عقب الاجتياح الروسي لأوكرانيا أعلن المستشار الألماني أولاف شولتز تخصيص بلاده ما يعادل 112 مليار دولار لقواتها المسلحة كجزء من موازنة عام 2022، فضلاً عن توجيه أكثر من 2٪ من ناتجها المحلي الإجمالي للإنفاق العسكري، وكذلك غيرت برلين موقفها الرافض لإرسال أسلحة فتاكة إلى أوكرانيا بداية الحرب لتعلن مؤخراً إرسال 2700 صاروخ مضاد للطائرات و1000 صاروخ مضاد للدبابات إلى كييف، وهو ما يشير إلى أن السياسة الألمانية تجاه روسيا قررت الابتعاد عن مقاربة الانفراج وضبط النفس لتعتمد مقاربة أكثر عسكرة.
السياسة الألمانية من التأسيس إلى نهاية الحرب العالمية الثانية
في ظل انتشار الأفكار القومية التي فجرتها الثورة الفرنسية في أوروبا، تمكن المستشار البروسي بسمارك من تحويل الوحدة الاقتصادية بين الولايات الجرمانية إلى وحدة سياسية قبل أن يدخل في حرب مع فرنسا انتهت بإعلانه تأسيس الإمبراطورية الألمانية بقيادة غليوم الأول عام 1871 من داخل قصر فرساي بباريس بعد سحقه للجيش الفرنسي.
وبذلك برزت ألمانيا كقوة أوروبية صاعدة لديها كثافة سكانية عالية وقاعدة صناعية قوية وجيش متطور، ولكنها واجهت تحدياً استراتيجياً تمثل في وقوعها في المنتصف بين قوتين كبيرتين هما روسيا وفرنسا، وافتقادها لموانع جغرافية مثل التي يوفرها بحر الشمال لبريطانيا، وللتغلب على ذلك اعتمد بسمارك سياسة التحالفات التي تحولُ دون تكتل خصوم ألمانيا ضدها في جبهة واحدة، ولكن برحيله من منصبه عام 1890 تبنت ألمانيا مقاربة بديلة تقوم على ضرب الجناحين الروسي والفرنسي قبل أن يتمكنا من الإطباق على المركز الألماني، وذلك عبر تحطيم الجيش الفرنسي أولاً قبل أن يحشد الجيش الروسي قواته، وهي المقاربة التي طُبقت في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وانتهت بهزيمة ألمانيا هزيمة ساحقة، وتقسيمها إلى دولتين غربية وشرقية.
السياسة الألمانية خلال الحرب الباردة
مع سيطرة السوفييت على شرق أوروبا وصولاً إلى برلين، تبنت أمريكا مشروع مارشال لإعادة بناء أوروبا وبالأخص ألمانيا كي تقف كحائط صد أمام الطموحات الروسية، كما تأسس حلف الناتو ليمثل مظلة لتقديم المساعدة الأمريكية للدول الأوروبية في حال تعرضها لهجوم روسي، وفي عام 1955 انضمت ألمانيا الغربية للناتو، فضلاً عن انخراطها في مشروع للتكامل الأوروبي يهدف لدمج المصالح المشتركة للدول الأوروبية بعيداً عن النزعات القومية التي أدت لاندلاع حروب طاحنة، وهو المشروع الذي بدأ عام 1951 بإنشاء سوق مشتركة للحديد والصلب ثم تطور وصولاً إلى تأسيس الاتحاد الأوروبي.
خلال تلك الحقبة قامت السياسة الألمانية الخارجية على عدة أسس من أبرزها ضبط النفس ومناهضة العسكرة، والاعتماد على الناتو كمظلة دفاعية، وحل النزاعات سلمياً عبر الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، وحظر الدستور الألماني نشر القوات المسلحة خارج أراضي الحلفاء في الناتو.
وفيما يخص العلاقة مع الاتحاد السوفييتي، فقد تبنت ألمانيا مقاربة تعتبر أن التعاون الاقتصادي والسياسي مع موسكو سيؤدي إلى تغيير إيجابي داخل الاتحاد السوفييتي وكذلك في العلاقات الثنائية بين البلدين.
وبحلول عام 1989 حطمت الجماهير جدار برلين الفاصل بين الألمانيتين، ووافق الرئيس السوفييتي غورباتشوف على توحيد ألمانيا عام 1990 بعد أخذه تعهدات ألمانية بعدم حيازة أو تصنيع أسلحة دمار شامل، وبأن لا يتجاوز تعداد الجيش الألماني 370 ألف جندي.
السياسة الألمانية بعد انتهاء الحرب الباردة
رغم تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991، وتشكل الاتحاد الأوروبي عام 1992، فقد احتفظت السياسة الألمانية بالثوابت التي سارت عليها خلال الحرب الباردة، فرفضت عسكرياً المشاركة في حرب الخليج ضد العراق عام 1991 بعد غزوه للكويت. ولكن بدأت الأحداث الدولية تفرض نفسها على ألمانيا لتغيير سياستها التي جعلت جيرانها يصفونها بأنها “عملاق اقتصادي وقزم سياسي”.
فقد دفعت مذابح البوسنة والهرسك المحكمة الدستورية الألمانية في عام 1994 للإفتاء بجواز نشر القوات الألمانية خارج أراضي الناتو لدعم جهود الأمن الجماعي بشرط موافقة البرلمان، ومن ثم أُرسلت قوات ألمانية محدودة للبوسنة ضمن مهام استطلاع تابعة لحلف الناتو عام 1995، ثم مع اندلاع أزمة كوسوفو عام 1999 أرسلت برلين قواتها رفقة قوات الناتو في أول مهمة قتالية ألمانية بالخارج منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وكانت حجتها منع حدوث إبادة جماعية جديدة على يد الصرب.
عقب أحداث سبتمبر/أيلول عام 2001، ودعوة مؤتمر بون المنعقد بألمانيا برعاية الأمم المتحدة لنشر قوة أمنية دولية لحفظ الأمن (إيساف) في العاصمة كابول والمناطق المحيطة بها، أرسلت ألمانيا بداية عام 2002 قوات عسكرية إلى أفغانستان، ثم مع غزو أمريكا للعراق عام 2003، ورغبة الدول الأوروبية التي رفضت الغزو الأمريكي مثل فرنسا وألمانيا في امتصاص التوتر مع واشنطن وتقديم يد العون لها في حرب أخرى، جرى التوافق في عام 2003 على أن يتولى الناتو الإشراف على قوة إيساف في أول عملية انتشار للناتو منذ تأسيسه خارج أوروبا.
ومن ثم عززت ألمانيا تواجدها العسكري في أفغانستان حتى انتهاء مهمة الناتو القتالية عام 2014، وهي المهمة التي قُتل فيها 54 جندياً ألمانياً و3 أفراد شرطة ألمان في أول خسارة بشرية ألمانية في القتال منذ عام 1945.
ورغم تلك المشاركات العسكرية، فقد ظلت السياسة الألمانية تعتمد على الحوار واللجوء ضمن تحالفات غربية للقوة العسكرية كخيار أخير بعيداً عن العمل الأحادي، وفي هذا السياق امتنعت ألمانيا عن التصويت في مجلس الأمن عام 2011 على فرض منطقة حظر طيران فوق ليبيا رغم تقدم فرنسا وبريطانيا بمشروع القرار.
توالت الأحداث الدولية التي دفعت السياسة الألمانية للتغير والانخراط بشكل أكبر في السياسة العالمية والصراعات، وهو ما عبر عنه وزير الخارجية الألماني شتاينماير قائلاً إن “ثقافة ضبط النفس يجب ألا تصبح ثقافة ألمانية تعني البقاء على الهامش”، وبالتالي اتجهت المواقف الألمانية نحو مزيد من العسكرة في ظل عدة أحداث من أبرزها:
- الحرب في سوريا وما نتج عنها من أزمة لاجئين أحدثت خلافاً بين الدول الأوروبية وفي الداخل الألماني.
- هجمات تنظيم الدولة في فرنسا ثم على الأراضي الألمانية.
- ضم روسيا لشبه جزيرة القرم ثم دعمها للتحرك الانفصالي شرق أوكرانيا عام 2014.
ورداً على ما سبق، قررت ألمانيا في عام 2014 تسليم أسلحة إلى البشمركة الكردية للمساعدة في قتال تنظيم الدولة، وهي المرة الأولى التي تزود فيها ألمانيا أطرافاً خارجية بالسلاح في ساحة صراع، كما نشرت برلين 100 جندي في مهمة تدريبية شمال العراق، ونشرت 1200 جندي آخرين ضمن التحالف الدولي المناهض لتنظيم الدولة في العراق وسوريا، وكذلك نشرت 950 جندياً عام 2015 ضمن عملية صوفيا التابعة للاتحاد الأوروبي لمكافحة الهجرة غير الشرعية في البحر المتوسط.
العلاقات مع روسيا
حرصت برلين على إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة مع موسكو وتدعيم العلاقات التجارية والاقتصادية بين البلدين، حتى إنه في ظل الأزمة الأوكرانية عام 2014 أظهرت ألمانيا تفضيلها للأدوات الدبلوماسية والاقتصادية على الأدوات العسكرية، فرفضت تسليم أسلحة دفاعية فتاكة لأوكرانيا كما رفضت نشر قوات دائمة للناتو في دول البلطيق وشرق أوروبا بحجة أن ذلك سيستفز روسيا، كما رفضت ألمانيا ضم جورجيا وأوكرانيا للناتو، وحرصت على التعاون الأمني مع موسكو في ملفات مكافحة الإرهاب وتجارة المخدرات.
إن دفع ألمانيا للعب دور على الساحة العالمية باعتبارها أبرز جهة فاعلة داخل الاتحاد الأوروبي لم يكن نتيجة لاستراتيجية مخطط لها مسبقاَ من طرف الحكومة الألمانية، لكنه حدث في ظل دفع حلفاء ألمانيا لها للقيام بذلك، وهو ما استجابت له في ظل ضغوط الأحداث الخارجية
لكن سياسة الكرملين التوسعية بضم شبه جزيرة القرم ثم دعم التمرد في شرق أوكرانيا جعلت برلين توقن بأن موسكو تتبنى حلولاً أحادية الجانب وتفرض واقعاً جديداً يهدد الأمن الأوروبي ويثبت فشل سياسة الانفراج الألمانية تجاه روسيا في تطويع الأخيرة لتصبح أكثر تعاوناً، وبالتالي قادت ألمانيا جهود فرض عقوبات اقتصادية على موسكو رغم التصور الشائع بأن علاقاتها مع روسيا مبنية على الاقتصاد بشكل رئيسي، وأظهرت برلين بوضوح أن الأمن مقدم على الاقتصاد في علاقتها مع موسكو، وهو ما أكده عدم تراجعها عن العقوبات على موسكو رغم تقلص صادراتها إلى روسيا بنسبة 31% خلال النصف الأول من عام 2015.
ثم جاء الاجتياح الروسي الأخير لأوكرانيا ليدفع ألمانيا نحو إجراءات غير مسبوقة عبر تقديم دعم عسكري بأسلحة فتاكة لكييف وتخصيص مبلغ ضخم للإنفاق العسكري بلغ 100 مليار دولار مع العلم بأن متوسط الإنفاق العسكري الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية لم يتجاوز 50 مليار دولار لجيش يبلغ تعداده 183 ألف جندي، بحسب تقرير التوازن العسكري لعام 2021.
إن دفع ألمانيا للعب دور على الساحة العالمية باعتبارها أبرز جهة فاعلة داخل الاتحاد الأوروبي لم يكن نتيجة لاستراتيجية مخطط لها مسبقاَ من طرف الحكومة الألمانية، لكنه حدث في ظل دفع حلفاء ألمانيا لها للقيام بذلك، وهو ما استجابت له في ظل ضغوط الأحداث الخارجية.
إن برلين ظلت مترددة في ملء الفراغ الذي خلّفه تراجع قوة لندن وباريس وانشغال واشنطن بتضميد جراحها في حربي العراق وأفغانستان، لكن يبدو أن تكشير الدب الروسي عن أنيابه في أوكرانيا يدفع العملاق الألماني نحو الاستيقاظ مجدداً مع حفاظه على مراعاة حساسية حلفائه الأوروبيين، وحرصه على العمل ضمن المظلة الأوروبية والأطلسية، وهو ما يؤكد أن كلمات المستشارة ميركل عقب الشغب الروسي مع أوكرانيا عام 2014 لم تكن مجرد بلاغة لفظية إذ قالت: “إننا نشهد الآن في أوروبا صراعاً حول مناطق النفوذ والمطالبات الإقليمية، صراعاً عرفناه منذ القرنين التاسع عشر والعشرين واعتقدنا أننا تجاوزناه.. إن ما يحدث هو انتهاك للقانون الدولي.. ويجب ألا نعود إلى العمل كالمعتاد، ولن نعود إلى العمل كالمعتاد”.
المصدر – عربي بوست – أحمد مولانا