عندما وعد الرسام الإيطالي رافائيل إدارة الفاتيكان بتزيين قصر “أبوستوليك” أو “القصر الرسولي” في عام 1509م، لم يكن يعتقد أن باباوات الفاتيكان سيطلبون منه رسم نخبة فلاسفة وعظماء اليونان في لوحة واحدة سماها مدرسة أثينا التي ستصبح واحدة من أجمل كلاسيكيات الإبداع الفني على مر التاريخ.
لا شك أنه لم يكن يتوقع أيضاً أن لوحته تلك على عكس عنوانها لم تشمل الإغريق فقط؛ لأن مفكراً أندلسياً إسلامياً كان لا بد من إدراجه هناك؛ لحكمته وعظمته الفكرية، لقد كان ذلك الشخص هو الفيلسوف الطبيب ابن رشد، أو مثلما يدعوه الإفرنج “Averroès”.
من هو ابن رشد؟
هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد، وُلد عام 1126م بالأندلس عن عائلة زعيمة الفقه والفكر إبان حكم المرابطين ثم الموحدين، درس في صغره الفقه والعقيدة، وحفظ “الموطأ” ثم توجَّه للطب والفلسفة والقضاء وبرع فيها، قبل أن يعينه الخليفة “أبو يعقوب” طبيباً له؛ بنصيحة من “ابن طفيل”، الذي كان صديقه في الوقت نفسه، وكانت تلك بدايته في البلاط، التي اتسعت إلى مهام أخرى؛ فشغل مناصب القضاء في أقطار مختلفة من الأندلس والمغرب.
زادت شهرة ابن رشد بعد اعتلاء ابن أبي يعقوب “المنصور” الخلافة، وكان ما ميزه هو إلمامه بعلوم عدة تطبيقية وتجريدية كالفيزياء والفلك؛ لكن بزغ نجمه أكثر ما بزغ في الفلسفة والطب، فكان نابغة قلَّ نظيره في ذاك الزمان، ولم يعرف العامة في وقته رجلاً اجتمعت فيه الحكمة والطب والقضاء سواه.
يعتبر الأوروبيون هذا الفيسلوف واحداً من أعظم الفلاسفة الذي نقلوا أوروبا من العصور الوسطى إلى فجر النهضة، ويدعون ابن رشد بـ “المعلق”، حتى إنه كان يذكر بهذا اللقب دون اسمه ذلك لإسهاماته العظيمة في نقل وشرح الفلسفة اليونانية وإيصالها لهم، ولعلنا ما كنا لنعرف عن فلسفة الإغريق لولا هذا الشخص؛ ذلك لأنه عكف على دراسة كتب “أرسطو” وشرحها مع تبيان موقفه المعجب بها، ولعل ما يدرسه الأوروبيون في جامعاتهم عن فلسفة الإغريق هي تقريباً بعينَي ابن رشد.
قد كانت تلك الفلسفة هي نواة فكره التجديدي القائم على مبادئ المدرسة السكولاستية، وهي فلسفة يحاول أتباعها تقديم برهان نظري للنظرة العامة الدينية للعالم، بالاعتماد على الأفكار الفلسفية لأرسطو وأفلاطون، وتمخض عن دراسته لهذه الفلسفة مذهب ابن رشد الخاص، والذي يعرف “الرشدية” كفكر ناقل وناسخ ومجدد ساعٍ للألفة بين الفكر الديني والفلسفي، أطنب في شرحه الباحث الفرنسي “آرنست رينان” في كتابه “ابن رشد والرشدية”.
مدرسة ابن رشد الفلسفية
ترتكز فلسفة ابن رشد على التجديد الفكري في الدين، وإعادة النظر في المسلمات، والثوابت الشرعية، وشرحها بعين العقل بدل جعلها على الرف بعيدة على النقاش؛ لأن الإيمان بالاقتناع خير من الالتزام بالجهل، ذلك لرأيه بأن الشريعة والحكمة العقلية لا يمكن أن يتعارضا ما دام مصدرهما واحد هو الوحي الإلهي؛ حيث لا يمكن أن يخلق الله لنا عقولاً ويمنحنا شرائع مخالفة لها.
قد كانت هذه قاعدة دعوة ابن رشد إلى تحكيم العقل عن طريق القياس والشرح البرهاني والتحليل في تأويل النصوص الدينية بعيداً عن الشرح التقليدي، وسعى لتطبيق تلك القاعدة انطلاقاً من قناعته التي تجعل هناك توأمة بين الدين والفلسفة كموقف تركيبي وسطي بين التقليديين والمشائين معتبراً أن “الحكمة والشريعة توأمان بالرضاعة وهما متصاحبتان بالطبع ومتحاباتان بالجوهر”.
قد كان ما سبق هذا نتاجاً لإعجاب ابن رشد بالفلسفة اليونانية الأرسطية العملية البعيدة عن المثالية الأفلاطونية، التي يعتبر التشدد الديني وجهاً من أوجهها، وتمسكه بالديانة الإسلامية، ورغم ذلك لم ينجُ ابن رشد من سهام التكفير التي أطلقها عليه رجال الدين آنذاك.
كان مجيء ابن رشد للعالم خاتمة في سياق نقاش فكري وفلسفي مثير في المشرق الإسلامي بين المتكلمين المهتمين، خصوصاً بالفلسفة اليونانية، والفقهاء، ووصل لحد التكفير والزندقة، وقد كان أحد أكبر أبطاله الإمام الأكبر أبو حامد الغزالي من جهة، والشيخ الرئيس ابن سينا والفارابي من جهة أخرى.
رغم أن ابن رشد كان في صف المتكلمين، إلا أنه كان يحمل أفكاره الخاصة التي رغم توافقها العام مع ابن سينا والفارابي، إلا أنها لا تعني التطابق التام، ومن أشهر مخرجات هذا النقاش الكتاب المعروف للغزالي “تهافت الفلاسفة” الذي هاجم فيه بشدة وحدة المتكلمين المعجبين والمتبنين للفلسفة اليونانية، لدرجة أنه في النهاية أصدر فتوى بتحريم الاطلاع على كتب الأقدمين لما فيه -حسبه- من خطر على العقيدة.
قد ورد في كتاب “تهافت الفلاسفة” عشرون قضية، ثلاث منها اعتبرها تكفيرية، وهي: “قدم العالم، وعلم الله بالكليات والجزئيات، والحشر”.
ردَّ ابن رشد فيما بعد بكتابين؛ الأول “فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من اتصال” على فتوى تحريم الفلسفة القديمة، والثاني الأشهر “تهافت التهافت”، الذي ردَّ فيه بنفس المنهجية وبنفس الترتيب على أبي حامد الغزالي.
سعى ابن رشد في كتابه “تهافت التهافت” إلى التأكيد على أن لدى الفلسفة والدين نفس الغاية، وهي الوصول إلى الحقيقة، وأن الاختلاف بينهما ليس في الجوهر؛ بل في الطريقة فقط، وأراد أن يبين أن الهجوم على الفلاسفة المتأثرين بالفلسفة اليونانية باطل؛ لأن:
أولاً: أفكار هؤلاء لا تعكس بالضرورة أفكار أرسطو، وذلك لعلمه الكبير في شرح الفلسفة الأرسطية، فدعا إلى الرجوع إلى أصل الفكر الأرسطي النقي بدل الحكم عليه من خلال آراء ابن سينا.
ثانياً: أن الفلسفة اليونانية بذاتها فيها من الصواب ما يجب أخذه، وأنها ليست الطريق نحو الزندقة، كما يزعم التكفيريون، إلا إذا لم يحسن المطلع توظيفها وذاك مشكل يعني المُطَلِعَ ولا يعني المُطَلَعَ عليه، واستدل على ذلك بمثال طبي قائل إن الماء برغم أنه ضروري إلا أن الإكثار منه يمكن أن يؤدي إلى الوفاة بالتسمم المائي، وهكذا الحال مع الفلسفة، ثم تصدى أيضاً بإطناب للغزالي وبيّن مواقفه تجاه القضايا التكفيرية الثلاث؛ قِدمُ العالم، والعلم الإلهي بالجزئيات، والحشر.
ابن رشد ونقل الفلسفة الأرسطية
كان ابن رشد الجسر الوحيد الذي نقل الفلسفة الأرسطية إلى العصور الوسطى بفارق زمني يجاوز خمسة عشر قرناً بمنهجية وشرح وإطناب دقيق، لقد كان النظارات التي يرى بها الأوروبيون الفلسفة اليونانية، ولهذا يقف على قمة عصر الفلسفة بعد أرسطو، ومن بعده توما الأكويني، ثم إمانويل كانط، على الترتيب الزمني.
قد كان تأثير ابن رشد على الفكر الأوروبي عظيماً، لدرجة أن كثيرين يعتبرون الفكر الرشدي واحداً من الأسباب الرئيسية غير المباشرة في بداية عصر النهضة، والذي استطاع أن يخترق الكنيسة بحد ذاتها، رغم أنها كانت تتظاهر برفضها لأفكار ابن رشد، في وقت انتكس فيه الفكر الرشدي في الشرق المتدين، ورُفضت أفكاره وحُرقت كتبه برعاية الخليفة أبي يوسف، الذي كان عكس والده غير متحمس للفلسفة تحت تأثير شيوخ وجماعات الدين الضاغطة، التي اتهمت ابن رشد بالزندقة، فنُفِيَ إلى “أليسانة”؛ حيث تم تهريب بعض من كتبه التي وصلت إلينا بالترجمة اللاتينية.
مارس ابن رشد إلى جانب الفلسفة والقضاء مهنة الطب، وكان من أنبغ أطباء عصره، وقد كان إلى جانب منصب قاضي القضاة الطبيب الشخصي للخليفة، وكتب أزيد من 20 كتاباً طبياً، أشهرها كتاب “الكُلِّيات في الطب” بالتعاون مع صديقه “ابن زهر”، أحد أعظم أطباء العصور الوسطى.
لقد كان كتاب “الكُلِّيات في الطب” بمثابة موسوعة جاملة لعلوم الطب، جاء في سبعة أبواب، تتطرق لمبادئ وقواعد العلوم الطبية؛ من علم التشريح والفيزيولوجيا والسيميولوجيا وعلم الأدوية والأغذية، فقد جاء كمقاربة متوازنة بين مدرسة أبي قراط ومدرسة جالينوس، وقد كان هذا الكتاب لعظمته المرجع الرئيسي لدراسة الطب في الجامعات الأوروبية حتى القرن السادس عشر، ومكافئاً في المغرب الإسلامي لكتاب “القانون في الطب” لابن سينا في المشرق، وقد كان يقول: “من اشتغل بعلم التشريح ازداد إيماناً بالله”.
توفي ابن رشد، الملقب المعلم الثاني، سنة 1198م بمراكش، ورغم أن الخليفة قد عفا عنه بعد تأكده من بطلان التهم الموجهة إليه وأكرم مثواه في نهاية عمره، إلا أنه لم يهنأ بذلك بعد أن داهمه المرض.
رحل ابن رشد ونُسيت أفكاره التي لفظها الشرق واحتضنها الغرب، ولي من الأصدقاء الأطباء وطلبة الطب من لم يكونوا ليسمعوا يوماً به لولا أن المستشفى الجامعي بمدينة عنابة تحمل اسمه، فقد كان ابن رشد يقول دوماً بأن القبيح ما قبّحه العقل وأن الجميل ما جمّله العقل، وما أجمل عقل ابن رشد!
المصدر – وكالات – شبكة رمضان