نشرت صحيفة الجارديان البريطانية مقالا للكاتب دانييل تريلنج يرى فيه أن إرث ميركل فى تعاملها مع أزمة اللاجئين يذهب إلى أبعد ما يعتقده اليمين المتطرف من أنه كارثة أو ما يعتقده الليبراليون من أنه انتصار لقيم الاتحاد الأوروبى.. نعرض منه ما يلى.
عندما تتنحى أنجيلا ميركل عن منصبها بعد الانتخابات الألمانية التى ستجرى هذا الشهر، سينصب التركيز على تكريمها كرمز لليبرالية الغربية، وعلى تبنيها الحذر والانفتاح وتحقيقها للاستقرار فى وقت مضطرب شهد صعود اليمين المتطرف.
يعزز من هذه الصورة موقفها من أزمة اللاجئين عام 2015. صرحت ميركل حينها بجملة «سنعالج هذا الأمر» عندما بدأ الآلاف من المهاجرين من سوريا والعراق وأفغانستان بالوصول إلى غرب أوروبا عبر تركيا واليونان ودول البلقان. فتحت ميركل ألمانيا ــ وبالتالى أوروبا ــ أمام اللاجئين، وعُدّ تصريحها جريئا وعمليا.
إلا أن اللحظة التى صرحت فيها ميركل بجملة «سنعالج هذا الأمر»، خُلق حولها خرافتان، كلاهما بالغ من أهمية تدخل ميركل وعظم من تأثيره. يلوم اليمين الشعبوى ميركل على «الخطأ الكارثى» ــ وهو الوصف الذى أطلقه ترامب ــ الذى سببته جراء تشجيعها لأكبر موجة هجرات جماعية فى تاريخ القارة والذى رأوا أنه سيقوض أمن أوروبا ويتلف هويتها. بينما ينظر الليبراليون إلى هذه السياسات كانتصار للقيم الذى أنشأ من أجلها مشروع الاتحاد الأوروبي ــ التجمع الجيوسياسى الوحيد الذى حصل على جائزة نزبل للسلام ــ وإظهارها كيف يمكن أن تواجه الأزمات بالتعاطف.
فى الحقيقة، إسهامات ميركل فى سياسات الهجرة الأوروبية تذهب إلى أبعد من تصريحها «سنعالج هذا الأمر»، فهى تركت إرثا مختلطا. أظهر تحقيق أجرته الصحيفة الألمانية Die Zeit إن تصريح ميركل لم يشجع الهجرة إلى أوروبا، ولكنه أعترف بواقع موجود بالفعل.
أزمة اللاجئين كانت قد بدأت بالفعل قبل صيف 2015، مع هجرة الآلاف، وخاصة من سوريا، بسبب ويلات الحروب فى بلادهم. عندما أعلنت ألمانيا فى أوائل سبتمبر 2015، بعد أيام قليلة من خطاب ميركل، أنها ستبقى حدودها مفتوحة للاجئين الذين يتجهون غربًا من محطة سكة حديد كيليتى فى بودابست، كانت موجات الهجرة قد بدأت بالفعل قبلها منذ شهور.
علاوة على ذلك، كانت «أزمة» أوروبا من الوصول الفوضوى والمميت للمهاجرين، ليس فقط عبر اليونان ولكن عبر البحر المتوسط من أفريقيا، فى جزء كبير منها نتاج سياسات الحدود الأوروبية، والتى أغلقت طرق اللجوء الآمنة. لعبت ألمانيا بقيادة ميركل، بصفتها العضو الأقوى فى الاتحاد الأوروبى، دورًا رئيسيًا فى خلق المشكلة من خلال حفاظها على نظام يعطى أولوية لأمن الحدود أعلى من استقبال اللاجئين. بين عامى 2007 و2013، وفقا لمنظمة العفو الدولية، أنفق الاتحاد الأوروبى على أمن الحدود مليارى يورو وعلى استقبال اللاجئين 700 مليون يورو. كما أن سياسات ميركل التقشفية لمعالجة الأزمة الاقتصادية الأوروبية أضعفت قدرة الدول فى الصفوف الأمامية، مثل اليونان، على الاستجابة للأعداد الكبيرة للاجئين فى هذه اللحظة الحاسمة.
حتى لحظة الانفتاح التى عبرت عنها جملة «سنعالج هذا الأمر»، لم تدم طويلا، فسرعان ما عملت ألمانيا على إعادة بناء القلعة الأوروبية وتحصينها. أدخلت ألمانيا ضوابط مؤقتة على حدودها مع النمسا فى منتصف سبتمبر 2015، وسرعان ما تحولت هذه الضوابط فى النهاية إلى إغلاق طرق الهجرة عبر جنوب شرق أوروبا. بعد بضعة أشهر، كانت ميركل من أبرز المؤيدين لاتفاق 2016 الذى حاصر العديد من اللاجئين فى تركيا، بينما لم تفعل ألمانيا شيئًا تجاه التحول الاستبدادى للاتحاد الأوروبى الذى جعل عمليات البحث والإنقاذ فى البحر المتوسط شبه مستحيلة. ربما كانت ميركل حصنًا ضد هيمنة اليمين المتطرف على السياسة الأوروبية، لكن الثمن كان اتباع سياسات اليمين المتطرف فى مراقبة الحدود.
فى حين أن ميركل لم تغير المسار الأوروبى تجاه الأزمة، إلا أنها غيرت لهجة النقاش فى لحظة مهمة. يمكن رؤية آثار ذلك فى الطريقة التى استوعب بها المجتمع الألمانى 1,7 مليون لاجئ بين عامى 2015 و2019. عد ذلك بلا شك نجاحا كبيرا. فأكثر من نصف اللاجئين يعملون ويدفعون الضرائب، ويقول أطفال اللاجئين إنهم يشعرون بالانتماء إلى ألمانيا وفقا لتقارير أظهرتها صحيفة الجارديان. لا تزال الحركات المعادية للأجانب موجودة، تلعب على المخاوف من الجريمة أو الإرهاب، لكن من الممكن مواجهتها.
من المفيد مقارنة موقف ألمانيا من الهجرة بالموقف البريطانى. فبريطانيا التى تظهر الكرم حاليا تجاه اللاجئين الأفغان ووعودها باستقبال 20 ألف لاجئ، لا تعمل على ذلك فى الواقع. فتبنت مواقف سلطوية آخرها كان الوعد بإرجاع مراكب اللاجئين التى تمر فى القناة الإنجليزية، أحد أكثر ممرات الشحن ازدحامًا فى العالم، وهو ما سيؤدى إلى عواقب مميتة. يكشف الرد البريطانى على المهاجرين الأفغان مؤخرا رداءة نظام اللجوء البريطانى.
فى النهاية، لا يخبرنا إرث ميركل عن تصرفات أحد السياسيين بقدر ما يخبرنا عما يمكن أن يحدث إذا كان المجتمع يمتلك الإرادة لمساعدة المحتاجين. لكن الأساطير والرموز التى يتاجر بها السياسيون لديها القدرة على تمكين مثل هذه الجهود، أو تدميرها. غالبًا ما يبدو أن النقاش حول اللجوء فى بريطانيا هو عبارة عن منافسة بين من يدفعون إلى سياسة يمينية متشددة وليبراليين يتخذون مواقف متشددة ضد الهجرة لاعتقادهم أن هذا ما يرضى الجمهور. هذا لا يرتبط بالحكومة البريطانية الحالية، بل هو نتاج سنوات من عمليات نشر كراهية الأجانب التى شجعتها الصحافة اليمينية، وسيحتاج الأمر مجهودا هائلا للتخلص منه. وتصرفات ميركل، مهما كانت غير متسقة، تذكرنا أن هناك دائما بديلا