مع بداية شهر رمضان ينطلق ما يُعرف إعلامياً بالموسم الرمضاني للأعمال الدرامية، شهر كامل من كثافة المشاهدة التلفزيونية لما تم إنتاجه خصيصاً لهذا الشهر، حالة من الزخم والمزاحمة لعرض أعمال درامية من المفترض أن تكون من واقع الشارع المصري أو انعكاساً له، صور مكثفة ولقطات متعددة ومشاهد مصنوعة لهذا الحدث الضخم، بالإضافة لعرض مواد دعائية لكبرى الشركات، اعتماداً على تشغيل التلفاز يومياً أثناء وبعد الإفطار، كل عام يكثر الحديث عن الجودة والرداءة، عن القيمة الفنية والهراء الذي يتم تقديمه على الشاشات خلال سنوات عديدة.
مواد دعائية غير موجهة.. أين نذهب من عرض السلعة؟
منذ اليوم الأول انتشرت انتقادات لاذعة على مواقع التواصل الاجتماعي للقنوات والشبكات الإعلامية، بسبب تكثيف عرض المواد الدعائية خلال عرض المسلسلات وبرامج الترفيه. إعلانات لمنتجات غذائية ومدن سكنية ضخمة على أطراف المدينة، التي بات كل شيء فيها يدعو للهرب، سواء من الزحام الخانق أو من الفقر الذي أصبح مُسيطراً على وجهها بشكل عام، بالإضافة لمواد إعلانية ضخمة لشركات شبكات المحمول، التي يشكو الجميع من سوء خدماتها طوال العام! كل هذا الكمّ من الاستفزاز يتعرض له المشاهد المصري بلا توقف تقريباً، وبلا أي تناسب بين عرض المادة الإعلانية وبين المادة الفنية. قبل رمضان كتبتُ أن ما يحدث كل عام بالتأكيد لن يتغير، سيعترض الجمهور ويعبر عن غضبه واستيائه من أي شيء معروض لن يعجبه، وأن صناع هذه المواد لن يعتذروا عن أي خطأ صدر في محتواهم، أو عن خروج منتجهم الفني في صورة لا تُعجب المشاهد، والغريب أنه بالرغم من حدوث نفس الجدل في كل عام لم يلتفت أحد لأخطاء بالجملة ظهرت في الأعمال الفنية هذا العام، ولم يعتذر أحد أو يوضح أسباب هذه الأخطاء، وبالتالي فإن حملات السخرية انطلقت هذا العام بصورة مكثفة منذ اليوم الأول، ومن هنا بدأ الجدل.
أزمة صناعة المحتوى
في هذا الموسم الدرامي، الذي انكشفت رداءتُه مبكراً بسبب إعادة تدوير القصص المستهلكة، أو عيوب الصناعة التي لا يعتذر عنها صُناع المحتوى، يطفو على السطح لهذا العام وجود أزمة حقيقية على مستوى كتابة السيناريو وصناعة المحتوى. لا يخلو أي مسلسل من قصة مُكررة أو أكثر. تُعيد ياسمين عبد العزيز على سبيل المثال قصة حبها مع أحمد العوضي بعد ظهورهما معاً في مسلسل “اللي ملوش كبير”، أحمد العوضي لا يتغير ولا يتطور، بنفس الأداء العنيف ونبرة الصوت المتضخمة واللزمات الحوارية المقفاة لمغازلة ياسمين، التي تستند على محبة كبيرة من جمهورها، صنعتها منذ أيام قدرتها على التمثيل والتقمص والتطور الدرامي، بينما العوضي يبدو في رأي الجميع مجرد ممثل يبني نجاحه على نجاح ياسمين من خلال التعاون معها في كل عام.
أزمة الحوارات هذه موجودة تقريباً في أغلب المسلسلات المعروضة هذا العام، كل الشخصيات تقول حكماً وكلاماً موزوناً، يستخدمون لغة الجسد في التعبير عن وجودهم، يضخمون أصواتهم ويتعاركون بالأيدي، وكلهم ولاد بلد وجدعان ينصفون الضعيف. باستثناء عمل أو اثنين يمكن أن تُبدل القناة التلفزيونية لتجد أي شخصيتين تتحدثان في حارة شعبية، وتطالبان بعضهما بتلخيص الكلام وتقدير كبيرهم- بطل المسلسل- وعدم اللف والدوران، كليشيهات معبئة من المفترض أن تعبر عن الشارع المصري، رغم اقترابها من محتويات هزلية يتم تقديمها على مواقع التواصل الاجتماعي للسخرية من هؤلاء النجوم في الأساس! أزمة صناع الدراما هذا العام تبدو غير قابلة للتهاون معها، بسبب إسناد مهمة الكتابة لما يُعرف حديثاً بورش كتابة المحتوى، وهذا المصطلح العجيب الذي يظهر على تترات المسلسلات هو أحد أهم أسباب تفسخ الشخصيات وسطحيتها، ناهيك عن عدم وجود مسؤول واحد عن العبث الناتج في هذه المسلسلات، ما يجعل المُساءلة مؤجلة لأجل غير مسمى.
كتابة السيناريو من قبل ورش الكتابة تجعل كل ما نراه يبدو سطحياً، وشديد الضحالة، من المفترض أنه على مدار 30 حلقة يتم تقديم هذه الشخصيات بشكل مناسب يعرض تاريخها قبل حاضرها، ثم يبدأ البناء الدرامي في التصاعد، وصولاً للحبكة الدرامية في ذروة الأحداث، ولكن حالياً بات من السهل على المشاهد أن يتوقع الأحداث منذ أول حلقتين، والأسوأ أنه حينما يسخر من هذا الاستخفاف على مواقع التواصل يجد جرائد رسمية تتهمه بالهدم، وعدم فهم قواعد النقد الفني، وتتهمه بمحاولة إسقاط الريادة المصرية في الفن كما حدث مع منتقدي رحمة أحمد في مسلسل الكبير أوي، الممتد حتى الآن لموسم سابع لا يتابعه أغلب المشاهدين إلا للسخرية من إفلاس أحمد مكي، الذي لم يخرج منذ سنوات من عباءة شخصية الكبير التي ظهرت في 2010، أو كما حدث من بعض الجرائد التي امتدحت مسلسل “سره الباتع” فقط لارتفاع نبرة السخرية منه، بسبب الأخطاء التاريخية الفادحة فيه. كل هذا يمكن أن نعتبره كتقديم لأول أسبوع في دراما رمضان، التي يفتخر صناعها باحتلالهم التريند كرقم 1، حتى لو كان هذا بسبب سخرية المتابعين.
رقابة وفاعلية: كيف وصلنا إلى هنا؟
على مدار سنوات تعرض المحتوى الفني في مصر لحملات شاملة من التجريف، إما بسبب مقص الرقيب الأخلاقي ووجود تهمة إفساد الذوق العام الجاهزة لكل ما هو غير مناسب للعرض من وجهة نظر الرقابة، سواء بسبب تماسّه مع التابوهات الثلاثة الأشهر، التي تتعلق بالدين أو الجنس أو السياسة، أو بسبب سيطرة جهات معنية دون غيرها لإنتاج المحتوى العام. بالنظر بشكل عام إلى الموضوعات المطروحة فنياً في سينما ومسلسلات ما بعد ثورة 25 يناير، سنجد اختلافات جوهرية فيما يخص تعددية شركات الإنتاج واختلاف صُناع المحتوى من حيث الطبقات الاجتماعية والثقافية المختلفة قبل وبعد الثورة. نجد تقليصاً متعمداً تم لصالح فصائل سياسية واجتماعية تهدف لخدمة وجهات نظر محددة، هدفها الأساسي عدم الاشتباك فيما يخص المحظورات، ما أدى لانخفاض كفاءة المنتج المعروض، ونجد نجاح لمحاولات تفريغ المحتوى المرئي من قيمته، ومع سيطرة قطاع أو شركة إنتاج واحدة على ما يقرب من 75% من المحتوى المعروض، وعمل باقي شركات الإنتاج رغم كل المعوقات، وسعيها لكسب الرزق دون التعرض للإيذاء من الرقابة أو السلطة، ومع اختفاء ما كان يُعرف بالإنتاج المستقل الذي أنتج العديد من الأعمال الفنية المؤثرة في بداية الألفية الثالثة، فإننا سنجد وجود أعمال فنية رديئة، ورغم ذلك متصدرة، هو أمر طبيعي بسبب عدم وجود بدائل.
التضييق الرقابي والأمني وعدم خلق مناخ حر يسمح لإنتاج دراما جادة أو تقديم فكرة واحدة من قلب الشارع خلق فجوة عميقة بين الحقيقي وبين المعروض على الشاشة، لأن كل ما يدور داخل نطاق مدينة الإنتاج الإعلامي، وهو ببساطة مجرد محاكاة، تدور القصص الدرامية المُتخيلة التي بدورها هي قصص فارغة، بعد إفراغها من أي صراع فكري أو اجتماعي يناقش حقوق الأغنياء ضد الفقراء، المرأة ضد الرجل، الموظف ضد مديره في العمل، وهكذا، فتصبح القصة كلها غير واقعية تدور في مكان مُتخيل، حالة من التشابه تجتاح المجال الفني في مصر، وتنتشر في كل فروعه، بداية من الكتابة على مستوى الأدب الذي ينتشر في إصدارات لا حصر لها في معرض القاهرة الدولي للكتاب، بواسطة ما يزيد عن ألف دار نشر مصرية لا نجد من إصداراتهم إلا القليل جداً على مدار العام، والأقل ممن يتصدرون قوائم الأكثر مبيعاً أو الجوائز الأدبية، ثم وصولاً لأزمة المحتوى السينمائي الذي يشهد تراجعاً تاماً بسبب ما سلف ذكره عن مقص الرقيب، أو القصص غير الواقعية الخفيفة التي يستسهل الجميع تجسيدها، لضمان الترويج عربياً، وتردد الجمهور على شباك التذاكر، في ظل حالة التضخم المالي التي تعيشها مصر مع أغلب دول العالم، وحتى دراما رمضان التي أصابها ما أصاب كل الوسائط. كل هذا يدعو للقلق في وقت الحديث عن سحب الريادة المصرية في الفن، واتجاه أغلب النجوم للسعودية، بسبب سعيها لخلق محتوى يعوض غيابها تاريخياً عن إنتاج أي منتج فني من أي نوع، نقف نحن هنا على الهامش، نطرح أسئلة وننقد ما في وسعنا رؤيته لعلّ أحداً يُجيب.
سره الباتع وأحمد عز.. عودة الموصوم للظهور من جديد!
منذ بداية الموسم الدرامي ظهرت على استحياء آراء بعض الجماهير والعاملين في الأوساط الثقافية والفنية بمقاطعة مسلسل “سره الباتع”، المأخوذ عن قصة الكاتب المصري الراحل “يوسف إدريس”، والسبب هو إخراج هذا المسلسل بواسطة خالد يوسف، المخرج العائد من الخارج بعد فضيحة تسريب فيديو جنسي له مع فتاتين من الوسط الفني، وبالرغم من مرور أكثر من عام على عودة خالد يوسف لحياته الطبيعية، بل واحتفاء بعض الشخصيات العامة بعودته واستقباله كالأبطال، إلا أن ما يدفع للغضب هو نقيض هذه الحالة مع الفتاتين اللتين تم وصمهما بعد هذا التسريب، بالرغم من أن هذه الحادثة كان مقصوداً بها إقصاء خالد من مشهد ما، ولكنها مصر، وطننا الكبير الذي لا يصب جهله أو غضبه إلا على النساء، فلا أحد دافع عن الفتيات، ولا أحد خرج ليُدين خالد يوسف، باعتبار إقامة علاقة جنسية بين الرئيس والمرؤوس مسألة أخلاقية مُشينة، لعدم تكافؤ الفرص واستغلال النفوذ.
الغريب أنه ورغم كل هذا تم الالتفات لهذا المسلسل لاحتمالية تقديمه رؤية مختلفة للقصة أو لزمن حدوثها، إلا أن المخرج الفذ الذي لم يُوصم بالعار لفعلته أخرج للدراما المصرية قطعة غير فنية رديئة، مليئة بالعيوب والثغرات، التي لا تخلو مواقع التواصل منها منذ يوم العرض الأول، رغم الإمكانيات المادية الهائلة، وتعاونه مع صفوة نجوم الشباك في مصر، كل هذا بالإضافة لخروج كادرات مُشينة في قالب أشبه بقوالب الأفلام الإباحية لفنانة تونسية، وهو ما ليس بجديد في المحتوى المرئي لرجل يتعامل مع النساء من منظور ذكوري قبيح. ما دفع المشاهدين كالعادة للسخرية من الممثلة تارة، ومن المخرج العبقري تارة أخرى.
لا يختلف رأي الناس في خالد يوسف عن رأيهم في أحمد عز الذي، ورغم ظهوره في اعلان إحدى المدن السكنية، فإن الجميع تذكر قضيته مع الفنانة زينة، التي أنكر وأقسم على عدم حقيقة علاقته بها وانجابها لطفلين توأم منه، رغم صحة تحاليل DNA، وثبوت علاقته بها وشرعية زواجه منها وأبوته لولديها فيما بعد. بالرغم من هذا لم يتغير محتوى أحمد عز اللزج في ظهوره وحركاته، بالإضافة لوصمته هو أيضاً، كرجل تنكّر من أبنائه، ما يجعله نموذجاً ذكورياً شديد السوء في مجتمع لا يتبع أفراده بعضهم البعض إلا فيما يضر النساء.
جعفر العمدة.. تكرار وإفلاس
يظهر علينا هذا العام النجم الكبير الذي تقع كل نجمات عالم الفن في غرامه على الشاشة محمد رمضان، في شخصية مستوحاة من وحي خيال مخرجه معدوم الموهبة محمد سامي، الذي يُطل علينا هذا العام في ثوب مؤلف العمل ومخرجه. هذا العام شخصية رمضان رجل متزوج من أربع نساء، عمدة لحي السيدة زينب، ولديه ثأر مع جيرانه منذ سنوات طويلة. كل عام يسخر المتابعين من مشاجرة رمضان التي يجب أن ينتصر فيها، ومن موت شخصية الأب التي يقوم بها هو أيضاً، ومن علاقاته المتعددة مع نساء يقعن في غرامه ويعشن معه على أي حال. والغريب أنه على مدار سنوات لم تخب توقعات المشاهدين، ولا مرة يخرج محمد رمضان عن القالب المكرر الذي يجسده كل سنة بلا إتقان أو إخلاص لمهنته كفنان، رغم تصدر منتجه شديد الرداءة في كل عام!
إشكالية التصدر والجودة هي إشكالية مصرية بامتياز، فلا يتصدر أي فنان أو مؤدٍّ لأنه يستحق، بل لأن الناس تحب السخرية منه، توجد أغلبية تحب منتج محمد رمضان بشكل حقيقي، رغم اهتراء ثوب أي شخصية يرتديها، ولكن ما الدافع لإنتاج كل هذه القصص المكررة في كل عام، رغم وجود إمكانية لتطوير هذا المحتوى الهزلي، ولماذا لا يلفت نظره أي شخص أن تقديم شخصية ذكورية مثل “جعفر العمدة” شيء مضر ومؤثر في مسار سعي المرأة في مصر للتخلص من السلطة الذكورية المتوارثة، والتي تظلم قطاعاً عريضاً من النساء، بسبب تأويلات دينية تم الاجتهاد فيها من قبل الرجال، ما يجعلها موضع شك، ولماذا يُصر على أداء استعراضي مفتعل يبدو للجميع غير حقيقي، مع الإصرار على تشييء المرأة في كل أعماله؟
رسالة الإمام وهجمة مرتدة
لم يمر أسبوع واحد على عرض مسلسل “رسالة الإمام”، من بطولة خالد النبوي، إلا وصدر في شأنه الكثير من الأحكام والجدل حول كل تفاصيله، يتخطى نقد هذا المسلسل صنّاعه وأبطاله، ليشمل قضايا متعددة، بعضها تاريخي، وأبرزها من الناحية الدينية. لا يفرق أغلب المتابعين بين الشخصيات الدينية الهامة وبعضها البعض، معتبرين وجوب تقديس كل من المهتمين والمجتهدين في علوم الدين من قريب أو من بعيد، ويتعاملون معهم بقداسة لا تقل عن دين الله في بعض الأحيان!
الجدل المُثار بسببه أزمة العربية الفصحى في مقابل العامية المصرية، أو بسبب الحقبة التاريخية لحياة الإمام محمد بن إدريس الشافعي، لا يوجد عمل فني غير قابل للنقد، ولا يمكن تقديس الأعمال الفنية، ولا حتى الشخصيات التاريخية، رغم مكانتهم الكبرى في نفوس البعض. رغم تأخر إنتاج أعمال فنية تشتبك مع التاريخ الجغرافي أو السياسي أو الديني بسبب أزمة التقديس واللعنات المستمرة، فإن محاولة تقديم الإمام محمد بن إدريس الشافعي محاولة إيجابية، تفتح الباب لعبور وإنتاج أعمال أخرى تُبسط الشخصيات التاريخية لغير المُطلعين، بالإضافة لدفع المهتمين للبحث أكثر، ومعرفة ما كُتب أو قيل عنهم ولو في سطور قليلة داخل أمهات الكتب.
القاهرة – سيد عبدالحميد