“ثالوث باكستان النووي المرعب” يعطي قوة استثنائية لهذا البلد الذي يعاني من الفقر والاضطرابات.
فمثلما صدمت سرعة تطور البرنامج النووي لإسلام آباد جارتها الهند والدول الغربية، فإن ثالوث باكستان النووي، أصبح فعالاً ويوفر للبلاد قوة ردع في مواجهة تفوق الهند عليها في القدرات العسكرية التقليدية والإمكانات البشرية والاقتصادية.
واقع خطير دفع إلى الاهتمام بتطوير ثالوث باكستان النووي
تقع باكستان بين إيران والصين والهند وأفغانستان، وتعيش في جوار معقد مع مجموعة متنوعة من القضايا الأمنية.
وبصفتها واحدة من الدول التسع المعروفة بامتلاكها أسلحة نووية، تتطور ترسانة باكستان النووية وعقيدتها باستمرار لتلائم التهديدات المتصورة.
ونظراً لأنها قوة نووية منذ عقود، تحاول باكستان الآن بناء ثالوث نووي خاص بها يجعل ترسانتها النووية مرنة وقادرة على شن ضربات انتقامية مدمرة، حسبما ورد في تقرير لمجلة The National Interest الأمريكية.
ويتشكل ثالوث باكستان النووي من الأسلحة والمنصات التي تستخدم لإطلاق الرؤوس النووية الباكستانية.
كيف تم تأسيس البرنامج النووي الباكستاني؟
يعود البرنامج النووي الباكستاني إلى الخمسينيات من القرن الماضي، خلال الأيام الأولى من تنافسها مع الهند. قال الرئيس ذو الفقار علي بوتو تصريحه الشهير في عام 1965 : “إذا صنعت الهند القنبلة، فسوف نأكل العشب أو أوراق الشجر، أو حتى نجوع، لكننا سنحصل على واحدة خاصة بنا”.
بدأت باكستان عملية تكديس الوقود اللازم للأسلحة النووية واليورانيوم المخصب والبلوتونيوم. وساعد البلد في ذلك تحديداً عبد القدير خان، الذي كان عالم معادن يعمل في الغرب وعاد إلى وطنه عام 1975 بتصميمات أجهزة طرد مركزي وعلاقات تجارية ضرورية لبدء عملية التخصيب. وحصل برنامج باكستان على دعم من الدول الأوروبية، وصُمِّم برنامجٌ سري للحصول على المعدات من أجل تنفيذ عملية نهائية لجهود منع انتشار الأسلحة النووية. لكن انسحبت البلدان الخارجية في نهاية المطاف عندما أصبح الغرض الحقيقي من البرنامج واضحاً، وبرغم ذلك، استمرت الجهود السرية.
واستفاد خان من عمله في شركة “FDO” الهندسية الهولندية، لاكتساب المهارات والمعلومات حول الأسس لبناء برنامج نووي. وكانت شركة “FDO” على صلة وثيقة بمنظمة اليورنكو، وهي منظمة بحثية أوروبية مهتمة بتخصيب اليورانيوم من خلال نظام آلات النابذة (التفاصيل المستخدمة في تلك الآلات النابذة تعتبر سرية لأنها قد تستخدم في تطوير القنبلة النووية)، حسبما ورد في تقرير لموقع “العربي”.
بعد التجربة النووية للهند عام 1974، اعتبر خان أن بلاده تحتاج إلى برنامج نووي خاص بها. فكتب رسالة إلى رئيس الوزراء الباكستاني آنذاك ذو الفقار علي بوتو قائلاً: “حتى تبقى باكستان دولة مستقلّة، فإن عليها إنشاء برنامج نووي”.
وكانت رسالة خان بمثابة الانطلاقة العملية لتأسيس برنامج باكستان النووي، بخاصّة بعدما دعاه رئيس الوزراء عام 1975 للعودة إلى باكستان لإدارة برنامجها النووي. وفي العام التالي، غادر خان هولندا عائداً إلى بلاده.
هكذا صَنَعت القنبلة النووية في زمن قياسي
وتمكّنت باكستان، بفضل البحوث التي أشرف عليها عبد القدير خان، من تحقيق نقلة نوعية على صعيد بناء ترسانة من الأسلحة المتطوّرة، وبرنامج نووي ذي كفاءة عالية.
وفي عام 1974، أطلقت مفوضية الطاقة الذرية الباكستانية برنامج تخصيب اليورانيوم. وبعد عامين، انضم خان إلى تلك المفوضية، لكنه لم يتمكّن من إنجاز أي شيء. وفي يوليو/تموز من العام ذاته، أسس خان معامل هندسية للبحوث في مدينة كاهوتا، والتي سُمّيت لاحقاً بمعامل خان البحثية، تيمناً به، واستغرق بناء مفاعل كاهوتا النووي ستة أعوام.
وامتدّت أنشطة معامل خان البحثية لتشمل برامج دفاعية مختلفة منها تصنيع صواريخ، وأجهزة عسكرية أخرى كثيرة، وأنشطة صناعية، وبرامج وبحوث تنمية.
وتشير مصادر غربية إلى أن العمل الذي أنجزه خان في 6 أعوام في البرنامج النووي لبلاده يستغرق في العادة عقدين من الزمان في الدول الغربية ذات التقاليد الراسخة في مجال الصناعة النووية، وقد ساعده كتمانه الشديد على نجاح مشروع إنشاء القنبلة النووية الباكستانية، كما ساعدته علاقاته بالشركات الغربية ذات الصلة بميدان التخصيب وبناء آلات الطرد المركزي على أن يشتري ما يعينه على بناء مختبراته وعلى تطوير بحوثه.
محطات غامضة
ومن غير المعروف متى أكملت باكستان بالضبط بناء أول أداة نووية. وادعت الرئيسة السابقة بينظير بوتو، ابنة ذو الفقار بوتو، أنَّ والدها أخبرها أنَّ أول أداة نووية صارت جاهزة للاستخدام بحلول عام 1977. وقال عضو في هيئة الطاقة الذرية الباكستانية إنَّ تصميم القنبلة قد اكتمل في عام 1978 وخضعت القنبلة “للاختبار على البارد”- أي أُوقِفَت قبل الانفجار الحقيقي بمدة قصيرة- في عام 1983.
وفي سبتمبر 1986، تمكنت باكستان من القيام بأول تفجير نووي تحت سطح الأرض، وفق صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية، في خطوة تمثل أبرز إنجاز عسكري حققته باكستان في تاريخها، وما زالت إلى اليوم هي الدولة الإسلامية الوحيدة التي بلغت مرحلة إنتاج القنبلة النووية.
وزعمت بينظير بوتو فيما بعد أنَّ القنابل الباكستانية خُزِّنَت مُفكَّكة حتى عام 1998، عندما اختبرت الهند 6 قنابل في غضون ثلاثة أيام. وبعد ما يقرب من 3 أسابيع، نفذت باكستان جدولاً مماثلاً لاختبارات إطلاق النار السريع، وفجرت 5 قنابل في يوم واحد والقنبلة السادسة بعد ثلاثة أيام. قد تكون الآلة النووية الأولى، التي تُقدَّر بنحو 25 إلى 30 كيلوطناً، عبارة عن جهاز يورانيوم مُعزَّز. وقُدِّر وزن الثانية باثني عشر كيلوطناً، والثلاثة أجهزة التالية دون كيلوطن.
هل فجرت كوريا الشمالية قنبلة ذرية على أرض باكستان؟
يبدو أنَّ الأداة السادسة والأخيرة كانت عبارة عن قنبلة زنة 12 كيلوطناً فُجِّرَت في نطاق اختبار مختلف؛ بحسب ما توصلت له طائرة الكشف النووي التابعة للقوات الجوية الأمريكية “Constant Phoenix” من البلوتونيوم المُكتَشَف بعد ذلك.
ونظراً لأنَّ باكستان كانت تعمل على قنبلة يورانيوم، وكانت كوريا الشمالية- التي شاركت أو اشترت أبحاثاً مع باكستان من خلال شبكة عبد القدير خان- تفعل المثل، خلُص بعض المراقبين الخارجيين إلى أنَّ الاختبار السادس كان في الواقع اختباراً كورياً شمالياً، فُجِّر في مكان آخر لإخفاء تورطها. وبالرغم من ذلك، لا يوجد إجماع على هذا الاستنتاج.
مخزون نووي يتفوق على الهند ومرشح لأن يصبح الثالث عالمياً
ويعتقد الخبراء أنَّ مخزون باكستان النووي يتزايد باطراد. في عام 1998، قُدِّر المخزون من 5 إلى 25 أداة نووية، اعتماداً على كمية اليورانيوم المُخصَّب التي تتطلبها كل قنبلة. تشير التقديرات إلى أن باكستان اليوم تمتلك ترسانة من 110 إلى 130 قنبلة نووية.
بينما يشير تقرير صادر عن معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام عام 2018 إلى أن باكستان تمتلك من 140 إلى 150 رأساً نووياً مقارنة بعدد الرؤوس الحربية الهندية البالغ 130-140، في حين تتحدث تقديرات أخرى أن حجم الترسانة النووية الهندية يتراوح بين 90 و110 رؤوس نووية.
وبصرف النظر عن التفاوت في تقديرات الرؤوس النووية لدى البلدين، تميل معظم التقديرات إلى أن باكستان تمتلك عدداً أكبر من الهند، وهو إنجاز لإسلام آباد بالنظر لفارق الإمكانات بين البلدين لصالح نيودلهي.
وفي عام 2015، قدَّرت مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي ومركز أبحاث ستيمسون الأمريكي قدرة باكستان على صنع 20 قنبلة سنوياً، وهو ما يعني بالإضافة إلى المخزون الحالي أنَّ باكستان يمكن أن تصبح بسرعة ثالث أكبر قوة نووية في العالم. ومع ذلك، يعتقد مراقبون آخرون أنَّ باكستان لا يمكنها تطوير سوى 40 إلى 50 رأساً حربياً في المستقبل القريب.
من يسيطر على ثالوث باكستان النووي المرعب؟
تخضع الأسلحة النووية الباكستانية أو ثالوث باكستان النووي لسيطرة قسم الخطط الاستراتيجية للجيش، وتُخزَّن بالأساس في مقاطعة البنجاب، بعيداً عن الحدود الشمالية الغربية وطالبان. ويحرس الأسلحة النووية عشرة آلاف جندي باكستاني ورجال مخابرات من قسم الخطط الاستراتيجية للجيش. وتزعم باكستان أنَّ هذه الأسلحة لن تعمل إلا بالرمز الصحيح في اللحظة الأخيرة؛ مما يمنع سيناريو “الأسلحة النووية المارقة”.
يبدو أنَّ العقيدة النووية الباكستانية تهدف إلى ردع ما تعتبره دولة الهند الأقوى اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً والتي يماثل عددها سكانها نحو خمسة أضعاف سكان باكستان.
وتفاقمت نذر المواجهة النووية بسبب العداء التقليدي بين البلدين، والحروب العديدة التي خاضها البلدان، وأحداث مثل الهجوم الإرهابي على مومباي عام 2008. وعلى عكس الهند والصين المجاورتين، ليس لدى باكستان عقيدة “عدم الاستخدام أولاً”، وتحتفظ بحقها في استخدام الأسلحة النووية، وخاصة الأسلحة النووية التكتيكية منخفضة القوة، لتعويض ميزة الهند في القوات التقليدية.
عدلت طائرات إف 16 الأمريكية لتحمل أسلحة نووية
وتمتلك باكستان حالياً “ثالوثاً” نووياً من أنظمة إيصال الأسلحة النووية قائماً على الأرض والجو والبحر. ويُعتقَد أنَّ إسلام آباد استحدثت تعديلات على مقاتلات F-16A الأمريكية الصنع وربما مقاتلات Mirage فرنسية الصنع لإيصال قنابل نووية في عام 1995.
وبما أنه سيتعين على المقاتلات اختراق شبكة الدفاع الجوي الهندية لتسليم حمولاتها ضد المدن والأهداف الأخرى، فمن المحتمل أنَّ الطائرات الباكستانية صُمِّمَت لتوجيه أسلحة نووية تكتيكية ضد أهداف في ساحة المعركة.
صواريخ تعطي مساحة تمتد من جنوب الهند إلى إسرائيل
ومن أبرز مكونات الثالثوث النووي الباكستاني أنظمة التسليم الأرضية التي تعتمد على الصواريخ.
ويستند العديد من تصميمات الصواريخ الباكستانية على التصميمات الصينية والكورية الشمالية أو يتأثر بها. تشمل سلسلة صواريخ Hatf المتنقلة صاروخ Hatf-III الذي يعمل بالوقود الصلب (بنطاق 290 كيلومتراً تقريباً) وHatf-IV الذي يعمل بالوقود الصلب (بنطاق 750 كيلومتراً تقريباً) وHatf V بالوقود السائل (بنطاق 1232 كيلومتراً). وتعتقد مبادرة التهديد الصاروخي أنَّ Hatf VI ونطاقه 1998 كيلومتراً ربما دخل في الخدمة في 2014. وتعمل باكستان أيضاً على تطوير صاروخ Shaheen III متوسط المدى القادر على ضرب أهداف تصل إلى 2750 كيلومتراً، من أجل ضرب جزر نيكوبار وأندامان الهندية.
وبصفة عامة تعد باكستان الدول الحادية عشرة في العالم من حيث مدى صواريخها، إذ تستطيع استهداف معظم شبه القارة الهندية وآسيا الوسطى والشرق الأوسط، وبالكاد يصل مداها لإسرائيل، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
وطوَّرت صواريخ كروز تطلق من السفن بدون GPS
في حين يتكون الجانب البحري للقوة النووية الباكستانية من صواريخ جوالة “كروز” فئة Babur. ويبدو أحدث إصدار منه (Babur-2)، مثل معظم الصواريخ الجوالة الحديثة، ويشبه شكله الرصاصة، مع مجموعة من أربعة أجنحة ذيل صغيرة وجناحين رئيسيين، وكلها تعمل بمحرك توربيني أو محرك نفاث. يبلغ مدى هذا الصاروخ الجوال نحو 700 كيلومتر.
وبدلاً من التوجيه بنظام تحديد المواقع العالمي (GPS)، الذي يمكن تعطيله في المنطقة من جانب إدارة الولايات المتحدة، يستخدم Babur-2 تقنية الملاحة القديمة لمطابقة التضاريس الأرضية (TERCOM) ومطابقة المشهد الرقمي والروابط المشتركة للمنطقة (DSMAC). ويمكن نشر صواريخ Babur-2 في كل من البر والبحر على متن السفن، التي سيكون من الصعب تحييدها. واختُبِرَت النسخة التي تطلقها الغواصات، وهي Babur-3، في يناير/كانون الثاني، وستكون الأكثر قابلية للصمود من بين جميع أنظمة إيصال الأسلحة النووية الباكستانية.
وتقول مجلة The National Interest الأمريكية: “من الواضح أنَّ باكستان تطور قدرة نووية عتيدة لا يمكنها فقط ردع حرب نووية بل خوضها أيضاً. إضافة إلى أنها تتعامل مع قضايا الأمن الداخلي التي يمكن أن تهدد سلامة ترسانتها النووية”.
وتضيف قائلة: “إنَّ باكستان والهند في خضم سباق تسلح نووي يمكن أن يؤدي، من الناحية النسبية، إلى مخزونات نووية عالية بدرجة عبثية تُذكِّرنا بالحرب الباردة. من الواضح أنَّ هناك حاجة ماسة إلى اتفاقية للحد من التسلح في شبه القارة الهندية”.