“توقفتُ عن شراء القرنبيط أو الباذنجان، لأن قليهما يستهلك كثيراً من الزيت الذي ارتفعت أسعاره”. بهذه الكلمات عبَّرت ربة منزل مصرية عن أزمة ملايين المصريين الذين عانوا من تداعيات حرب أوكرانيا والقرار المفاجئ بتخفيض سعر الجنيه المصري، وسط مخاوف من تردي مستوى معيشة المصريين جراء شروط صندوق النقد المحتملة للموافقة على القرض الذي تسعى إليه القاهرة.
في سوق الخضراوات بحي المنيل القاهري ذي المستوى المتوسط، كانت فاطمة إبراهيم، التي لديها اثنان من الأبناء، في حالة صدمة من ارتفاع الأسعار منذ اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وأعربت عن قلقها من صعوبة توفير الطعام لعائلتها مع اقتراب شهر رمضان، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Financial Times البريطانية.
وقالت فاطمة، وهي مطلَّقة ولا تعمل: “ارتفع سعر زيت الطهي الضروري لأي وجبة مهما كانت بسيطة. وتوقفت عن شراء القرنبيط أو الباذنجان، لأن قليهما يستهلك كثيراً من الزيت. وارتفع سعر الدقيق فجأة أيضاً، ولا أدري كيف سيكون الوضع في رمضان!”.
تأثير فادح لحرب أوكرانيا
وهذه الأسعار المرتفعة في الأسواق المصرية تجسِّد التأثير الفادح للحرب الأوكرانية على الاقتصاد المصري، إذ سددت أسعار النفط والسلع المرتفعة- خاصةً الحبوب- ضربة موجعة لأكبر دولة مستوردة للقمح في العالم، مثلما فعلت خسارة السائحين القادمين من روسيا وأوكرانيا. وهذا فضلاً عن خروج استثمارات أجنبية بمليارات الدولارات من مصر.
وأدت هذه الأوضاع إلى تخفيض الحكومة لقيمة الجنيه بنحو 15% حيث بلغ أمام الدولار عقب القرار بين 18.15 و18.29، بحسب بيانات البنك المركزي المصري، بدلاً من 15.74 جنيهاً. وتزامن ذلك مع رفع سعر الفائدة بنسبة 1%، فيما وصف أنه تلبية مسبقة لعدد من شروط صندوق النقد الدولي على القرض الذي تحتاجه مصر.
وقال طارق عامر محافظ البنك المركزي المصري، في مؤتمر صحفي مؤخراًً، إن القرارات كانت حتمية “لحماية موارد البلاد، ونرجو أن تتحسن الأمور على المستوى الدولي”، مُعتبراً أنه جزء من “حركة تصحيح” في سوق النقد الأجنبي، وواصفاً القرارات بالجريئة.
بينما في حي المنيل، يقول شعبان حسين، وهو صاحب مقهى، ولديه أربعة أبناء، إن أسعار الغذاء ارتفعت قبل الحرب بالفعل وازدادت ارتفاعاً بعدها. وقال: “لا يمكنني دفع إيجار المقهى، لأن الزبائن قليلون. فكيف سيتمكنون من شراء المشروبات بعدما ارتفعت أسعار كل شيء بهذه الطريقة”.
القرض المحتمل يجعل مصر أكبر مقترض في العالم من الصندوق بعد الأرجنتين
والأسبوع الماضي، طلبت القاهرة من صندوق النقد الدولي المساعدة، للمرة الثالثة في ستة أعوام. ومصر بالفعل واحدة من أكبر المقترضين من الصندوق بعد الأرجنتين.
وقالت وكالة فيتش للتصنيف الائتماني، هذا الشهر، إن الحرب في أوكرانيا “زادت من أوجه الضعف الخارجية لمصر”. وقالت: “مصر ستعاني تراجعاً في تدفق السياح، وارتفاعاً في أسعار المواد الغذائية، وصعوبات مالية أكبر نتيجة الهجوم الروسي على أوكرانيا”، وأضافت أن “الأزمة تُفاقم من تعرُّض مصر لخروج الاستثمارات الأجنبية من سوق سندات عملتها المحلية”.
وقالت وكالة فيتش إن هذا الخروج للاستثمارات جاء نتيجة ارتفاع معدلات الفائدة عالمياً إلى جانب التخوفات المرتبطة بالاقتصاد المصري في ظل غياب برنامج لصندوق النقد الدولي واعتقاد أن قيمة الجنيه مدعومة من الحكومة مقابل الدولار. وعمدت مصر إلى تعزيز مواردها المالية المضغوطة، واستعادة الثقة باقتصادها الذي يعتمد اعتماداً كبيراً على “الأموال الساخنة”، أو جذب الأجانب إلى سوق الدين المحلي قصير الأجل، من خلال خفض قيمة عملتها، الجنيه، الأسبوع الماضي قبل أن تعلن نيتها طلب قرض من صندوق النقد الدولي.
المشكلة أن مصر تعتمد على الأموال الساخنة
ويقول فاروق سوسة، الخبير الاقتصادي في بنك غولدمان ساكس إنترناشونال: “مصر تعتمد اعتماداً هيكلياً على الأموال الساخنة، وبالتالي فهي أسيرة لاتجاهات السوق”. وقال إن المستثمرين الدوليين سحبوا نحو 15 مليار دولار من مصر منذ نهاية يناير/كانون الثاني، نتيجة للحرب.
وقد أدى الهجوم الروسي على أوكرانيا إلى زيادات هائلة في أسعار القمح وزيت الطهي والنفط. ومصر أكبر مستورد للقمح في العالم، وبرنامجها للخبز المدعوم يشمل قرابة 70 مليون شخص، أو ثلثي السكان. واعتبرت الحكومات المتعاقبة الخبز الرخيص مفتاح الاستقرار، في بلد يُعتَبر أكثر من نصف سكانه فقراء.
وفضلاً عن ذلك، كانت خسارة السائحين من روسيا وأوكرانيا- أكبر سوقين للسياحة- ضربة أخرى للقطاع الذي بدأ لتوّه في التعافي من الجائحة.
ونسبة الإشغال في البحر الأحمر انخفضت إلى 5%
يقول نادر حنين، نائب رئيس شركة سيتي فيرست للسياحة Seti First Travel، وهي واحدة من أكبر شركات السياحة، إن معدل الإشغال في فنادق منتجعات البحر الأحمر انخفض إلى 5%.
وقال: “كنا نتوقع أن تضاعف مصر عدد السائحين الذين استقبلناهم العام الماضي إلى سبعة ملايين، وكان الروس والأوكرانيون سيشكلون نصف هذا العدد. ولكن، توقَّف كل شيء. وخيبة أملنا كانت كبيرة. وقد شهدنا زيادة كبيرة في عدد الوافدين من ألمانيا لكنهم لن يعوضوا الروس أبداً”.
مصر تجاوزت حصتها من قروض صندوق النقد
وقال سوسة إن اللجوء إلى صندوق النقد الدولي يفترض أن يوفر متنفَّساً، لافتاً إلى أن مصر تجاوزت حصتها من حقوق الاقتراض من المقرض، والصندوق على الأرجح سيلزمها بتأمين تمويل مشترك من مصادر أخرى.
وذكرت وكالة بلومبيرغ أن صندوق الثروة السيادي “القابضة ADQ” في أبوظبي يناقش استثمارات بقيمة ملياري دولار في بعض الشركات العامة. ويقال إن دولاً أخرى في الخليج تدرس تقديم الدعم لمصر.
قرض “النقد الدولي” المرتقب.. هل سيكون عبئاً جديداً أم حبل إنقاذ للمصريين؟
وتوقع مصدر مسؤول، لم يرد ذكر اسمه لموقع “إندبندنت عربية”، حصول القاهرة على قرض لن تقل قيمته عن ملياري دولار أمريكي بفائدة لن تزيد على 2%، من خلال آلية يسمح بها صندوق النقد الدولي للدول الأعضاء بالحصول على تسهيل من صندوق مخصص لمواجهة الطوارئ، ولم تحصل القاهرة على نصيبها من هذا الصندوق من قبل، لافتاً إلى أن التسهيل الجديد يختلف عن أداة التسهيل الائتماني السريع الذي حصلت عليه مصر لمواجهة الأعباء والتداعيات السلبية لجائحة كورونا. وأوضح أن الحصول على قرض جديد من الصندوق يستهدف الحفاظ على الاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية الذي يكفي لمواجهة فاتورة الاستيراد لمدة سبعة أشهر.
واستبقت مصر الإعلان عن طلبها قرضاً جديداً من صندوق النقد الدولي، الأسبوع الماضي، بخفض قيمة الجنيه 15%، ورفع أسعار الفائدة بنقطة مئوية واحدة، وهما اثنان من شروط الصندوق لتمويل البلد الذي يمر بأوضاع اقتصادية صعبة، من جرّاء الأزمة الأوكرانية.
ولمصر تاريخ طويل مع صندوق النقد الدولي، وبدأت الجولة الأخيرة لهذه العلاقة عام 2016، بقرض يبلغ 12 مليار دولار، تلاه قرض آخر ضمن آلية التمويل السريع لمواجهة جائحة كورونا في 2020 بمقدار 2.77 مليار دولار، ثم قرض ثالث بمقدار 5.2 مليارات دولار.
بالمحصلة، فقد حصلت مصر على قروض من الصندوق بنحو 20 مليار دولار في ست سنوات، إضافة إلى 2.8 مليار دولار، حقوق سحب خاصة.
هل تعود شروط الصندوق القاسية مجدداً؟
في 2016، كان أحد شروط صندوق النقد تعويم الجنيه، وترك تحديد قيمته لآليات السوق دون تدخُّل من البنك المركزي، وهذا ما تم فعلاً.
حيث انخفض الجنيه بعد التعويم مقابل الدولار إلى 18 جنيهاً مقابل 8 جنيهات قبل التعويم، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع التضخم وتراجع القدرة الشرائية للمصريين.
لكن البنك المركزي المصري عاد للتدخل بشكل غير مباشر في سوق الصرف، بتوفير العملات الأجنبية للبنوك، وتمكن من تثبيت سعر الدولار حول 15.5 جنيه لمدة تزيد على سنتين.
الأسبوع الماضي، وقبل يومين فقط من الإعلان عن طلب مصر تمويلاً جديداً من صندوق النقد “لبرنامج إصلاحي شامل”، خفضت مصر الجنيه بنسبة 15% ليعود الدولار فوق 18 جنيهاً، ورفع البنك المركزي المصري أسعار الفائدة بمقدار 100 نقطة أساس (1%).
وبهذا، تكون مصر قد بادرت مسبقاً بالوفاء باثنين من أهم شروط صندوق النقد.
أهم شروط صندوق النقد الدولي المتوقعة
تقليص الدعم
تقديرات المحللين ترجّح قيام الحكومة المصرية بتقليص دعم السلع الأساسية، خصوصاً الطاقة، وقد سارت مصر بهذا الاتجاه بالفعل، إذ بدأت قبل نحو ثلاث سنوات بتعديل أسعار المحروقات كل ثلاثة أشهر بناءً على أسعار النفط في الأسواق العالمية وأسعار الصرف.
ومنذ ذلك الحين، شهدت أسعار المحروقات عدة ارتفاعات، ما انعكس على أسعار الكهرباء والمياه.
والآن، وإضافةً إلى المحروقات، يضغط صندوق النقد الدولي على مصر لتقليص الدعم عن باقي السلع الاساسية، كالخبز وزيوت الطهي، بهدف تقليص العجز في الموازنة العامة.
كما تواجه مصر مشكلة فيما يتعلق بأسعار الوقود التي تُحدَّد كل ثلاثة أشهر، وهو أن الأسعار الحالية حُدِّدت قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، ولكن الحرب قفزت بأسعار النفط بشكل كبير، وفقاً للآلية التي وضعتها الحكومة لتسعير الوقود فإن الزيادة كل ثلاثة أشهر يجب ألا تتخطى 10%، وهذا يعني أن الزيادة في أسعار الوقود المحلية قد لا تكفي لتغطية الزيادة الحقيقية في سعر النفط، وهو أمر قد يفاقم عجز الموازنة، وقد تضطر الحكومة إلى إدراج زيادات متتاليةٍ كل ثلاثة أشهر، إذا استمرت أسعار النفط مرتفعة، وهو ما قد يمثل عبئاً كبيراً على المواطنين، حيث ستصل أسعار الوقود في هذه الحالة لمستويات لم يعرفوها من قبل.
تخفيض عجز الموازنة
تستهدف مصر عجزاً بنسبة 6.6% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي للعام المالي الحالي 2021-2022، انخفاضاً من 8.1% في العام المالي السابق، ويطالب الصندوق بمزيد من خفض العجز، عن طريق تقليص الإنفاق العام من جهة، ورفع الإيرادات من جهة أخرى.
ترشيد الإنفاق يتطلب تقليل فاتورة الرواتب
وتعتبر الحماية الاجتماعية من دعم وإعانات نقدية، أحد أبرز البنود التي يطالب صندوق النقد بتقليص الاتفاق عليها، ما يحرم ملايين الأسر المصرية من القدرة على مواجهة الأعباء المالية المتزايدة، نتيجة ارتفاع الأسعار وانخفاض سعر صرف العملة المحلية.
في هذا السياق أيضاً، يطالب صندوق النقد بتقليص فاتورة الرواتب، وتقليص القطاع العام عموماً، عبر طرح مزيد من الشركات الحكومية للخصخصة.
زيادة الإيرادات تعني رفع الضرائب
زيادة الإيرادات التي قد يشترطها صندوق النقد، تعني زيادة الضرائب القائمة، وربما فرض ضرائب جديدة، على غرار ما حصل تزامناً مع قرض الصندوق لمصر في عام 2016، حيث فرضت مصر ضريبة القيمة المضافة، وهي الآن مطالَبة برفعها.
ويخشى المصريون من إخضاع السلع والخدمات التي كانت مُعفاة سابقاً من هذه الضريبة، كالخبز والطحين وبعض أصناف المحروقات وخدمات الشحن.
الصندوق يركز على تقليص دور الجيش في الاقتصاد
وقال فاروق سوسة، الخبير الاقتصادي في بنك غولدمان ساكس إنترناشونال إنه يتوقع أن يركز صندوق النقد الدولي على نظام عملات أجنبية مرن، و”دور الجيش والدولة في الاقتصاد، وتوفير ساحة متكافئة للمنافسة”.
ومنذ تولى عبد الفتاح السيسي، الرئيس والقائد العسكري السابق، السلطة عام 2014، زاد الجيش من حضوره في الاقتصاد، وفقاً لما يقوله البعض، وهو ما أثّر على القطاع الخاص الذي يخشى منافسة المؤسسة الأكثر نفوذاً في البلاد، حسب تقرير صحيفة Financial Times.
القرض سيؤدي إلى زيادة الدَّين العام
ارتفع الدين الخارجي لمصر بنسبة تقترب من 150% في ست سنوات.
ففي نهاية عام 2016، تاريخ القرض الأول ضمن الجولة الأخيرة لمصر مع صندوق النقد، كان الدين العام الخارجي لمصر 56 مليار دولار، ارتفع في نهاية 2021 إلى نحو 137.9 مليار دولار.
وتضيف خدمة هذا الدين (أقساط وفوائد) أعباء كبيرة على الموازنة العامة، ما يضطر الحكومة إلى مزيد من ضغط الإنفاق من جهة، وزيادة الإيرادات من جهة أخرى.
إضافة إلى ذلك، على الأرجح أن تلجأ مصر إلى مزيد من الاقتراض؛ لإعادة هيكلة هذا الدين، كما يحدث حالياً من ترتيبات لطرح سندات “ساموراي” بالين الياباني، بمقدار مليار دولار.
كل هذه القضايا ترى شريحة من المصريين أنها هامة لإعادة مسار الإنفاق المحلي، وإعادة توجيه الدعم لمستحقيه، بينما آخرون يعتبرونها خطة جديدة للضغط على الشارع المحلي، الذي يواجه اليوم نسب تضخم مؤلفة من خانتين.