لم يخطر على بال أي من أصحاب الورش في مدينة حلب السورية والتي عمل فيها أحمد إوسو في صباه، بأن هذا الفتى النحيل الآتي من قرية صغيرة في شمال حلب، والذي كان يحب الخياطة ويقضي ساعات طويلة بتعلمها، سينتقل في غضون سنوات قليلة إلى دولة غربية بعيدة، وسيبدأ بعد رحلة كفاح صعبة بإنشاء شركة الأزياء الخاصة به، ويصمم اليوم لمشاهير في هولندا وللعائلة المالكة الهولندية.
بهدوء وبعيدا عن الإعلام، اشتغل إوسو مع فريق صغير لتثبيت اسم “إوسو كوتور” (OSO COUTURE)، كإحدى الشركات المتفردة في تصميم الملابس النسائية، وهي الشركة التي جذبت أسماء مهمة من عالمي الفن والسياسة في هولندا خلال السنوات الأخيرة، حتى أن سياسيتين في البرلمان الهولندي اختارتا لبس فساتين له في آخر احتفال بيوم الأمير في عام 2019، وقبل أن يوقف “كوفيد-19” الاحتفالات العامة في هولندا.
كان إوسو يبتعد لسنوات عن الإعلام، حيث كان يخشى أن الاهتمام الإعلامي الزائد يمكن أن يشتت تفكيره ويعرقل مشروعه الخاص. بيد أن هذا الاعلام بدأ بالالتفات إليه، إذ تنال تصاميمه التي ترتديها شخصيات من عالمي الفن والسياسة في هولندا الاهتمام الإعلامي الأكبر عندما تظهر في مناسبات عامة.
لا يرغب إوسو كثيرا في الحديث عن الشخصيات العامة الشهيرة التي يصمم لها، ومنها العائلة المالكة الهولندية، إذ إن هناك البعض يفضل أن يبقي هذا الأمر خاصا، وهو ما يحترمه المصمم السوري.
رحلة كفاح مضنية
لم تكن رحلة مصمم الأزياء السوري هينة على الإطلاق، فهو الذي وصل قبل 10 سنوات من الثورة السورية، ظل لسنوات دون إقامة، وعندما أنشأ ورشته الخاصة، كان معدل عمله اليومي 16 ساعة.
يروي أحمد إوسو للجزيرة نت ذكريات سنوات عمله الأولى من موقع شركته الحالية القريب من مدينة ليدن الهولندية فيقول “كان جيران الورشة من الهولنديين الذين يخرجون للتمشي ليلا يطرقون زجاج الورشة عندما يروني خلف ماكينة الخياطة، ويمزحون معي بأن عليّ أن أغلق المحل وأرتاح قليلا”.
تنقل إوسو عبر 3 أكاديميات هولندية لتصميم الأزياء، ودفع بنفسه أجور الدراسة فيها في ذلك الوقت، واستفاد من فلسفة كل واحدة من الأكاديميات التي درس فيها.
يستعيد إوسو سنوات الدراسة في هولندا قائلا “تعلمت الحرية في التفكير في أكاديمية ريدفيرد الشهيرة في أمستردام، لكن لم يكن عندي الوقت لأكمل فترة الدراسة كلها، إذ كان عليّ أن أشتغل لكي أعيش، هذا بالإضافة إلى أنني كنت أجيد التصميم والخياطة قبل وصولي إلى هولندا، ولم أكن أحتاج أكاديمية لتعليمي هذا الجانب من المهنة”.
شغف وحنين إلى الأم المعلمة الأولى
سيقود طموح إوسو الكبير والذي يقف خلفه شغفه بالتصميم والخياطة إلى فتح ورشته الأولى، والتي تقع قريبا من موقع شركته اليوم.
يصف إوسو خطوته المستقلة الأولى في العمل في هولندا “كانت ورشة صغيرة، بماكينة خياطة وحيدة، وبدأت أحصل على بعض الزبائن، وأكوّن سمعة كمصمم أزياء ذي أسلوب وطريقة عمل خاصتين”.
وحتى عندما كبرت ورشته، وتحولت إلى شركة، كان إوسو أول الحاضرين إلى العمل، وآخر الذاهبين إلى البيت.
وتابع إوسو “كان الزملاء في العمل يذهبون إلى حياتهم الخاصة، وكنت الوحيد الباقي، وهذا أمر كنت أحبه إلى حد كبير، إذ إن التصميم هو شغفي الأكبر في الحياة”.
يتذكر إوسو بحب كبير أمه، المعلمة الأولى في حياته “أمّي كانت تخيط الملابس وتساعدها أخواتي، وكنت أراقب عملهن بإعجاب كبير، وكيف كانت النساء يجئن إلى البيت بقطع قماش ويخرجن راضيات بعد اكتمال ملابسهن”، بيد أن الشخص الذي كان له الدور المهم في اختيار مهنة الخياطة كان والده.
يتذكر مصمم الأزياء السوري “كان أبي يرسلنا كل صيف إلى ورش ومهن مختلفة حتى نعرف أي الأعمال هي القريبة من اهتمامنا لكي نختارها في المستقبل”. وعندما ذكرته بأن هذا الأسلوب هو بالضبط ما تفعله المدارس الإعدادية الهولندية مع طلابها. ضحك ساخرا بأن والده عمل ذلك بالفطرة ودون أي تجارب كما تفعل المدارس الهولندية.
تلمع عيني إوسو عندما يتذكر زيارته الأولى لأول ورشة خياطة في مدينة حلب، فيقول “كنت مفتونا بالمكان لحد كبير، فالأقمشة تصل من جهة، وتخرج منها ألبسة جميلة من الجانب الآخر”.
بصمة حلب
يحن إوسو إلى حلب، المدينة المتفردة حسب قوله، التي كانت ورشة المنطقة كلها بمعاملها الكثيرة. “كانت هناك طاقة مدهشة في المدينة، إذ يكاد يكون في كل شارع شخص له مهنة خاصة أو ورشة تصنع أشياء جميلة وفريدة”.
تأثيرات حلب والشرق الأوسط حاضرة بقوة في تصاميم إوسو والألوان والأقمشة التي يستخدمها. كما أنه أحب أن يتذكر أمه في المجموعة الأخيرة التي أطلقها العام الماضي “أحببت أن أوجه تحية إلى أمّي في تشكيلتي الأخيرة، المرأة التي كانت لا تعرف القراءة والكتابة، والتي كانت لا تعرف الطرق العصرية في تصميم الملابس، لكنها تجيد بطرقها ضبط قياسات الزبونات، وهي الطريقة التي استخدمها أحيانا في عملي اليوم”.
تصميمات تتحدى الزمن
المرأة التي يصمم لها إوسو هي ملكة متوجة بالأنوثة، وهذا ينعكس على الأقمشة التي يصمم بعضها أوسو نفسه، وبالتعاون مع مصانع عريقة في إيطاليا وفرنسا.
تبدو أزياء إوسو وكأنها تعود إلى زمن سابق، عندما كان التركيز على جمال الزي وإتقانه، وقبل أن تدخل شركات الملابس العملاقة السوق وتغرقه بالألبسة الرخيصة، فالقطعة الواحدة من تشكيلة المصمم السوري يمكن أن تنتقل من جيل إلى آخر.
يصف إوسو ردود فعل بعض النساء عندما يلبسن فساتينه للمرة الأولى، وكيف أن بعضهن يذرفن دموع التأثر، فيما تعود بعض النساء مع فساتين من الشركة وبعد سنوات من شرائها من أجل بعض التعديلات، إذ إن هذه الفساتين ارتبطت عند الكثير منهن بمناسبات سعيدة مثل الزواج.
ويحتل القماش أهمية كبيرة في أزياء المصمم السوري، إذ يشكل الأساس الذي يرتكز ويلهم التصميم، ويمكن أن يضيف الكثير إلى جمال المنتج النهائي.
يستخدم إوسو الحرير بتنويعاته العديدة، من الحرير الناعم كثيرا إلى حرير خاص بسماكة أكبر، كما تحضر التطريزات الخاصة في فساتين المصمم لتضيف روحا خاصة لجمال التصميمات.
وعن الأنوثة في تصاميم إوسو حتى تلك المخصصة للمرأة العاملة لكي ترتديها في عملها اليومي يقول “من المهم كثيرا إضافة لمسة أنثوية للبدلات النسائية التي أصممها، هذه اللمسة يمكن أن تكون عن طريق القماش أو إضافة تفصيلة صغيرة ما. هذه من الأمور المهمة كثيرا عندي”.