مقال رأى – جمال نصار —-
إن الله قد جعل لكل شيء سبباً، وأمر العباد بتلمّس تلك الأسباب حتى يطرقوا سُنن الله في ملكوته فتحقق لهم النصرة والغلبة، فأيما أمة قرعت الأسباب من بابها، وتلمّست ما كتب الله على الكون من سُنن كُتبت لها السيادة الحضارية، وأيما أمة باتت كسلانة عن البحث في هذه الأسباب أضحت وهي لا تملك من أمر العالم شيئاً بل لا تملك من أمر نفسها شيئاً، وهذا هو حال الوطن العربي اليوم، فما هي أسباب هذا التعثر الحضاري؟
أسباب تعثُّر العالم الإسلامي حضارياً
على الرغم من أن الفكر الإسلامي يمتلك طاقات كبرى لحماية الشخصية المسلمة من الذوبان، إلا أن قضية الاقتباس من الآخر من أخطر المسائل التي اعترضت وما زالت تعترض الفكر الإسلامي المعاصر، وهي نبض التأخر الحضاري للمسلمين اليوم، فإن هي توقفت أو رُشِّدَت فسوف نرى نور الحضارة في سماء بلادنا الإسلامية؛ لأن الحضارة لا تصنع بمنتوجات حضارية مستوردة، فقط، بل هي التي تصنع المنتوجات الحضارية، وهذا هو السبب الأول من أسباب التقهقر الحضاري الذي نحياه الآن.
يرجع الأستاذ مالك بن نبي السبب إلى غياب المركب الحضاري لعدم الاستفادة من عناصر ثلاثة: (الإنسان، والتراب، والوقت)، ومن العجيب أن هذه المقومات الثلاثة تتوفر لكل دول العالم العربي، فمن حيث الإنسان، فالإنسان العربي من أفضل العناصر البشرية، ومن حيث التراب، فإننا نمتلك أخصب المساحات الترابية على المعمورة، ومن حيث الوقت فما أكثره عندنا؟ إلا أنه في الواقع لا حضارة لنا اليوم، أو قل إن شئت: غياب الرسالة من ذهن المواطن العربي، وهذه الرسالة هي العقيدة الدينية، التي تؤثر على مزج المقومات الحضارية الثلاثة بعضها ببعض، فكل محاولة من الأمة الإسلامية في طريق الحضارة بعيدة عن النظرة العقدية ستبوء بالفشل؛ لأن حقيقة الفكرة الإسلامية أو العقيدة الإسلامية واقع صامد، وكائن موجود في عمق الشخصية والمحيط الاجتماعي للإنسان المسلم، وهي تستجيب دائماً لطموحات الإنسان المتجددة، بشرط التفاعل مع هذه الفكرة عقيدة وأخلاقاً وحضارة.
لكن الذي حدث اليوم أن نُسِيَت القيم الدينية الروحية، والمبادئ الخلقية السليمة، من وفاء ومروءة وأمانة ورحمة. نُسِيَت حياة الفضيلة، واتجه الإنسان، بفعله وعمله، في الغالب، إلى الحياة المادية، حياة الغدر والخيانة والقتل والقسوة، غير معترف بغيب، ولا بإله لهذا العالم؛ فعاش في حروب ونزاع وقتال، وشاهد آثار الحرب العالمية الأولى (1914م – 1918م) والثانية (1939م – 1945م) في النصف الأول من القرن العشرين.
وفي الغالب الذين اتجهوا إلى بناء العقيدة أساءوا توظيفها، وذلك بتركيزهم على ممارسة العقيدة، ممارسة تُفضي إلى الآخرة فحسب، تاركين عمارة الكون والأرض؛ ظناً منهم أن ذلك يعرقل فوزهم بالدار الآخرة؛ فغياب التوظيف الحضاري للعقيدة الإسلامية عند الشخصية الإسلامية المعاصرة أفسح المجالات الدنيوية- إن جاز لنا هذا التعبير- لغير المسلمين فظهر وانتفش، ومن ثم ليست المشكلة في قوة القوي، وإنما المشكلة في ضعف الضعيف.
والمرض الذي أصاب الأمة الإسلامية اليوم أن أفرادها يفكرون فيما لهم من حقوق ولا يسعون لأخذ هذه الحقوق، يفكرون في ما لهم من مطالب، ولا يؤدون ما عليهم من واجبات، وهذا الذي نشاهده من حال الأمة اليوم تجاه القضايا العامة والخاصة.
إن شعباً كالشعب الفرنسي عندما أراد عزل رئيسه قام بثورة لم تُفض حتى تم عزل هذا الرئيس، لكن الشعوب العربية اليوم يرَوْن العار يصمهم تجاه قضية كقضية فلسطين، وقد رأوا حكامهم مكتوفي الأيدي أمامها، ولم يتحرك منهم ساكن، اللهم إلا أصحاب الفكر السليم منهم، وهم قلة إذا ما قورنوا بأعداد الأمة الإسلامية، وقد خاطب الله رسوله فقال: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (التوبة: 105).
إن المجتمع العاجز عن الثورة عاجز- أيضاً- عن التدين، والبلاد التي تمارس الحماس الثوري تمارس نوعاً من المشاعر الدينية الحية، وتلك المشاعر الدينية توجه غالباً في صورة ثورات لتحقق العدالة والجنة على الأرض، والدين والثورة يولدان في مخاض الآلام والمعاناة، يُحْتضران (الموت في ريعان الشباب) في حياة الترف والرخاء، وحياة الدين والثورة تدومان بدوام النضال والجهاد حتى إذا تحققا يبدأ الموت يتسرب إليهما، ففي مرحلة التحقيق في الواقع العملي نهاية الأمر.
لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغتر بطيب العيش إنسان
والمجتمع الإسلامي اليوم غير مستعد لتقديم هذه الصور الحماسية؛ لأنه غير مستعد للتضحية. وهذا من أسباب الانكسار الحضاري الذي نال الأمة الإسلامية في الآونة الأخيرة.
وإذا كانت هذه هي أسباب الغياب الحضاري لنا فما هو السبيل إلى شهود حضاري إسلامي يشهد به الجميع، وكيف العودة إلى أستاذية العالم؟
عودة الكيان الحضاري الإسلامي وقهر عوامل السقوط
إن العواصف الجوية والأعاصير تجر وراءها سيولاً هائلة من الماء تأتي على الأخضر واليابس بالخراب والدمار، ولكن تلك السيول تترك طمياً يجدد للحياة دورتها، فتنشط الطبيعة وينبعث تيار الحياة من جديد، كذلك الأعاصير الحضارية، أو بتعبير أدق: الأحداث التاريخية الكبرى، تكتب الدمار على حضارة معينة، أو تحدث الخراب والبوار في أمة بعينها، إلا أن تلك الأعاصير وهذه الأحداث الكبرى تترك وراءها طمياً حضارياً من دماء الشهداء يكون باعثاً لنفوس تلك الأمة من بعد هذا الدمار وهذا الخراب، كذلك تترك طمياً من نوع آخر، ألا وهو ما تخلفه في العقول حيث تترك بذوراً تنبت منها الأفكار التي تغير مجرى التاريخ ووجه العالم.
فعلى المسلم أن يطرح بعث الحضارة بمنطق البقاء حتى يستطيع أن يتقدم، واضعاً أمامه القانون الإنساني العام الذي وضعه الله عز وجل للناس جميعاً: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: 11) والناظر في الآية الكريمة يجد أن كلمة “قوم” نكرة لإفادة العموم والشمول، فهي تشمل كل قوم سواء في ذلك القانون المؤمن والكافر، لطالما أخذ بأسباب الشهود الحضاري.
نحن كمسلمين إذا أردنا أن نأخذ مكاننا في هذا الشهود الحضاري فعلينا أن نؤدي دورنا كما رسمه لنا الله عز وجل: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران: 110)، والمتأمل في الآية يجد أن أول صفة من صفات الأمة الموصوفة بالخيرية هي: “تأمرون بالمعروف” والصفة الثانية “وتنهون عن المنكر” فهاتان الصفتان جاءتا على صورة الجملة الفعلية التي تفيد من ناحية التجدد والاستمرار، ثم إن الجمل من ناحية أخرى دائماً نكرات، والنكرات تفيد العموم، وهذا العموم واقع على نوع المأمور به والمنهي عنه، ومن ثمَّ دلت جملة “تأمرون بالمعروف” على كل معروف سواء أكان في شأن الدنيا أم الآخرة، وعلى هذا فإقامة المصانع والورش، وإصلاح الطرقات والمصارف، وتشييد المدارس ومدائن العلم، وارتياد الفضاء واكتشاف كنهه، وإقامة المنظومات الاقتصادية والسياسية والعلمية والإدارية وغيرها مما يعود بالنفع على الناس كل ذلك يدخل في قوله تعالى: “تأمرون بالمعروف”، وصدق ابن تيمية حين قال: العبادة هي: “اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة”.
وعلى العكس من ذلك فإن كل إفساد وفساد في الأرض، وكل شيء يعود بالضرر على الناس سواء في أمور العبادة والنسك، أو في أمور الدنيا، يدخل في إطار المنكر الذي أمرنا الله بإزالته في قوله تعالى: “وينهون عن المنكر”؛ ذلك أن الحضارة ذات الجانبين المادي والروحاني في المفهوم الإسلامي لا تنقسم وإنما تتكامل.
فالأصل في طبيعة الحياة الإنسانية أن يلتقي فيها طريق الدنيا وطريق الآخرة، وأن يكون الطريق إلى صلاح الآخرة هو ذاته الطريق إلى صلاح الدنيا، وأن يكون الإنتاج والنماء والوفرة في عمل الأرض هو ذاته المؤهل لنيل ثواب الآخرة كما أنه هو المؤهل لرخاء هذه الحياة الدنيا، وأن يكون الإيمان والتقوى والعمل الصالح أسباب عمران هذه الأرض كما أنها وسائل الحصول على رضوان الله وثوابه الأخروي، هذا هو الأصل في طبيعة الحياة الإنسانية، ولكن هذا الأصل لا يتحقق إلا حين تقوم الحياة على منهج الله الذي رضيه للناس .. فهذا المنهج هو الذي يجعل العمل عبادة، وهو الذي يجعل الخلافة في الأرض وفق شريعة الله فريضة، والخلافة عمل وإنتاج ووفرة ونماء وعدل.
ولا يوجد في طبيعة المفهوم الإسلامي للحضارة إيمان عبارة عن مشاعر في الوجدان، وتصورات في الذهن لا ترجمة لها في واقع الحياة. إن الإيمان الحق هو الذي يحيا، وليس هناك إيمان هو مجرد شعائر تعبدية ليس معها عمل يكيف منهج الحياة كله ويخضعه لشريعة الله؛ لأن المسلم مطالب بأداء شهادة لهذا الدين، وبكل تكاليفها في النفس والجهد والمال (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: 143)، فالوسطية كما أنها تعني وسطية الأحكام ووسطية العقائد فهي أيضاً تعني وسطية التوازن، أعني التوازن بين الدين والدنيا.
ولعل الإسلام هو أوفى الأديان والشرائع عناية بتوازن القوى المختلفة في المجتمع، وبناء الأمة متراصاً لا وهن فيه ولا ثغرة ولا اختلال .. إنك لتراه يعنى بتنظيم حياة الناس المادية كأتم ما تُعنى بذلك المذاهب الاقتصادية، ويهتم بتقويم الأخلاق الاجتماعية كأقوى ما تهتم بذلك الدعوات الأخلاقية، ويبالغ في تطهير الروح وتهذيب النفس أشد مما تبالغ الأديان بما في ذلك الأديان الروحية .. وهو يربط بين هذه بعضها مع بعض، ويشد بعضها إلى بعض لترى المسلم الحق قوياً في كل ناحية من نواحي الحياة: قوياً في روحه، وقوياً في خلقه، وقوياً في جسمه، وقوياً في كل ما تعطيه القوة من دلالة، ما أروع قول النبي، صلى الله عليه وسلم: “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف”.
بهذا الفهم للآية يتضح التوصيف الوظيفي لهذه الأمة ذات الخيرية الربانية، فإذا تخلت هي عن هذه العناصر وما يدخل في إطارها مكتفية بتحقيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في إطار العبادات والنسك فحسب فستخرج عن الخيرية التي وصفها الله بها، وسوف تقف في ذيل الأمم إن هي تمكّنت من اللحاق بالذيل.
وساعة إذ ينطبق عليها قانون الاستبدال الذي كتبه الله على الناس جميعاً: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم) (محمد: 38). ومسؤولية هذا الاستبدال، أو هذا التأخر مسؤولية كل أمة على حدة أمام التاريخ.
وهناك أمر آخر وهو اتحاد المسلمين في العالم وتعاونهم على البر والتقوى، كما أمرهم ربهم، فإن هم فعلوا ذلك ما استطاع الغرب المادي أن يمتص دماءهم، وما استطاع التحكم في بلادهم ولا السيطرة عليهم حتى اليوم، وينبغي على المسلمين ألا يلوموا إلا أنفسهم؛ لأنهم هم السبب، وليس الدين هو السبب، فبهذا الدين قاد العرب أصحاب البادية الذين لم يفكروا يوماً ما في إقامة حضارة عظمى قادوا العالم من خلالها، وهم الذين صدّروا الحضارة والعلم إلى الغرب المادي، الذي ينظر إلى العالم اليوم نظرة استعلاء واستكبار.
وكان المسلمون في العصور الإسلامية الأولى متحدين اتحاداً قوياً، يفكرون في إخوانهم في مشارق الأرض ومغاربها، يحبون لهم ما يحبون لأنفسهم، ويستهينون بالموت، ويطلبون الاستشهاد، ويقولون: احرص على الموت توهب لك الحياة، ويعملون بقول النبي، صلى الله عليه وسلم: “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً”، فانتصروا وهابهم العالم كله، وقادوا العالم بالعدالة والحرية والإخاء والمساواة وبالتحضر الرحيم؛ لأن الأمة مجموعة من الأفراد متماسكة، وكلما كان الفرد سليماً كان بناء الأمة سليماً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: citypark135@hotmail.com