منذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة، كانت بارزة حملات فصل موظفين وصحفيين من مؤسسات عالمية، لمجرد أنهم عبّروا عن تضامنهم مع أهالي القطاع. وغالباً ما كان يأتي قرار الفصل بعد حملات تشهيرٍ واسعة تعرّضوا لها عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
ووسط مطالباتٍ بفصل أساتذة جامعيين من مناصبهم الإدارية، والتشهير بطلابٍ -على خلفية نشاطهم الافتراضي وإدانتهم لاستهداف المدنيين- برز اسم “مهمة كناري” (Canary Mission) بقوة بين رواد السوشل ميديا.
ما هي شبكة Canary Mission؟
يُمكن القول إنها أشبه بمنظمة سياسية سرية غير أكاديمية، تستخدم موقعها الالكتروني الخاص للتشهير بطلاب الجامعات وأعضاء الهيئة التعليمية -ومنظمات أخرى- الذين يدافعون عن حق الفلسطينيين، أو يتحدثون علناً عن النزاع الإسرائيلي الفلسطيني.
ظهرت Canary Mission للمرة الأولى في ربيع عام 2015، مع سلسلة من الهجمات الافتراضية على طلاب جامعيين ناشطين، تحدثوا علناً عن حرمان الفلسطينيين من حقوقهم الإنسانية.
التكتيكات التي تتبعها هذه المنظمة تهدد أولاً مبدأ حرية التعبير، المفترض أنه مقدّس في دساتير بلاد العالم، كما تهدد حق الطلاب في مواصلة التعليم، وفرصة الأساتذة في متابعة مسيرتهم المهنية وإيجاد عملٍ آخر.
ووفقاً للجنة جمعية دراسات الشرق الأوسط (MESA)، تؤمن بأن تعريف الطلاب والأساتذة وقادة الجامعات إلى أهداف وأساليب منظمة Canary Mission هو أولوية ملحة، في إطار سعيها لمكافحة التهديدات وانتهاكات الحرية الأكاديمية.
ورغم أن قيادة المنظمة وأعضاءها مجهولون، فمن الواضح أنها تتبع أيديولوجياً اليمين المتطرف في السياسة الإسرائيلي. ووفقاً لموقعها الرسمي، تقول Canary Mission إنها “توثق أسماء الأشخاص والجماعات التي تروج للكراهية ضد الولايات المتحدة، وإسرائيل، واليهود في حرم جامعات أمريكا الشمالية”.
حتى الآن، قامت هذه المنظمة بنشر ملفات تعريف لأكثر من 2500 فرد، معظمهم من طلاب المرحلة الجامعية والدراسات العليا، إضافةً إلى الأساتذة والمنظمات التي تدعم السردية الفلسطينية وحقها في الدفاع عن أرضها.
بعد حملات التشهير الواسعة، تنقل هذه الشبكة “لائحتها السوداء” إلى إدارة الجامعات، بهدف الإشهار أولاً ثم إلحاق الضرر بالمستقبل المهني للأسماء الواردة في اللائحة؛ بهدف نشر الرعب ومنع الآخرين من التعبير عن الرأي المعادي لسياسات إسرائيل وأمريكا.
كيف تعمل منظمة “كناري ميشن”؟
في سبتمبر/أيلول 2016، كان أحمد أبوراس يجلس داخل صفّه في كلية الحقوق بولاية نيوجيرسي، حين جاءه ضابط أمن من الكلية وطلب التحدث إليه على الفور. وحين وصل أبوراس إلى مكتب الضابط، فوجئ بوجود رجلين ينتظرانه.
أحدهما كان محقق شرطة ولاية نيوجيرسي، والآخر عميل من مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI)، وكلاهما جزء من فرقة العمل المشتركة لمكافحة الإرهاب في الولاية.
وفي حديثٍ إلى موقع The Intercept، قال أبوراس إن ضابط الأمن تركه معهما لوحده في المكتب. ولمدة 35 دقيقة، أجروا تحقيقاً معه حول منشورات مؤيدة للفلسطينيين كان قد كتبها على فيسبوك.
كان هذا واحداً من سلسلة تحقيقات أجراها مكتب التحقيقات الفيدرالي مع الناشطين المؤيدين لفلسطين، في جميع أنحاء البلاد منذ العام 2015.
وقد استندت بعض هذه المقابلات إلى قوائم سوداء أنشأتها جماعات يمينية متطرفة مؤيدة لإسرائيل، وركزت على صلات مزعومة بالجماعات المسلحة في الشرق الأوسط. وقد ذكر الموقع أنه علم بـ4 مقابلات من هذا النوع جرت في العام 2016.
واسم Canary Mission لم يكن سرياً، ففي اثنتين من المقابلات -بما في ذلك مقابلة أبوراس- أشار مكتب التحقيقات الفيدرالي إلى موقع “كاناري ميشن”، الذي يبدو أن ادعاءاته ولائحاته السوداء (التي لم يتم التأكد من صحتها) توجّه الحكومة الأمريكية.
وفي السياق نفسه، سلّطت صحيفة “الغارديان” البريطانية الضوء على نشاط كاناري ميشن، بعدما أجرت حواراً مع المخرجة ريبيكا بيرس التي تم التشهير بها على موقع المنظمة، باعتبارها “راديكالية”.
جاء ذلك على خلفية مشاركة بيرس، وهي طالبة في جامعة كاليفورنيا سانتا كروز (UCSC)، في حملةٍ لإدانة الجامعة بسبب تصريحاتٍ اعتُبرت معادية للإسلام، كان قد أدلى بها أحد الأساتذة.
وفي حديثٍ إلى The Guardian، قالت بيرس إن الموقع “مليء بالصور النمطية العنصرية حول نشاطنا، ويحاول عمداً ربط حركة طلابية متنوعة وغير عنفية بمعاداة السامية والإرهاب”.
وأعربت ربيكا بيرس عن قلقها من احتمال رؤية أصحاب العمل لما نُشر على موقع كناري ميشن، وتكوين فكرة خاطئة عنها. وهذا بالضبط ما تهدف إليه هذه المنظمة.
من يموّل “مهمة كناري”؟
عام 2018، نشرت الصحيفة الأميركيّة The Forward اليهودية الأمريكية تحقيقاً عن موقع “مهمة كناري” كشفت خلاله أن الموقع يتلقى تمويلاً ضخماً من الجالية اليهودية في الولايات المتحدة، ولاسيما من “الاتحاد اليهودي” في سان فرانسيسكو.
وبحسب “فوروورد”، تلقت شبكة مهمة كناري مبلغ 100 ألف دولار من صندوق ديلر فقط خلال عام 2017، وهي إحدى أكبر المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة وأكثرها تأثيراً؛ وقد حُوّل هذا المبلغ عن طريق صندوق إسرائيل المركزي.
وصندوق إسرائيل المركزي منظمة أميركية خيرية، يتبرّع اليهود الأمريكيون لإسرائيل من خلاله، ويتم إعفاؤهم من دفع الضرائب للحكومة الأميركية. وبدوره، يحول الصندوق هذه المبالغ إلى المنظمات اليمينية في إسرائيل.
في إحدى الوثائق الرسمية التي تفصّل مصادر تحويل الأموال، يظهر إلى جانب تحويلات صندوق ديلر (بالخطأ، وفق ترجيح “فورورد”) أن التحويل قد تم من خلال منظمة “ميغاموت شالوم”، ومعناها بالعربية “منهجيات السلام”؛ وهي هيئة مجهولة مسجلة في دولة الاحتلال على أنها “شركة غير ربحية لمصلحة الجمهور”.
تهدف الهيئة، بحسب تسجيلات الشركة في إسرائيل، إلى “الحفاظ على القوة والصورة الوطنية لدولة إسرائيل، والعمل من خلال نشر المعلومات بالوسائل التكنولوجية”.
وفق التسجيل، يُشرف على الشركة جوناثان باش، يهودي من أصول بريطانية، وهو عضو في هيئتها الإدارية أيضاً. في الوقت ذاته، ليست للشركة أي نشاط إلكتروني ظاهر، ما عدا إحالاتٍ على الإنترنت حُذفت بعد نشر تحقيق “فورورد”.
بعد الكشف عن مموّلي Canary Mission، نشرت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية تحقيقاً آخر يُشير إلى أن المخابرات الإسرائيلية وأمن الحدود، يستخدمان موقع “كناري ميشن” كمصدرٍ معتمد لاستقاء المعلومات حول المواطنين الأميركيين، وأنّ منع دخول الأجانب يتمّ على أساس ظهور اسمهم في الموقع.
وقبل إعادتهم إلى بلادهم، يخضعون إلى تحقيقات تتعلّق بنشاطهم السياسي، وتُطرح عليهم أسئلةً عن المعلومات الواردة في موقع “مهمة كناري”.
كل هذه المؤشرات، تعزّز -حسب صحيفة “هآرتس”- التقدير بأن الموقع على صلةٍ مباشرة بجهات حكومية إسرائيلية، على رأسها وزارة الشؤون الاستراتيجية؛ ما يعني تشغيل الحكومة الإسرائيلية لجهاز ملاحقةٍ للمواطنين الأميركيين على خلفية مواقفهم السياسية.
المصدر – وكالات