كرمه بابا الفاتيكان وهدده ملك مصر بنزع الجنسية عنه! يوسف وهبي المفتون بالمسرح

«عشرات السنين عشتها بين مد وجزر، في قصور فخمة وغرف على الأسطح يشاركني فيها الدجاج. رأسمال ضخم ورثته عن أبي، وأضعته، ثم استرددته، ثم أضعته. دوامة لا تهدأ، فقر وغنى، ظلام وأضواء، قامرت وربحت وخسرت، وانتصرت وهُزمت، ولكني لم أسلم سلاحي، ولم أخضع للأقدار، وظل المسرح محبوبي الذي ذبت فيه عشقًا، وقد تضاعف هذا العشق على مر الأيام وتحول إلى وله». *عشت ألف عام؛ مذكرات يوسف وهبي

في ثلاثينات القرن الماضي كان يوسف وهبي يقف خارج مسرح رمسيس رفقة مختار عثمان، وحسين رياض، وأمينة رزق، ونجمة إبراهيم، وزينب صدقي. وقتها حمل كل واحد منهم متعلقاته وذكرياته وأحلام حياته استعدادًا للرحيل، وحين رأوا عمال البنك ينزعون اسم مسرح رمسيس من الواجهة ويضعون الأختام على أبوابه بعد إفلاس يوسف وهبي انفجروا جميعًا بالبكاء، حينها قال وهبي «اليوم فقط أشعر أنني أدفن كل أحلامي».

في السطور التالية نتعرف أكثر على عميد المسرح العربي، يوسف بك وهبي، ونسرد تفاصيل قد لا يعرفها الكثير من القراء، اعتمادًا على مذاكراته بأجزائها الثلاث، وسير ذاتية كتبت عنه، ولقاءات أجريت معه.

قبل الحكاية.. تاريخ دخول المسرح إلى مصر

عرف المصريون فن المسرح مع دخول الحملة الفرنسية إلى مصر عام 1798، ولكنهم رفضوا الانخراط في هذا الفن، واعتبروا رفضهم هذا ضربًا من مقاومة الاحتلال، وقد اتخذ المسرح الفرنسي شكلًا هزليًا وساخرًا في البداية، ولكن بعد مقتل كليبر، قررت الفرقة المسرحية تقديم بعض الأعمال المسرحية الجادة أملًا في تثقيف الشعب المصري، وتغيير أفكاره، وقتذاك تجمع بعض المصريين حول هذا المسرح، وهنا ثارت ثورة مشايخ الأزهر، وأئمة المساجد، وحرموا المسرحيات؛ لأنها بدعة.

رحلت الحملة الفرنسية عن مصر عام 1801 ورحلت معها بدعها، ولكن المصريين ابتكروا آنذاك أشكال أخرى لفنون الترفيه مثل خيال الظل والأراجوز، وبعد أن تولى محمد علي حكم مصر، وأرسل البعثات للخارج عاد كثير منهم، وكتبوا عن المسرح، مثل رفاعة الطهطاوي الذي قال عنه إنه «يهذب الوجدان ويؤدب الأخلاق».

وحين تولى الخديوي إسماعيل مقاليد الحكم اهتم بالمسرح كثيرًا وافتتح في حديقة الأزبكية مقهى اسماه «الكوميدي فرانسيس» على غرار ما شاهده في باريس، وكان هذا المقهى يقدم عروضًا مسرحية. كما أعاد إسماعيل افتتاح المسرح الأوروبي الذي أقامه الفرنسيون في مدينة الإسكندرية.

أنشئت بعد ذلك ثلاثة مسارح أخرى هي روسيني وزيزينيا وفيتوري، وحين اشتعلت الحروب في الشام نهاية القرن التاسع عشر نزح كثير من الفنانين إلى مصر، منهم أبو خليل القباني، وسليم القرداحي، الذي غير حياة يوسف وهبي إلى الأبد.

حب المسرح.. «النداهة» التي لم يستطع يوسف وهبي مقاومتها

قرب ترعة بحر يوسف بمحافظة الفيوم ولد يوسف وهبي في 17 يوليو (تموز) عام 1898 لأسرة ثرية. بدأ الصغير خطواته الأولى في الفيوم قبل أن ينتقل إلى محافظة سوهاج بسبب ظروف عمل والده الذي ترقى وأصبح مفتشًا للري وحصل على لقب الباشاوية تقديرًا لجهوده في شق ترعة بحر يوسف التي حولت صحراء الفيوم إلى آلاف الأفندنة الزراعية.

جدير بالذكر أن عبد الله وهبي باشا، كان قد درس أصول استصلاح الأراضي في جامعة أكسفورد، ضمن برنامج البعثات التعليمية في الخارج، وكان لديه حلم كبير بإرسال أبنائه إلى الخارج من أجل دراسة الطب والهندسة، ذلك الحلم الذي لم يحققه يوسف وهبي لوالده.

بحسب ما جاء في مذكراته، كانت طفولة يوسف وهبي عادية؛ فمثله مثل جميع الأطفال ذهب إلى الكُتّاب وتلقى الضربات بالعصا الغليظة، وحين وصل وهبي إلى سن السابعة حدث أمر غير حياته تمامًا؛ ذلك الأمر الذي سيكلفه عائلته وثروته وحلم أبيه ففي أحد الأيام وصلت فرقة سليم القرداحي الجوالة إلى سوهاج من أجل تقديم بعض العروض المسرحية المترجمة لشكسبير، مثل: عطيل، وروميو وجولييت.

انبهر يوسف وهبي بالعروض المسرحية فكان يغلق باب غرفته على نفسه ويصرخ مؤديًا بعض المشاهد، حتى أنه أهمل وقتها كل شيء في حياته لصالح ولعه بالمسرح، فلم يعد يعبأ بعصا شيخ الكُتاب الغليظة، ولا بحلم والده بالسفر إلى الخارج.

في الجزء الأول من مذكراته يحكي يوسف وهبي عن تلك الحقبة من حياته، ويخص بالذكر جارته تهاني ابنة إسماعيل باشا فهمي، فبسبب العادات والتقاليد في الصعيد لم تكن تهاني تخرج من البيت إلا للمدرسة، ولكنها كانت تتحدث مع يوسف عبر النافذة، ومن خلال حديثهما حكى لها عن ولعه بالمسرح، وخاصة مسرحية روميو وجولييت.

بعد عدة محادثات – وبحسب ما يحكي في مذكراته – طلب منها أن تشاركه التمثيل وتؤدي دور جولييت، لكنها ترددت بسبب صعوبة خروجها من المنزل، ففكر يوسف في تذليل تلك العقبة من خلال وضع صندوق خشبي كبير أسفل شباكها، وبهذا تمكن الاثنان من التمثيل معًا.

وفي أثناء أدائهم لمشهد القبلة جاء أبوه وناظر العزبة، ورأى أبوه فعلة ابنه فصُعق أمام هول المفاجأة، وعوقب يوسف بالحبس لمدة ثلاثة أيام، كما أُغلق شباك الفتاة بالمسامير؛ تلك الفتاة التي سيظل وهبي يتذكرها حتى بلوغه الثمانين من العمر.

«محراب الفن في الشرق».. التسكع في شارع عماد الدين

انتقلت أسرة عبد الله باشا وهبي إلى القاهرة، واستقرت في شارع عابدين، وكان يوسف وقتها في العاشرة من عمره، فالتحق بمدرسة الناصرية الابتدائية، ولأنه لم يكن يحب الدراسة فقد كان يترك المدرسة، ويتسكع هائمًا على وجهه في شوارع القاهرة.

في أثناء تجواله تعرف وهبي على صديق عمره محمد كريم الذي أخذه من يده وعرفه على عالم جديد تمامًا، وهو شارع عماد الدين؛ محراب الفن في الشرق.

برفقة صديقه محمد كريم جاب وهبي مسارح الأزبكية، وهناك تعرف على فرقة الشيخ سلامة حجازي، وعلى منيرة المهدية، ومحمد عبد الوهاب، وفي تلك الفترة ظهر نجيب الريحاني بأدواره الهزلية، وجورج أبيض، ووسط هذا الزخم الفني نضج وعي يوسف وهبي، وزاد ولعه بفن المسرح.

تحكي راوية راشد في كتابها «يوسف وهبي: سنوات المجد والدموع» عندما انكشف سر يوسف وهبي، وعلم والده بأنه كان يخرج ليلًا كي يرتاد شارع عماد الدين، ويجوب أماكن اللهو والعبث، وكيف أنه غضب غضبًا شديدًا، وعاقب يوسف وقتها بالحبس الانفرادي لمدة أسبوع يأكل خلالها وحده، ومنع على أي شخص في البيت التحدث معه.

في هذه الأثناء استغلت والدة يوسف تلك الفرصة كي تحدثه عن نسبه العريق، وأصول عائلته الكريمة، وتعاليم علماء الأزهر، لكن يوسف بكى وقتها في حضن والدته مؤكدًا لها أنه لن يتمكن من الابتعاد عن المسرح.

مرت الأيام والتحق يوسف بمدرسة السعيدية الثانوية، ولم يكف عن العصيان، ولا عن مغامراته في المسارح والصالات لمشاهدة العروض المسرحية. وعن هذه الحقبة كتب يوسف وهبي في مذكراته: «كنت أنتظر اللحظة التي تسدل فيها الستار فأهرع خلف الكواليس أراقب ما يدور من أحاديث بين فناني العرض، وفكري مشغول بما أبدعوه على خشبة المسرح وأحلامي تسبقني في أن أكون واحدًا منهم».

مضيفًا مقابلته بالشيخ سيد درويش الذي سأله عن تواجده في المسرح في هذه الساعة، خاصة وأنه تلميذ، ليرد وهبي قائلًا بأنه يهوى الفن، يومها قال له الشيخ سيد «لو الواحد مسه داء الفن يبقى عليه العوض مفيش حاجة هتشفيه».

وبالفعل لم يشف يوسف وهبي من داء الفن، بعد ذلك اندلعت ثورة 1919، وصدح صوت سيد درويش عاليًا «قوم يا مصري مصر دايما بتناديك»، فثار المصريون على قوات الاحتلال، وثار يوسف وهبي على عائلته مقررًا السفر إلى ميلان لدراسة المسرح.

هنا القاهرة.. مسرح رمسيس يستقبل الجمهور

عاد يوسف وهبي إلى القاهرة بعد وفاة والده عام 1921، وقتها كان وهبي يملك حلمًا وضعه نصب عينيه: سيهتم بالمسرح الجاد عوضًا عن المسرح الهزلي الراقص الذي يقدمه نجيب الريحاني وعلي الكسار.

وعليه عندما استلم يوسف نصيبه الكبير من إرثه أنشأ فرقة رمسيس المسرحية، وفي 10 مارس (آذار) عام 1923 فتح مسرح رمسيس أبوابه على مصراعيها للمشاهدين، وبدأت الفرقة أولى عروضها على مسرح راديو بمسرحية المجنون، بطولة يوسف وهبي وروز اليوسف، وكانت الفرقة تضم حسين رياض، وأحمد علام، وزينب صدقي، وأمينة رزق.

على خشبة هذا المسرح قدم يوسف وهبي روائع الأدب العالمي: الإنجليزي، والروسي، والفرنسي، ولم يكتف وهبي وقتها بكونه البطل الرئيس لمسرحياته، ولكنه أيضًا كان يخرج ويؤلف؛ إذ قام ببطولة أكثر من 300 مسرحية، أخرج منها 185 مسرحية وألف 60.

وقد عُرف عن يوسف وهبي أنه كان شديد الصرامة فيما يتعلق بالقواعد داخل المسرح، مثل مواعيد رفع الستار، ومنع التدخين، والتزام الممثلين بتعلميات المخرجين، وبالنص المسرحي، وبسبب تأثيره الفني الواضح أوكلت له الحكومة المصرية مهمة تشكيل فرقتها المسرحية عام 1933، والتي كانت نواة للمسرح القومي بعد ذلك، وخلال هذا الوقت أُطلق على وهبي لقب عميد المسرح المصري.

التوجه نحو السينما والإنتاج السينمائي

أسس يوسف وهبي شركة إنتاج سينمائي، وكان فيلم «زينب» هو أول أفلام تلك الشركة، وقتذاك كانت الأفلام صامتة، ونجح الفيلم كثيرًا حين عُرض خلال عام 1930، وبعد سنتين أنتج يوسف وهبي أول الأفلام الناطقة في السينما العربية، وهو فيلم «أولاد الذوات» من بطولته، وإخراج محمد كريم، وقد أدت أمينة رزق أولى بطولتها من خلال هذا الفيلم بعد أن أصبحت ممثلة مسرحية مشهورة.

لم يتوقف طموح يوسف وهبي عند هذا الحد، فقد حلم بتأسيس مدينة رمسيس للفنون، وكان يخطط أن تضم مسرحًا كبيرًا، واستديو تصوير أفلام سينمائية، ومدينة ملاهي، وبالفعل عكف وهبي ليالي طويلة بصحبة المهندسين، إلا أن حلمه لم يتحقق.

استمر وهبي في إنتاج الأفلام والمسرحيات حتى تعرض للإفلاس بسبب بذخه الشديد ولعبه المستمر للقمار، وهو الأمر الذي أدى إلى الحجز على المسرح من قبل البنك.

استمرت خسارات يوسف وهبي المتكررة حتى دخل مستشفى المقاولون العرب إثر إصابته بكسر في عظام الحوض بسبب سقوطه في الحمام ليموت في المستشفى عام 1982 جراء سكتة قلبية مفاجئة، وهنا نتذكر ما قاله يوسف وهبي في مذكراته حين كان يحكي عن زيارته لطبيب الأعصاب الشهير في مدينة فيينا بسبب حادث مفجع وقع له وكاد يطيح بعقله، وقتها قال له الطبيب: «لقد عشت ألف عام».

الملك فاروق يهدده بنزع الجنسية وبابا الفاتيكان يمنحه وسامًا

بالعودة إلى عام 1926 عرضت شركة ماركوس الألمانية بالاشتراك مع الحكومة التركية على يوسف وهبي تمثيل دور البطولة في فيلم «النبي محمد». وما أن علمت الصحافة المصرية حتى ثارت ضده، وهاجمه رجال الدين. لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد؛ ففور وصول الخبر إلى الملك فاروق هدده بسحب الجنسية المصرية منه؛ ما جعل يوسف يعدل عن الفكرة برمتها، وكتب في رده عبر جريدة الأهرام أنه «لم يكن يقبل بدور يسيء إلى الدين الإسلامي».

في عام 1956 قرر يوسف وهبي تحويل فيلم «كرسي الاعتراف» إلى نص مسرحي بعد سبع سنوات من عرضه في السينما عام 1949، آنذاك رفض صلاح سالم الذي كان يشغل منصب وزير الإرشاد في حكومة جمال عبد الناصر الموافقة على عرض المسرحية بحجة أن النص المسرحي لا يتلاءم مع شهر رمضان الذي واكب بدء موسم مسرح الأوبرا، لكن وهبي تمكن من إقناع الوزارة بعرض المسرحية من خلال علاقاته.

نجحت المسرحية نجاحًا مدويًا ووصلت أصداؤها إلى روما، وفي أواخر أيام شهر رمضان الكريم سافر يوسف وهبي إلى الفاتيكان من أجل مقابلة البابا، وهناك تلقى أغرب جائزة عرفها الفن العربي وهي «وسام الدفاع عن الحقوق الكاثوليكية» الذي منحه إياه بيوس الثاني عشر تقديرًا لروحه الفنية التي جعلته يقدم شخصية مسيحية خلال شهر إسلامي مقدس، وبذلك أصبح وهبي أول ممثل مسلم يحوز هذا الوسام الذي كان حكرًا على المسيحيين.

هذا المحتوى نقلاّ عن موقع ساسة بوست

https://www.sasapost.com/youssef-wahbi/

 

شاهد أيضاً

“الإمبراطور الأبيض”.. مقاتلة الجيل السادس الصينية المصممة للهيمنة على السماء والفضاء

تشهد المنافسة بين الصين والولايات المتحدة تصعيداً ملحوظاً في العديد من المجالات، من أبرزها التسابق …