بعد 150 عاما على إلغاء هولندا العبودية وتحديدا في عام 1863، اعتذرت الحكومة رسميا عن دور الدولة الهولندية في العبودية، واعتبرتها جريمة ضد الإنسانية. لكن لماذا يقول أحفاد الأفارقة الذين تم استعبادهم إن الاعتذار ليس كافيا؟
تقف جينيفر توش أمام المقر الرسمي لعمدة مدينة أمستردام التي تقع في عقار في حي”غولدن بند” الثري بجانب قناة هيرنغراخت. وقد أسست توش التي ولدت في الولايات المتحدة لأبوين سوريناميين، مؤسسة “بلاك هيريتيج تورز أمستردام”.
على يمين الباب الأمامي للمقر، أشارت توش بأصابعها إلى لوحة حجرية كُتب عليها “ما دامت الذاكرة حية، فإن المعاناة لن تذهب سدى”.
وقالت إن بناء العقار يعود إلى عام 1672 وجرى تشييده لصالح بولس غودين، المدير السابق في “شركة الهند الغربية الهولندية الاستعمارية”، مضيفة أن غودين مثل العديد من جيرانه في هذا الحي كانت ثروته، جزئيا على الأقل، من العبودية كما تشير العلامة.
وتجدر الإشارة إلى أنه على مدى قرون، أقدم الهولنديون على شراء ونقل حوالي 600 ألف من الأفارقة الذين تم استعبادهم في إطار تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي فيما نقل نسبة 5 بالمائة إلى المستعمرات الهولندية في منطقة البحر الكاريبي مثل سورينام وكوراساو بالإضافة إلى مستعمرات أوروبية أخرى في الأمريكتين.
وجرى نقل الأفارقة الذين تم استعبادهم بالقوة إلى المستعمرات الهولندية في المحيط الهندي تلك التي كانت تتواجد في بلدان مثل ما تُعرف حاليا بإندونيسيا، فيما جرى نقل من تم استعبادهم من بالي أو جاوة إلى ما تُعرف حاليا بجنوب أفريقيا.
وقد لقي الكثير منهم حتفهم في رحلة النقل، فيما كان العمل الشاق في المزراع ينتظر من بقي منهم على قيد الحياة، بل وحتى أبناؤهم وأحفادهم. مثل فالي الأفريقي الذي تم استعباده ونقله للعمل في مزرعة للسكر في سورينام وشارك في ثورة اندلعت عام 1707، وفقا لما تحكي قصته التي عُرضت في معرض أقيم العام الماضي في متحف ريجكس بأمستردام. وتقول القصة إن فالي جرى حرقه حيا وتعليق رأسه كعقوبة على العصيان الذي شارك فيه
الاعتذار “ليس كافيا”
وتقول جينيفر توش، وهي أيضا مؤرخة ثقافية وتنحدر من أسرة تضم أقارب جرى استبعادهم، إن علامات حقبة العبودية يمكن العثور عليها في مدينة أمستردام. وفي عام 2013، قامت بجولة تثقيفية بين سكان هولندا والسائحين بهدف إنهاء ما وصفته بـ “جهل متعمد” داخل المجتمع الهولندي حول فترة مظلمة من تاريخ وإرث المدينة.
وفي خطوة غير مسبوقة، قدم رئيس الوزراء الهولندي مارك روته يوم الإثنين (19 كانون الأول/ ديسمبر 2022) في خطاب في لاهاي اعتذارات رسمية باسم الحكومة عن دور الدولة الهولندية في العبودية، معتبرا أنها جريمة ضد الإنسانية. وقال روته في خطاب عن العبودية “اليوم، أقدم اعتذارات باسم الحكومة الهولندية عما قامت به الدولة الهولندية في الماضي: لجميع العبيد في جميع أنحاء العالم الذين عانوا من هذا النشاط. لبناتهم وأبنائهم ولكل أحفادهم”.
لكن يبدو أن الاعتذار لا يكفي، بالنسبة لأحفاد الذين تم استبعادهم ومنظمات مدنية. فقد احتجت العديد من المنظمات في سورينام على عدم إجراء مشاورات معها ومع المجتمع داخل البلاد.
ففي الأول من يوليو/ تموز، تحتفل سورينام بذكرى إلغاء العبودية فيما يُعرف بـ “يوم كيتي كوتي” والتي تعني “يوم كسر الأغلال” فيما يقول نشطاء إن العام المقبل يصادف مرور 150 عاما على إلغاء العبودية الهولندية بشكل فعلي ومرور 160 عاما على الإلغاء الرسمي للعبودية. وشدد النشطاء على أنه كان من الممكن أن يكون هذا التاريخ أكثر أهمية.
وفيما يتعلق بالاعتذار، نشرت صحف هولندية تسريبات جاء فيها أن هناك خططا لضم نواب من أصول سورينامية إلى البرلمان الهولندي. وقد عقد اجتماع طارئ في لاهاي ضم ممثلين من سورينام وجزر الأنتيل الخميس الماضي فيما سافرت نائبة رئيس الوزراء سيغريد كاج إلى سورينام الماضي لمحاولة “لصق القطع معا مجددا”، وفق لتوصيف صحيفة “تراو” الهولندية.
تعويضات بالمليارات وليس بالملايين
بدوره، قال أرماند زوندر، رئيس لجنة الإصلاح الوطنية في سورينام، إن الاعتذار وحده ليس كافيا، كذلك خطط تخصيص مائتي مليون يورو لزيادة الوعي حول العبودية وتخصيص 27 مليون يورو لبناء متحف لا يكفي أيضا. ونقلت وسائل إعلام محلية عن زوندر الثلاثاء الماضي قوله إن “ما جرى تدميره يجب إصلاحه. يشير إطارنا المرجعي أن الأمر ينطوي على دفع مليارات وليس مئات الملايين”.
وأشار زوندر في ذلك إلى خطة تعويض صدرت عن “لجنة التعويضات الكاريبية” التي تضم 15 دولة جرى استعباد الكثير من سكانها. حيث تدعو الخطة المؤلفة من 10 نقاط، إلى تقديم اعتذار رسمي وتمويل لدعم نشر التوعية والتاريخ والصحة ومحو الأمية ونقل المعرفة.
وفي هولندا، قالت منظمات تمثل وتدافع عن أبناء المجتمع الهولندي-الكاريبي، إنها تولي اهتماما أكبر لما سيأتي في أعقاب تقديم الاعتذار مثل القضايا المتعلقة بالتعويضات.
في المقابل، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الهولندية كزافييه دونكر إن هناك العديد من القضايا المعاصرة يجب معالجتها، مضيفا ” “العنصرية سواء أكانت علنية او سرية أو حتى في شكل بطالة غير متكافئة أو تمييز.. كل ذلك جزء من الإرث المتبقي من الحقبة الاستعمارية”.
وقد شهدت هولندا جدلا كبيرا في مطلع ديسمبر/ كانون الأول الجاري حيال الاحتفال السنوي بوصول القديس نيكولا ورفيقه الذي يغطي وجهه باللون الأسود. وداخل مجتمع ذوي البشرة الداكنة في هولندا حدث تحرك ضد هذا التقليد، وهناك من يطالب بإنهاء تقليد “بيتر الأسود”، كالممثلة غيردا هافيرتونغ، التي شاركت في الثمانينات في إحدى حلقات المسلسل الشهير للأطفال “شارع سمسم”. وتقول هافيرتونغ: “لقد سئمت من مناداتي طوال الوقت ببيتر الأسود”.
يشار إلى أن الاعتذار الذي قدمته الحكومة الهولندية اليوم الاثنين جاء بعد عام ونصف عام من صدور تقرير حكومي يوصي بتقديم اعتذار والشروع بتدابير أخرى للقضاء على العنصرية المؤسسية. ويشار إلى أن رئيس الوزراء مارك روته قد عارض في السابق تقديم أي اعتذار، حيث عزا ذلك إلى أن مثل هذه الخطوة تحمل في طياتها خطر حدوث استقطاب داخل المجتمع.
وقد أظهر استطلاع أجرته محطة “إن أو إس” في وقت سابق من هذا العام أن نصف الهولنديين يعارضون الاعتذار. ومع ذلك، أعربت مدن هولندية مثل أمستردام ولاهاي والبنك المركزي الهولندي وبنك “ايه بي ان امرو” عن أسفهم لدورهم في العبودية.
الاعتذار يجب أن يتضمن دفع تعويضات
وتواجه الدول الاستعمارية الأوروبية السابقة الكثير من الضغوط لتقديم تعويضات عن الفظائع التي ارتكبت خلال حقبة الاستعمار، فيما ساهمت حركة “حياة السود مهمة” الأمريكية في زيادة هذه الضغوط.
وكان ملك بلجيكا فيليب قد أعرب عن “أسفه العميق” للفظائع التي ارتُكبت خلال الحكم الاستعماري لبلاده لجمهورية الكونغو الديمقراطية خاصة في عهد أسلافه ولاسيما ليوبولد الثاني، الذي حكم في القرن التاسع عشر. لكن فيليب أعرب عن أسفه دون تقديم أي اعتذار رسمي.
وكانت ألمانيا قد قدمت اعتذارا العام الماضي عن جرائم الإبادة الجماعية لتي ارتكبت مطلع القرن العشرين في ناميبيا حيث تعهدت بدفع مليار يورو كمساعدات تنموية، فيما من النادر أن يصاحب الاعتذارات تقديم تعويضات فعلية.
وفي رد فعلها على اعتذار الحكومة الهولندية، قالت جينيفر توش أيضا إن الاعتذار ليس كافيا. وأضافت “حان الوقت لقول الحقيقة، لا أعتقد ان دفع مائتي مليون سيكون كافيا للتعويض عن حقبة استعمارية امتدت لـ 400 عام”.
العصر الذهبي الهولندي “ليس ذهبيا”
وقد زارت توش هولندا لأول مرة كطالبة في إطار برنامج تبادل جامعي، وقالت “فوجئت في حينه بالسرد السائد حيال ازدهار العصر الذهبي (لهولندا).” وتشير توش في حديثها إلى فترة القرن السابع عشر في هولندا الحالية التي كانت تمتلك قوة تجارية وعسكرية وفنية. لكن توش تقول: خلال هذه الحقبة، جرى “شن حرب ضد السكان الأصليين واستغلال مواردهم واستعباد العديد. لذا لا يمكن التحدث عن شيء وإغفال الحديث عن شيء آخر”.
بدوره، يرى بيبين براندون، أستاذ التاريخ الاقتصادي والاجتماعي العالمي في جامعة فريجي بأمستردام، أن الازدهار الحديث الذي حققته هولندا التي تعد من الدول ذات النصيب الأعلى من الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد، يعود إلى هذا العصر.
وفي مقابلة مع DW، قال “كان حوالي 5 بالمائة من الاقتصاد الهولندي يعتمد على السخرة في أواخر القرن الثامن عشر فيما كانت نسبة هولندا الغنية وهي المنطقة التي كانت تضم امستردام وروتردام ولاهاي، قرابة 10بالمائة”.
بدورها، تشير توش إلى حدوث تغير مجتمعي إيجابي طرأ في هولندا في السنوات الأخيرة، مثل قيام مؤسسات عامة بالاعتراف بدورها خلال حقبة العبودية. ورغم ذلك، تقول إن الطريق لا يزال طويلا، مضيفة “هناك الكثير من مظاهر الظلم الاجتماعي وعدم المساواة والفجوات في التعليم والثروة وحتى اللغة. إذا توقف الأمر على (تقديم اعتذار) دون أن يُتبع ذلك بعمل مباشر، فإن هذا سيدل على أن الأمر لا يرمي حقا إلى إحداث أي تغيير اجتماعي”.
المصدر – إيلا جوينر- أمستردام / م ع