النمسا – عامر جلول —-
منذ انطلاق مونديال قطر من عدة أيام، تصدمنا الجماهير العربية بردود أفعالها بشكلٍ إيجابي تارةً، وبشكلٍ مستغرَب قليلاً تارةً أخرى، إن معظم الناس أبدت اهتمامها بنتائج المباريات حصراً، إما من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، وإما من خلال التلاقي المباشر، حيث عبّرت عن انبهارها بالتنظيم الذي قدّمته دولة قطر في استضافة هذا الحدث العالمي، ولكني في الحقيقة أردت أن أبتعد قليلاً عن نتائج المباريات، وعن كل تفصيلاتها الرياضية، أريد أن أتناول بعض الجوانب السيكولوجية للجمهور العربي أثناء المباريات، وما هي شواهد ردوده المستغرَبة، وما هي دلالتها من ناحية سيكولوجية الجماهير؟
منذ انطلاق مونديال قطر من عدة أيام، تصدمنا الجماهير العربية بردود أفعالها بشكلٍ إيجابي تارةً، وبشكلٍ مستغرَب قليلاً تارةً أخرى، إن معظم الناس أبدت اهتمامها بنتائج المباريات حصراً، إما من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، وإما من خلال التلاقي المباشر، حيث عبّرت عن انبهارها بالتنظيم الذي قدّمته دولة قطر في استضافة هذا الحدث العالمي، ولكني في الحقيقة أردت أن أبتعد قليلاً عن نتائج المباريات، وعن كل تفصيلاتها الرياضية، أريد أن أتناول بعض الجوانب السيكولوجية للجمهور العربي أثناء المباريات، وما هي شواهد ردوده المستغرَبة، وما هي دلالتها من ناحية سيكولوجية الجماهير؟
“سيكولوجية الجماهير” كتابٌ عريق يستحق القراءة والتقدير لصاحبه الدكتور الفرنسي غوستاف لوبون، ذلك الدكتور الذي درس ونظّر في علم النفس الجماعي أو الجماهيري، الذي يُعتبر جزءاً من العلم النفس الاجتماعي، لقد تطرّق فرويد إلى علم النفس الفردي في مؤلفاته ودراساته، أما غوستاف فقد خاض معركته في فهم كيفية تحرك الشعوب وما دوافع تحركها؟ وكيف يتحول الفرد عند دخوله في الجماهير إلى جزئية صغيرة من الموجة البشرية الكبيرة، فيتخلى عن ثقافته وعن ذكائه وعن علمه، ويصبح جزءاً من ثقافة اللاثقافة الجماهيرية التي تحركها العواطف والخطابات الجياشة، ويتخلى عن الإدراك، ولكني لست هنا كي أتكلم عن هذا الكتاب المميز، ولكنني أريد أن أستوضح بعض الأمور، لقد فازت المملكة العربية السعودية على الأرجنتين بنتيجة 1-2، فهذه النتيجة لا شك أنها صادمة نسبةً إلى التفاوت الكبير في التاريخ والقدرات الكروية للفريق الأرجنتيني على السعودية، فجاءت ردود الفعل العربية أيضاً صادمة في التفاعل والفرح والاحتفالات التي عمّت العالم العربي، رغم أن الفوز لا يعني التأهل إلى الدور الثاني، ناهيك عن نتائج تونس المشرّفة نوعاً ما. فهذا المشهد استوقفني، ما دلالات المشهد؟ وما خلفياته السيكولوجية؟
منذ نشأة الدول العربية الحديثة بعد سقوط الدولة العثمانية، تعرّضت الشعوب فيها بكل اختلافاتها الثقافية والدينية والعرقية إلى صدماتٍ حضارية على كل المستويات، رغم كل إرهاصات الدولة العثمانية في فترة مرضها، أي في فترة الرجل المريض، إلا أنها كانت رمزاً غير قابل للاستبدال في أذهان شعوب المنطقة، فجاءت اتفاقية سايكس بيكو بتقسيماتها للشعوب سياسياً واجتماعياً وجغرافياً، فدخل العالم العربي نفق الهزائم المتتالية غير المتناهية. منذ ذلك الحين تعيش الشعوب في حالة إحباط، لقد خرج المستعمر، ولكن الاستعمار بقي، وفرض قواعده وألاعيبه في تقسيم الشعوب طائفياً وعرقياً ووضع العصبيات، كل هذه الإشكاليات والتجاذبات أدت إلى تكوين العقل العربي وتكوين شخصيته التي لا تعبّر عن حالته الأصلية والأصيلة.
عندما أبهرت قطر العالم بالافتتاح والتنظيم الأكثر من رائع، عادت إلى أذهان الجماهير العربية التاريخ القديم المجيد، لقد عادت إلى أذهانهم تاريخهم الإنساني الذي فيه أخطاء لا شك، ولكنه به الكثير من الإنجازات العلمية والفلسفية وغيرها، لقد شعروا بالنظرة الاستشراقية ومدى فوقية الغرب التي مارسها ضد قطر عموماً وضد الثقافة والتقاليد والقيم الدينية والأخلاقية التي تتمتع بها شعوب المنطقة عموماً، لقد أثبت المونديال أن السلطات السياسية الداخلية والخارجية لم تستطع أن تحوّل الشعوب العربية إلى شعوبٍ يكره بعضها بعضاً وفرض نظرية القوميات مثل أوروبا، نعم يختلفون في المصالح بعض الشيء، وفي الرؤية العامة وفي قضايا سياسية وبعض التوجهات والهويات الفرعية، ولكن ما يفرقهم لا يُقارَن بما يجمعهم، فعلى سبيل المثال، فلنعد قليلاً إلى مباراة السعودية والأرجنتين، كل الشعوب العربية من الأطلسي (المغرب) إلى الخليج كانوا يشجعون السعودية، وردة فعلهم الرهيبة عند الفوز تبرهن على ما ذكرته، إنهم لغةٌ واحدة وقوميةٌ واحدة وهمٌّ واحد وجغرافية متقاربة وتاريخٌ واحد، إضافةً إلى أنهم شعوبٌ عاشت على الهزائم المتكررة والمتتالية، وهي تبحث عن انتصارٍ، وهذا الفوز، ولو بسيط، وتلك الافتتاحية الرائعة أعطت تلك الشعوب الأمل في النهوض مجدداً.
نعم، إن الفوز رمزي، ولكنه بارقة أملٍ لنا جميعاً، ما قدمته قطر نموذج يستحق الدراسة والتوقف عنده من تنظيمٍ وانفتاحٍ دون الانسلاخ عن التقاليد والثقافة والدين، نعم لدينا كل مقومات النهوض والصحوة الحضارية والمنافسة العالمية في الطب والهندسة والفلسفة وكل أنواع العلوم الإنسانية والمادية، لقد كنّا منارة العالم في السابق، لقد قال هيغل إن الحضارة انتقلت من الشرق إلى الغرب مثل انتقال الشمس من الشرق إلى الغرب دون عودة، متناسياً أن حركة الأرض لا تتوقف، ومسار الأمم لا يتوقف أيضاً مثل حركة الأرض، فلقد شبّه أرنولد توينبي الأمم بفصول السنة، واليوم نحن في فصل الشتاء، سوف يأتي الربيع والصيف الحضاري.
النمسا – عامر جلول —-