مثلما توقع الاقتصاديون في كافة أنحاء العالم، فقد تأثرت الاقتصاد العالمي بالحرب في أوكرانيا الدائرة الآن، بعد قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين البدء بالعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا 24 فبراير (شباط) 2022، وكان الاقتصاد الروسي أول المتأثرين بالطبع؛ نتيجة للعقوبات التي قررت الولايات المتحدة الأمريكية، وبعض الدول الأوروبية، ودول أخرى حليفة مثل: اليابان، وأستراليا، فرضها عليه.
لكن التداعيات الاقتصادية للحرب والعقوبات لم تضرب روسيا وحدها، التي تأثرت عملتها سلبيًا بشكل غير مسبوق، بل أمتدت موجات الحدث لتؤثر على باقي اقتصادات دول العالم، وظهر هذا التأثر السريع في الأسواق المالية على وجه الخصوص؛ بحكم أنها تعكس الأحداث السياسية في العالم بشكل لحظي.
كما تأثرت أسعار السلع أيضًا بالحرب في أوكرانيا، وفي مقدمتها أسعار الطاقة (النفط والغاز تحديدًا) بالإضافة إلى أسعار الذهب الذي يعد ملجأً آمنًا في وقت الأزمات، وانعدام اليقين، وتضرر الثقة بالعملات، وفي هذا التقرير نستعرض بالأرقام أهم التأثيرات الاقتصادية الحاصلة في روسيا والعالم منذ بدء الحرب في أوكرانيا.
روسيا.. أكبر المتضررين
بمجرد اندلاع الحرب في أوكرانيا بدأت الدول الغربية في فرض عقوبات ضد روسيا؛ ليظهر أثر تلك العقوبات على الاقتصاد الروسي بشكل فوري، فضلًا عن مراكمة الخسارات على أكثر من مستوى، وكان أهمها:
أولًا: الروبل الروسي
كان الروبل الروسي في مسار انحدار قبل شن الحرب في أوكرانيا، وبالتحديد منذ بدء التوترات في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، إذ تجاوز الروبل الروسي بالكاد حاجز 75 روبل لكل دولار طوال العام الماضي، ودخل العام الجديد وسعره 75 روبل مقابل الدولار.
قبل يومٍ من شن الحرب في أوكرانيا كان سعر الروبل 81 روبل للدولار تقريبًا، ومع ساعات الصباح الأولى للحرب أصبح سعره مقاربًا لـ90 روبل للدولار، لكنه تحسن ووصل إلى 83 روبل أمس 28 فبراير 2022.
ومع إعلان حزمة العقوبات الجديدة، والتي تضمنت فصلًا لبنوك روسية من نظام «سويفت»، وعقوبات على البنك المركزي الروسي، ووزارة المالية، وصندوق الرعاية الوطنية الروسي؛ هبط الروبل بشكل حاد في أربع ساعات فقط، ووصل إلى رقم قياسي تجاوز 110 روبلات للدولار.
لكن الروبل عاود التحسن من هذه النقطة الأسوأ في تاريخه، وعاد إلى حدود 95 روبل للدولار الواحد أمس، الساعة 04:10 مساء بتوقيت جرينيتش، وهذا يعني أن الروبل خسر ما نسبته 17% من قيمته، منذ بداية اليوم الأول لشن الحرب في أوكرانيا، وحتى الساعة 04:10 مساء أمس بتوقيت جرينيتش؛ إذ ساعد إجراء البنك المركزي الروسي بوقف تداول الروبل على تقليل حدة الهبوط، أو على الأقل تأخير ظهور الهبوط إلى وقت لاحق، ودون هذا الإجراء كان من الممكن أن يهبط الروبل أكثر.
ثانيًا: سوق الأسهم
بدأت الخسائر في بورصة موسكو منذ بدء الأزمة بين روسيا وأوكرانيا، فمنذ شهر نوفمبر 2021 خسرت البورصة الروسية 43% من قيمتها، وذلك في أربعة أشهر فقط، مسجلة خسائر بقيمة 170 مليار دولار.
ومنذ بداية اليوم الأول للحرب على أوكرانيا في 24 فبراير، وحتى آخر ساعة تداول مسجلة في 25 فبراير، خسرت بورصة موسكو 3.2% من قيمتها، أو ما يعادل 7.5 مليار دولار خلال يومي تداول فقط، ولا تضم بورصة موسكو إلا 50 شركة روسية كبرى، وأكثر أسهمها سيولة؛ وهو ما يعني توَافر طلب ضخم في حال أردت البيع، وتوافر معروض ضخم في حال أردت الشراء.
وبضغط من تلك الخسائر أوقفت روسيا تداول الأسهم في بورصة موسكو؛ مما أوقف نزيف خسائر البورصة، ولم تعد البورصة للعمل أمس الاثنين 28 فبراير، ولا يُعلم متى ستقرر موسكو إعادة فتح بورصاتها للتداول ثانية.
لكن لا يمكن حصر خسائر الشركات الروسية المسجلة في أسواق أخرى، وهي مختلفة عن الخسائر المسجلة في بورصة موسكو، فبعض الشركات والبنوك الروسية حققت خسائر تراوحت بين 20-80%، خسرها المستثمرون في هذه الشركات والبنوك أيضًا داخل وخارج روسيا.
ثالثًا: الناتج المحلي الإجمالي والتضخم
لن نستطيع معرفة ما حصل بالناتج المحلي الإجمالي لروسيا والتضخم فيها اليوم 1 مارس (آذار) 2022، لكن التوقعات تقول إن الناتج المحلي الإجمالي قد ينكمش بنسبة 5% خلال عام 2022، نتيجة للحرب على أوكرانيا والعقوبات التي تلتها، وهذه النسبة تعد أكثر من ضعفي نسبة انكماشه في عام 2015، إثر العقوبات التى فرضها الغرب على موسكو عام 2014 بعد ضمها لشبه جزيرة القرم، وفي حال تحقق الانكماش بنسبة 5% فلن تقل قيمة الخسائر الروسية عن 70 مليار دولار.
أما عن التضخم؛ فإن الصورة لن تبدأ بالاتضاح قبل منتصف مارس 2022 على أقل تقدير، على فرض أن البنك المركزي الروسي سينشرها في ذلك الوقت، ومن الطبيعي أن يرتفع التضخم في روسيا؛ خصوصًا مع انخفاض قيمة العملة؛ مما يعني أن المواطن الروسي سيحتاج روبلات أكثر لشراء السلع من الخارج، حتى ولو لم ترتفع قيمتها في بلدان المنشأ، كما أن كل المنتجات الروسية التي تعتمد على الاستيراد من الخارج سيرتفع سعرها تبعًا لذلك.
لكن رصد نسبة التضخم في روسيا عام 2015 قد تعطينا انطباعًا أوليًا عن مستوى التضخم المتوقع؛ إذ سجلت روسيا تضخمًا بنسبة 15.5%، بحسب بيانات البنك الدولي في 2015، لذا فمن المرجح أن تكون في 2022 أعلى من ذلك بكثير، نظرًا لأن العقوبات الأمريكية والأوروبية المفروضة على روسيا اليوم أكبر بما لا يقارن.
هذه المليارات التي خسرتها موسكو كان يمكن أن تساهم في رفع النمو الإجمالي الروسي، وتحقيق أهداف التنمية في البلاد، والمساعدة في تخفيف آثار الجائحة، ورفع الإنفاق الحكومي، خصوصًا على برامج الدعم، وتخفيف الدين الحكومي المقدر بـ300 مليار دولار تقريبًا في عام 2021، لكن قرار الحرب لغى كل ذلك.
تداعيات الحرب في أوكرانيا على الاقتصاد العالمي
لم تكن روسيا المتضرر الوحيد من الحرب في أوكرانيا وحِزَم العقوبات المختلفة عليها، بل إن الضرر الاقتصادي شمل العالم كله في الأغلب، فمنذ بداية الحرب في أوكرانيا تغيّر الكثير في الاقتصاد العالمي، وما تزال الأوضاع الاقتصادية غير مستقرة عالميًا، بل مرشحة للتذبذب بشكل كبير، وعلى المستويات التالية:
أولًا: أسواق الأسهم
كان من المتوقع أن تستمر الأسواق المالية في الخسارة منذ بدء الحرب في أوكرانيا وحتى وقت طويل بعدها، إلا أن المؤشرات الرئيسة للأسواق المالية (وسنستخدم هنا مؤشرات S&P500, NASDAQ, Dow Jones) حققت أرباحًا مفاجئة منذ 24 فبراير وحتى 28 فبراير 2022.
وبلغت أرباح «NASDAQ» ما نسبته 4% منذ بدء الحرب، بينما بلغت أرباح «S&P500» ما نسبته 2.3%، وأخيرًا ربحت «Dow Jones» ما نسبته 1%، كل ذلك قياسًا على آخر ما حققته في آخر يوم قبل الحرب، وحتى يوم 28 فبراير، وذلك في مثال واضح على ما أسماه باحثون سويسريون «لغز الحرب»، والذي يقضي بأن الأسهم دائمًا تحقق خسائر في حالة ترقب حدوث الحرب، لكنها تبدأ في تحقيق الأرباح بمجرد أن تندلع الحرب فعلًا.
ثانيًا: النفط
استمر النفط بالتذبذب في الشهور الأخيرة، لكنه لم يستمر في الارتفاع عن المستوى الذي حققه في أول أيام الحرب في أوكرانيا؛ خصوصًا أن الغرب أبدى استعداده لاتخاذ إجراءات حاسمة للحفاظ على سعره من الارتفاع، فمنذ شهر نوفمبر ارتفع سعر النفط بما يقارب 20%، من 84 دولار للبرميل إلى 101 دولار.
ومنذ بدء الحرب في 24 فبراير ارتفع سعر النفط إلى 101 دولار للبرميل، ولا زال مستقرًا عند هذا السعر اليوم 1 مارس، وسط توقعات تؤكد ارتفاعه إلى 120 دولار في المستقبل، رغم الإجراءات الغربية.
وفي حال استمر سعر النفط عند مستوى 101 دولار لعام كامل، واستمرار استهلاك النفط على حجمه الحالي، فإن العالم سينفق أكثر من نصف ترليون دولار خلال العام، زيادة على ما كان ينفقه قبل شهر نوفمبر 2021، أما إذا ارتفع سعر النفط إلى 120 دولار؛ فإن العالم سينفق في عام 2022 نحو 1.25 ترليون دولار، أكثر مما كان ينفقه في العام السابق، ويعني ذلك خسائر فادحة للدول المستوردة للنفط، وربحًا كبيرًا للدول المصدرة له، وبينها روسيا نفسها، على فرض أنها استطاعت الاستمرار في تصدير النفط (سواء إلى الصين أو غيرها).
ثالثًا: الذهب
منذ بداية نوفمبر ومع تعقد الأزمة الروسية-الأوكرانية ارتفع سعر الذهب بما نسبته 6%، من 1795 دولار للأونصة، إلى 1905 دولارات للأونصة، لكن على عكس الأسهم، فقد ارتفع سعر الذهب بدايةً بعد إعلان الحرب حتى وصل إلى 1972 دولار للأونصة، ومن ثمّ واصل هبوطه بنسبة 2% حتى وصلت قيمته 1905 دولارات للأونصة في 28 فبراير، ولكن سعره أيضًا مرشح للتذبذب بشكل كبير في الأيام والأشهر القادمة.
المصدر – ساسة بوست
https://www.sasapost.com/impact-of-the-war-in-ukraine-on-economy/