حجزت النمسا مؤخرا لنفسها مكانة متقدمة بين الدول ذات التوجهات أو السياسات المعادية للمهاجرين واللاجئين على نطاق واسع. فمع الحكومة النمساوية الحالية ذات التوجه اليميني، تحولت الهجرة إلى عنوان رئيسي وموضوع دائم النقاش في أروقة الإعلام والسياسة المحلية. مع ذلك، تسعى منظمات وجمعيات محلية مثل مركز “حمايات” لدعم ضحايا الحروب والتعذيب، الذي يعمل على تقديم الدعم النفسي للاجئين وطالبي اللجوء في فيينا، لتغيير تلك الصورة.
في أحد الأحياء الشمالية للعاصمة النمساوية فيينا، غير بعيد عن وسط المدينة التاريخي، يقع مقر “حمايات”، المعني بتقديم خدمات العلاج النفسي للاجئين ولطالبي اللجوء، داخل أحد المباني المشيدة على نمط العمارة الجرمانية. مبنى ضخم ذو كتل قاعدية حجرية ضخمة تشكل إحداها المدخل الرئيسي للمركز
مقاعد خشبية وبعض الصور المعلقة على الجدران، إضافة إلى بعض الألعاب المتناثرة على الأرض وطاولة صغيرة عليها مجموعة من المطبوعات والإرشادات الخاصة باللاجئين، هذا ما يطالعك لحظة الولوج من الباب إلى البهو الرئيسي. في الخلفية أصوات خافتة، نقر على ألواح مفاتيح الكمبيوتر وأشخاص يتحدثون بصوت منخفض. هناك التقينا بباربرا، المعالجة النفسية وإحدى مؤسسات المنظمة.
امرأة في العقد الخامس من عمرها، تنبض حيوية ونشاطا، توحي بأنها ذات خبرة واسعة ودراية بما تقوم به. بهدوء قادتنا إلى إحدى الغرف الجانبية التي تستخدم خلال الجلسات العلاجية. “لدينا الكثير من الغرف” قالت باربرا لتضيف بسرعة “معظمها مشغول، فهناك جلسات علاجية قيد التنفيذ حاليا”، وهذا هو سبب الهدوء والصمت.
قبل 24 سنة بادرت أنا وأربع أطباء أصدقاء لي بتأسيس المنظمة”، وأضافت المعالجة النفسية “كان بيننا أطباء باختصاصات أخرى، ما أردناه هو تقديم المساعدة الحقيقية والمباشرة للاجئين”.
وقدم المركز خلال 2017 العلاج لأكثر من ألف مهاجر ينحدرون من جنسيات مختلفة بينهم نسبة كبيرة من القاصرين.
الحماية والوطن
تسترسل باربرا في الحديث عن بداية فكرة “حمايات” لتقول “خلال فترة الدراسة، أدركت أنا وأصدقائي أهمية وجود منظمة تعنى بضحايا الحروب والتعذيب… خلال تلك الفترة أيضا سافرت إلى سريلانكا وزرت المناطق التي تشهد المعارك حينها، وتعرفت عن كثب على أهوال الحروب وما هي قادرة على أن تفعله بالإنسان والمجتمعات… كانت تلك إحدى التجارب الرئيسية التي شكلت قناعاتي بضرورة أن أقوم بما أفعل به الآن”.
ولم تغفل باربرا شرح خلفية الاسم، “استوحينا الاسم ‘حمايات‘ من أحد اللاجئين الإيرانيين الذين كنا نعمل معهم حينها. الاسم كما يوحي يأتي من حماية، وهي كلمة متداولة لدى الإيرانيين والأتراك والعرب. كما أنها قريبة من كلمة “هيمات” (HEMAYAT) باللغة النمساوية التي تعني وطن. وبالتالي ارتأينا ربط المفهومين ببعض، الحماية والوطن، واعتمدنا هذا الاسم.
كانت الحرب في البلقان نقطة تحول للقائمين على المنظمة، إذ وصل حينها إلى النمسا الكثير من اللاجئين الهاربين من المجازر والحروب، فتعددت وقتها المبادرات التي تسعى لدعم هؤلاء اللاجئين “وكنا نحن من ضمن تلك المبادرات. وانهمك المعالجون النفسيون لدينا إضافة إلى الأطباء مباشرة بتقديم الدعم للاجئين”.
تستذكر باربرا تلك المرحلة وتقارنها مع الوقت الحالي “كان التضامن أكبر بكثير، بطبيعة الحال المبادرات المدنية حينها كانت فاعلة جدا. عملنا منذ ذلك الوقت مع مروحة واسعة من اللاجئين من جنسيات مختلفة، إيرانيين وفلسطينيين وصوماليين وعراقيين وسودانيين، ومؤخرا أفغان وسوريين، وكنا نعمل بشكل شبه مجاني…”.
لم يتسن لنا لقاء أي من اللاجئين ممن يخضعون للعلاج بسبب السرية التي يحيط بها أعضاء المركز لأوضاع هؤلاء اللاجئين، فضلا عن تفضيلهم عدم الإفصاح عن هوية اللاجئين خوفا من أي ارتدادات سلبية عليهم.
الإعلام في النمسا يقوم بدور سيء
“ما نشهده الآن حيال تغيير سياسات الهجرة في النمسا مؤسف جدا” تقول باربرا، “فمنذ إغلاق الحدود، تضررت الحالة النفسية للكثير من اللاجئين، فهم باتوا في قلق دائم على مستقبلهم ومستقبل عائلاتهم وأطفالهم سواء كانوا مقيمين في النمسا أو يسعون لجلبهم إلى هنا”.
وتضيف “اليوم لم يعودوا يشعرون بالأمان الذي كانوا يأملون إيجاده في أوروبا… ما أن يصلوا أوروبا حتى تبدأ معركة جديدة، فعليهم العمل بجد ودون تعب لتوفير شروط الإقامة والأوراق فضلا عن بدء حياة جديدة في بلاد لا يعرفون عنها شيئا، دون الحديث عن تعلم اللغة ومواجهة العنصرية والعمل على الاندماج”.
بالنسبة لباربرا الجميع مسؤول عما آلت إليه الأوضاع، فالإعلام على سبيل المثال لم يقم بالدور الذي كان متوقعا منه. في الوقت الذي تسعى فيه مبادرات ومراكز مشابهة للإضاءة على عملها لكسب التأييد والتضامن المحليين، باتت الصورة حاليا مغايرة، “منذ العام 2015 نعاني من طريقة تعاطي الإعلام مع أزمة اللجوء والهجرة، حتى بتنا لا نفضل أن تتم الإضاءة إعلاميا على مبادراتنا وأنشطتنا كي لا تثير أي تعليقات سلبية قد تساهم بتأليب الرأي العام ضد المهاجرين”.
ولدى سؤالها حول ما الذي يحصل في حال تم ترحيل أي من اللاجئين الذين يخضعون للعلاج، تجيب “العمل مع اللاجئين أو طالبي اللجوء لا يتوقف، بمعنى أن الحالة النفسية لهؤلاء لن تتحسن بمجرد حصولهم أو عدم حصولهم على الأوراق، المتابعة ضرورية جدا بمثل هذه الحالات… وفي حال تمت إعادة أحدهم إلى بلاده الأصلية التي فر منها فهذا يعني انقطاعه عن العلاج… من يعرف ما الذي مر به هؤلاء المساكين، كثير منهم خسروا منازلهم وأقرباءهم قبل أن يصلوا هنا”.
ولا تخفي باربرا أن عملية الترحيل لأي مهاجر أو لاجئ يخضع للعلاج قد تتعرقل لهذا السبب، وبالتالي قد يكون مركز “حمايات” مشاركا بمنع ترحيل مهاجرين بشكل غير مباشر.
وتشدد على أن “عملنا محصور بتقديم الدعم النفسي فقط، لا نقدم أي خدمات اجتماعية أو قانونية”.
التبرعات تغطي 65% من ميزانية المركز
سيسيليا هايس، مديرة المركز وأخصائية نفسية أيضا، أوردت أن مركز “حمايات” قدم خلال العام الماضي العلاج النفسي لأكثر من “1300 لاجئ وطالب لجوء ينتمون لأكثر من 50 جنسية مختلفة، وحاليا لدينا 616 شخصا على قوائم الانتظار، نريد استقبالهم والاهتمام بهم ولكن ميزانيتنا لا تسمح بذلك الآن”.
واحتل القاصرون نسبة كبيرة جدا من المستفيدين من خدمات المركز العام المضي، جاء معظمهم من أفغانستان ثم سوريا والشيشان وإيران والعراق والصومال.
وتوضح هايس أن “ميزانية المركز تعتمد على تمويل جزئي حكومي إضافة إلى تمويل من الاتحاد الأوروبي، إلا أن تلك التمويلات غير كافية لتغطية حجم العمليات التي نقوم بها. فارتأينا التوجه للبحث عن مصادر إضافية، وتحديدا من جهات خاصة”، ما يعطي المركز هامشا أكبر من الحرية في اختيار البرامج وأعداد اللاجئين الذين يريدون العمل معهم.
ووفقا لتصريح سابق لإحدى المسؤولات عن المركز لوسائل إعلام محلية، تبلغ نسبة التبرعات التي يحصل عليها “حمايات” من مانحين كبار مثل منظمة أطباء بلا حدود 65% من ميزانية المركز، أما التمويل القادم من الحكومة ومن منحة اللجوء والهجرة والاندماج الأوروبية فيبلغ 35% من الميزانية.
وحول أعداد العاملين في المركز، تقول هايس “يعمل حاليا في المنظمة نحو 50 معالجا نفسيا وطبيبا من اختصاصات مختلفة، معظمهم يعملون بدوام يومي، كما لدينا عشرات المترجمين ممن يعملون معنا لساعات عديدة خلال الأسبوع لمساعدتنا ومساعدة اللاجئين على التواصل”.
المصدر – مهاجر نيوز