القاهرة – هادى التونسي —-
نهضوا من سباتهم، أدركوا أن الوقت حان، فأحفادهم مازالوا يبحثون في أصل الحضارات عن هويتهم الأصيلة، يفتشون في أعماقهم عن مصر فجر الضمير،مصر التي كتبت فيها اثنتان و أربعون وصية في وثيقة ماعت قبل ان يتعلم فيها نبي الله موسي بنحو ألف عام. الأحفاد يريدون أن يفضوا ركاما علق بأنفسهم مع تقلب الزمان، يشعرون ان الأجداد إنما نهضوا قبل الأديان السماوية لأن بناءهم القيمي النفسي الروحي المتسق في سموه ألهمهم ابتكاراتهم، و شحذ إراداتهم، فتفانوا في العمل و التعمير، و برعوا في العلوم و الفنون. و أبهروا عالما أصبح حينا يتجاهل ما نسبت حضارات أخري لنفسها مما تعلموه من المصريين القدماء،و حينا يتمادي بتشويه التاريخ و بنسب المنجزات الي كائنات فضائية، حتي اختلطت الأمور علي الأحفاد أنفسهم، و أصبح المارد المصري حبيس قمقم، لا يراد له أن يستعيد هويته و تميزه لئلا تنقلب الموازين.
خرج ملوك قدماء المصريين الذين استعادت دولتهم الحديثة استقلالها، و استأنفت نهضتها في موكب مهيب بعرباتهم الملكية الذهبية من المتحف المصري علي مرأي و مسمع من العالم، خرجوا كما لو كانوا أرواحا من توابيتهم، تتقدمهم طبول مقاتليهم ، و نساءهم يحملن قرص الشمس، بينما تزف الموسيقي المهيبة الخبر الي عالم مشدوه بعظمة تراثهم، خرجوا و في أسماعهم أنشودة العظمة بتراتيل إيزيس و نصوص الأهرام، اخترقوا ميدان التحرير، متحررين من أسر الزمان وسط اضواء الليزر،تضيئ مسلته و كباشه، و تنير المصابيح بناياته المحيطة وسط مشاعل الأمل و الراقصات، ذهبوا الي متحف الحضارة، يحييهم رئيس مصر علي مدخله ، و تنتظرهم القوارب المضيئة في البحيرة المجاورة.
ما كان لاحتفالية غير مسبوقة كهذه ان تمر دون ان يسبقها عرض لأهم آثار و محطات تاريخ مصر القديمة، و دون ان يري العالم جمال متحف الحضارة ، بيتهم الجديد، و دون ان يقام حفل ترحيب بهم ، يعرض بعضًا من فنونهم، أزياءهم، رقصاتهم ، أغانيهم بلغتهم الهيروغليفية، و الكلمات يصاحبها موسيقي مستوحاة من تراثهم، تعزفها أوركسترا بها وتريات الهارپ، فيحدثنا الناي عن أشجانهم، و تنطق الربابة بأشواقهم، بينما تتعالي أصوات المنشدات بترانيم،تأسر القلوب،و تناجي الروح، و تتراقص الفتيات إمتثالا و تفانيًا علي دقات الدفوف في معابدهم و حول أهراماتها . كلمات حتي لو لم نفهمها لكننا و بالتأكيد نظل مأخوذين بتلك النغمات و الأصوات و الرقصات و الأزياء التي تسللت الي القلوب دون استئذان، و أججت الروح، لتسكن الوجدان، لتشعرنا أن الماضي أصبح لمحة من المستقبل.
لا تملك بعد هذا العرض الا ان تنبهر بجمال و أناقة و مهارة و أتقان علي أعلي مستوي عالمي في أدق التفاصيل ،عبر عن مكنون حضاري ثري،يتفجر إبداعًا، و يشعرك بأمل عظيم بقدر ما لهذا الشعب من روح تنتظر من يوقظها، و من إبداع يستدعي تعليمًا و تدريبًا و فرصا لائقة، و من هوية أصيلة تتطلع لمن يبعثها، فحضارة مصر القديمة حضارة ضمير، و لو توافرت تلك الظروف لخرج المارد من القمقم.