع، لكن سلطات الولايات لديها القدرة على تقييد التجمعات. وقد رفض المسؤولون في برلين السماح بمعظم الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين هذا الشهر. وحظرت الشرطة مظاهرة تدعو إلى “السلام في الشرق الأوسط” يوم الأحد الماضي، بدعوى أنها تنطوي على خطر مباشر، يتمثل في ترديد “شعارات الكراهية والمعادية للسامية، وتمجيد العنف، وإعلان الرغبة في استخدام العنف، ومن ثم الترهيب، وإمكان ارتكاب الأعمال العنيفة”.

وفرضت هامبورغ، ثاني أكبر مدينة في ألمانيا، حظراً شاملاً على التظاهرات، وإن كان مؤقتاً. وشهدت بعض الولايات اشتباكات بين شرطة مكافحة الشغب والمتظاهرين.

قال جوزيف شوستر، رئيس المجلس المركزي لليهود في ألمانيا، إن حظر الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين “لها أسباب وجيهة بالتأكيد”، فهذه “المظاهرات لا تكتفي بتأييد الفلسطينيين، بل تتضمن شعارات معادية لإسرائيل وعدوانية ومعادية للسامية”.

وفي خطاب أمام البرلمان الألماني يوم 12 أكتوبر/تشرين الأول، قال المستشار أولاف شولتز إن جماعة “صامدون” المدافعة عن حقوق الأسرى الفلسطينيين ستُحظر في البلاد؛ لأن أنصارها شُوهدوا وهم يحتفلون في برلين في أعقاب هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول على إسرائيل.

لكن الحكومة الألمانية أخذت تواجه معارضة متزايدة لتدابيرها المتشددة. ونشرت صحيفة Taz رسالة مفتوحة يوم الأحد 22 أكتوبر/تشرين الأول، أدان فيها أكثر من 100 فنان وكاتب يهودي في ألمانيا سلوك البلاد تجاه مؤيدي القضية الفلسطينية. وقال الموقعون على البيان: “أشد ما يخيفنا هو أجواء العنصرية وكراهية الأجانب السائدة في ألمانيا.. ونرفض بشدة الخلط بين معاداة السامية وكلِّ انتقاد لدولة إسرائيل”.

وقال كليمنس أرزت، أستاذ القانون الدستوري والإداري في كلية الاقتصاد والقانون في برلين: السلطات توسِّع “الاعتبار السياسي المتعلق بمسؤولية ألمانيا عن المحرقة بحيث يمتد إلى القوانين، وينبغي ألا يكون الأمر كذلك، إذ لا يجوز أن تكون اعتبارات الدولة أداة قانونية لاتخاذ إجراءات ضد التجمعات. ومن الواضح أن سلطات بعض الولايات تخلط بين هذين الأمرين في الوقت الحالي”.

المصدر – وكالات

شاهد أيضاً

قانون لجوء الأجانب في مصر يثير الجدل.. كيف أجبر الاتحاد الأوروبي القاهرة على الإسراع بتمريره؟

مررت الحكومة المصرية بشكل مبدئي قانون لجوء الأجانب الذي أثار جدلاً حقوقياً وشعبياً واسعاً خلال …