نحو بناء مجتمع العلم و السلام

فيينا – دكتور وسفير سابق – هادي التونسي —-

تخيل كيف كان سيصبح حال البشرية الآن لو أن رجل الكهف لم يمتلك رغبة في التعلم، ليجعل حياته اكثر ثراء و راحة و متعة ؟  تخيل لو انه لم يحظ بشغف المعرفة و لا بقوة الإرادة و لا برجاحة العقل ليتطور، و لينظم حياته و علاقاته، و ليعيش في سلام مع أقرانه . لكن التعلم يفترض ان يشعر المرء بأنه لا يدري أولا ليتجاوز ذلك بالتعلم، فماذا لو كان الجاهل يعتقد انه يعرف، كيف إذن يمكن تعليمه و التعامل معه؟

يتوق كثيرون الي ما أسموه الزمن الجميل، و يقضون أوقاتًا يستعيدون أفلام الأبيض و الأسود، فيشعرون بأمان تجاه علاقات تتميز بالاحترام و عفة اللسان، و أساليب تعامل اكثر انضباطا تكاد تخلو من العنف، و يحنون الي شخصية الجنتلمان المثقف المنفتح القادر علي التعلم و التطور و التعايش مع الاختلاف في سلام، و يتطلعون الي فن يرقي بالجماهير و بالضمير العام، و يبث الطاقة الإيجابية و يغذي الروح، بدلًا من مجرد البحث عن الربح بإثارة الغرائز و النزعة الاستهلاكية.

لكن منذ عدة عقود تدهور التعليم العام تدريجيا،و دخلت الي مصر معتقدات وافدة، و جلبت العولمة و الهجرة انفتاحا علي افكار و ثقافات متضاربة، فارتبكت المعايير، و اضطربت الهوية، و مع الثورات و الزيادة السكانية و الحراك الاجتماعي، اصبح البعض اكثر ميلا الي الاستقواء و الاستذكاء و التنمر. و سادت مظاهر التشاحن الاجتماعي و التعصب الفكري و الديني.الاصلاح جاري لتدارك كل ذلك لكنه يحتاج وقتا و جهدًا علي مدار السنين و العقود، فماهو السبيل الآن الي تبادل المعرفة و الرأي وسط الاختلافات و العيش في سلام ؟

وصف حكماء الجهل بأنه أصل الشرور، إذ ينشر مع  الفقر الجريمة، و مع الثراء الفساد، و مع الحرية الفوضي، و مع السلطة الاستبداد، و مع الدين الإرهاب، و قالوا ان النقاش مع الجهلاء كالرسم علي الماء، فلن يحدث شئ، و نصحوا ان يعامل العالم الجاهل معاملة الطبيب للمريض، و قالوا انه من المستحيل هزيمة جاهل في نقاش لانه لا يريد ان يسمع و يفهم، بل يدعي العلم و يجادل في الحقائق، ينطق فيما لا يعنيه، و ينهي عن الشئ و يؤتيه، و هو صاحب هوي لا يكفيه ألف دليل،أو يملك معرفة سلبية، و مستعد ان يضرب رأسك ليقنعك بها، و ان يتطاول ليهزم من يراه غريمه بسفاهته، فنصحوا بالإعراض عن الجاهل السفيه الفظ غليظ القول لأنه لا يحمل احترامًا للغير أو القيم، و ان تحدثت معه فليكن بالهدوء و الثبات الانفعالي و القيم و الأخلاق الحضارية الراقية.

لكن الأمر يتعدي المستوي الفردي الي المجتمعي، ففي مجتمع به كثرة من الاميين و انصاف المتعلمين  يسود التعصب ، و لا يملك المجتمع افكارا كثيرة للمناقشة لان كثيرة هي الموضوعات المقدسة او شبه المقدسة، و يقول البارع فرانك كلارك ان السبب في انتشار الجهل ان أصحابه متحمسون لنشره،لانهم يعتقدون انهم علي حق و ان صوتهم يجب ان يسمع، لذا حدثت في برامج حوارية و منتديات و تجمعات تجاوزات لمبادئ الحوار و العلم، و وسط الجماعة يكون الفرد اكثر ميلًا للإنجراف وراء الرأي العام ، خاصة حينما تتم مخاطبة الغرائز العاطفية بعيدا عن الرسائل العقلية، فيتم التوجيه نحو العنف و التطرف، و يتصرف الفرد علي نحو جمعي بما يخالف ما كان يفعله خارج الجماعة.و هكذا يشعر المثقف المنتمي بالحيرة فان تقاعس عن دوره لفسد المجتمع، و ان نصح فيما يكتب لزهده من يدعون العلم و لتوجهت اليه سهام التكفير و التخوين و السباب في ارهاب تراجع بدنيا لكنه ما زال كامنا فكريا.فما الحل؟

في ظني ان الحل نحو مجتمع علمي متقدم يتطلب اعادة بناء الانسان تدريجيا و في عدة مجالات؛ فالتعليم عليه الاهتمام بتنمية العقل العلمي الناقد و التدريب علي قبول الاخر و العيش المشترك و تدريس الفلسفات و تاريخ الحضارات و مقتبسات من اداب و ثقافات الشعوب، علينا الاهتمام بان يكون المعلم قدوة في تمالك النفس و حسن السلوك و احترام الغير و اعمال حرية الرأي.و التربية و الخطاب الديني عليهم التركيز علي القيم جوهر الأديان و ان المغفرة قرينة بالتوبة و ليس مجرد الشكل او العبادة،و ان الدين لله و الوطن للجميع، و ان الوصاية تتنافي مع حرية الاختيار و مسئوليته التي جعلها الله اساس الحساب يوم القيامة، فالشعور بالحرية و المسئولية يعلي كرامة الفرد و اعتداده بنفسه و إيجابيته فرديا و تجاه مجتمعه، و في الاعلام يمكننا ان نعتني بنشر الثقافة و الفنون الراقية و الانفتاح علي تجارب و حياة الشعوب و الاهتمام بالبرامج العلمية والبعد عن إعلام الإثارة بحثا عن جماهيرية و إعلانات علي حساب تسطيح الرأي و إقصاء العقل و الضمير، كما يحسن ان ننمي الحس الجمالي، لانه يذكي القيم السامية من خير و ابداع و فرح و إتقان ، و قد يبدأ ذلك في التعليم الابتدائي لينشأ الفرد محبًا للحياة مساهمًا في تطويرها. و مع بناء العاصمة و المدن الجديدة اتمني ان ننشط في نشر الثقافة و الفنون و الآداب المحلية و الأجنبية المناسبة، و ان يمتد الأحياء الثقافي الي القري و النجوع من خلال قصور الثقافة، و ان نهتم بزيادة المنح الثقافية المرسلة الي اهم مراكز الثقافة و الفنون العالمية، و هو ما تفعله دول مثل الصين و اليابان بإيفاد الآلاف من مبعوثيها الي الغرب علميا و فنيا. و اتوقع انه مع تحسين دخل و نوعية معيشة الفرد اقتصاديا و خدميا و إسكانيا ان يكون اكثر استعدادا للتجاوب مع المقترحات السابقة.

شهدت السنوات الأخيرة إنجازات غير مسبوقة، لكن الانسان هو صانع الحضارة، و هو من عليه ان يحسن استخدام تلك الإنجازات ، لذا فسلام المجتمع يبدأ من شعور الفرد بالسلام الذي يقتضي ان يكون علي وفاق مع عقله و ضميره، لينعكس ذلك في عمله و تعاملاته، فيمكن للمصري ان يجلي معدن أصالته الثمين مما علا عليه من تراكمات الزمن ليستعيد دوره في بناء حضارة كان أول من علمها للعالم .

سفير د. هادي التونسي

 

شاهد أيضاً

“الإمبراطور الأبيض”.. مقاتلة الجيل السادس الصينية المصممة للهيمنة على السماء والفضاء

تشهد المنافسة بين الصين والولايات المتحدة تصعيداً ملحوظاً في العديد من المجالات، من أبرزها التسابق …