أسرة سودانية قضت نحبها جوعاً وعطشاً في صحراء ليبيا.. مَن يتحمّل مسؤولية الفاجعة؟

فُجع الكثيرون في السودان وخارجه بالصور المأساوية لأسرة سودانية توفي أفرادها في الصحراء وهم يسلكون طريقاً غير مأهول بسيارتهم الخاصة إلى ليبيا. وانتشرت الصور عبر وسائل التواصل الاجتماعي وعبرت الحدود لتشهد تعاطفاً كبيراً من مستخدمي هذه الوسائل في الخليج وشمال إفريقيا وأوروبا وغيرها، في وقت صار فيه انتشار الأخبار لا يعترف بوسائل الإعلام التقليدية المملوكة للحكومات. وبالرغم من مأساوية الصور وعدم تقيدها بأبسط قواعد النشر والخصوصية، فإنها فتحت أعين الكثيرين وقلوبهم على مأساة الهجرة والأوضاع الاقتصادية التي تجبر البعض على مواجهة الموت عوضاً عن انتظار الموت البطيء في بلدانهم التي تعاني الكساد الاقتصادي أو البطالة أو التضخم أو الحروب أو هذه الأسباب مجتمعة.

الأسرة السودانية التي قضت في الصحراء قريباً من الحدود مع ليبيا يبدو من صور جوازات السفر التي وُجدت بجانب أفرادها أنها تقيم في ليبيا. وأن الأسرة كانت في إجازة في السودان، لكن جوازات سفرهم القديمة والمنتهية الصلاحية منذ سنوات تكشف عن أن الغرض من سلوك هذا الطريق غير المأهول في الصحراء كان بغرض تجنب نقاط التفتيش المنتشرة لمنع الهجرة غير الشرعية وتهريب البشر.

جدير بالذكر أن سلطات الهجرة السودانية بدأت في إصدار جوازات السفر البيومترية الجديدة وإيقاف إصدار الجوازات القديمة منذ ست سنوات، حيث أرسلت وفوداً لإصدار جوازات السفر الجديدة في كثير من الدول التي تستضيف جاليات سودانية كبيرة. ويبدو أن الأوضاع الأمنية والسياسية في ليبيا لم تتِح للسلطات السودانية والسفارة إمكانية إرسال وفد لإصدار جوازات سفر جديدة للسودانيين المقيمين هناك.

إصدار جوازات السفر واجب يذكرنا بواجب آخر من واجبات الدولة، وهو توفير فرص معيشة كريمة لمواطنيها. فبالرغم من أن الهجرة تعتبر تاريخياً هي القاعدة، والخمول والاستقرار هما الاستثناء، ابتداء من هجرة الأنبياء عليهم السلام، ومروراً بالهجرات الحديثة التي أنشأت مجتمعات غنية في أمريكا الشمالية وأستراليا وغيرها، إلّا أن الهجرة غير الشرعية تعتبر ظاهرة تحتاج للتوقف عندها في بعض المجتمعات ودراسة طرق التقليل منها بواسطة الحكومات والباحثين في الاقتصاد الكلي والدراسات التنموية. فعندما تكون نسب الهجرة مرتفعة من بلد ما أو منطقة بعينها، فإن هذا الأمر يعدّ مؤشراً على خلل واجب الإصلاح في البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في هذا البلد أو المنطقة.

نشطت حركة الهجرة غير الشرعية من السودان خلال العقدين الماضيين بصورة لافتة. وكانت الموجة الأولى من الهجرة بسبب الحرب في إقليم دارفور وحركة النزوح الكبيرة التي نتجت عنه، والتي خلقت مجتمعات كبيرة للاجئين في دول الجوار واوروبا وأمريكا الشمالية وحتى إسرائيل. ثم جاءت الموجة الثانية بعد انفصال جنوب السودان في العام 2011 وتدهور الوضع الاقتصادي والانهيار المتواصل للجنيه السوداني مقابل العملات الأجنبية، لتشهد هذه الموجة خروج عشرات الآلاف من السودانيين في هجرة شبه جماعية للعقول إلى دول خليجية كانوا قد غادروها عائدين إلى بلادهم مع الطفرة الاقتصادية التي شهدها السودان في العشرية الأولى من القرن الحالي مع تدفق عائدات النفط إلى الخزينة العامة.

الموجة الثانية من الهجرة للسودانيين إلى الخارج دفعت بالمؤهلين إلى البحث عن عقود عمل في دول الخليج المجاورة أو للهجرة الشرعية إلى مناطق بعيدة مثل كندا وأستراليا والولايات المتحدة، بينما طرق آخرون ممن لم يحالفهم الحظ في الحصول على تعليم عالٍ أو خبرة وظيفية أو أمل في الحصول على وظيفة أبواب الصحراء الليبية وصحراء سيناء وقوارب الموت في البحر المتوسط. ومثلما أسلفنا فقد كان للعامل الاقتصادي الأثر الأكبر في أعداد المهاجرين، بينما لعبت العوامل السياسية والقبضة الأمنية في بعض سنوات النظام البائد دوراً صغيراً في حركة الهجرة للبعض. فالتضخم الجامح الذي يواجه الاقتصاد السوداني ويجعل الأجور لا تفي بأبسط احتياجات المواطنين جعل الكثير من الشباب يفكر في الهجرة ولا يحسب حساباً للعواقب المترتبة على ركوب البحر أو دخول متاهات الصحراء الكبرى.

نعود إلى أسرتنا السودانية المكلومة لنضيف أنها تعيش في ليبيا لسنوات، حسبما هو واضح من جوازات سفر أفراد الأسرة الصادرة من سفارة السودان في ليبيا. ومن سخرية الأقدار أن تلجأ أسرة سودانية إلى ليبيا في وقت يضطر فيه الكثير من الليبيين لمغادرة بلادهم بسبب الاضطرابات الأمنية والحرب الدائرة لسنوات. كما أن ليبيا لم تكن تلك الوجهة المفضلة للمغتربين السودانيين منذ ثمانينيات القرن الماضي بسبب سياسات نظام القذافي التي تمنع الأجانب فيها من الخروج بأموالهم. وهي سياسات جعلت الكثيرين منهم يغادرونها بعد فترة قليلة إلى دول أخرى أو يعودون إلى بلادهم.

هذا الأمر يذكرني بحوار عابر مع زائرة هولندية قابلتها في فعالية قبل سنوات طويلة، وحينما تطرقت في حديثي للعنصرية ضد المهاجرين والمسلمين في هولندا وفي أوروبا عموماً، فاجأتني هذه المرأة بوجهة نظر مختلفة تقول بأنه في حالة هولندا (وأوروبا) كان هناك ترحيب كبير بالمهاجرين من شمال إفريقيا وتركيا وغيرهما من الدول الإسلامية لبناء أوروبا المدمرة بعد الحرب العالمية الثانية. لكن هذا الترحيب انقلب إلى نفور وعنصرية ودعوة إلى طرد الأجانب الذين يضايقون أهل البلد في أرزاقهم، بالرغم من أن بعض المهن والأعمال قد لا يكون أهل البلد قادرين أو راغبين في أداء هذه المهن.

وهذا الأمر ينطبق على هولندا مثلما ينطبق على دول الخليج وليبيا والسودان نفسه. ومثلما يبحث الشباب في ليبيا والجزائر والسودان عن طرق قانونية أو غير قانونية لمغادرة بلدانهم بحثاً عن واقع أفضل، نجد أن آخرين من بلدان أخرى يأتون للاستقرار والعمل في بلدان هؤلاء التي غادروها أملاً في حياة أفضل.

هذا الأمر يذكرنا بمقالة الروائي الراحل الطيب صالح عن الوضع في السودان أول سنوات حكومة البشير البائدة، والتي يتساءل فيها “هل مطار الخرطوم ما يزال يمتلئ بالنّازحين؟ يريدون الهرب إلى أيّ مكان، فذلك البلد الواسع لم يعد يتّسع لهم. كأنّي بهم ينتظرون منذ تركتهم في ذلك اليوم من عام 88. يُعلَن عن قيام الطائرات ولا تقوم. لا أحد يكلّمهم. لا أحد يهمّه أمرهم. هل ما زالوا يتحدّثون عن الرخاء والناس جوعى؟ وعن الأمن والناس في ذُعر؟ وعن صلاح الأحوال والبلد خراب؟ هل حرائر النساء من “سودري” و”حمرة الوز” و”حمرة الشيخ” ما زلن يتسوّلن في شوارع الخرطوم؟ هل ما زال أهل الجنوب ينزحون إلى الشمال وأهل الشمال يهربون إلى أي بلد يقبلهم؟ هل أسعار الدولار ما تزال في صعود وأقدار الناس في هبوط؟”.

كل هذه التساؤلات التي طرحها الراحل المقيم تُعيد نفسها على الحكومة الجديدة التي شكّلها رئيس الوزراء عبدالله حمدوك، وتعيد للأذهان الصعوبات التي تواجه الحكومات في سنواتها الأولى. وتعيد الهمس في أذن السلطات السودانية وغيرها من حكومات المنطقة أن الأولوية دائماً لمعاش الناس وأمنهم، وهي التي تحدد شعبية الحكومة الانتقالية وقبولها لدى العامة والبسطاء وسكان الأرياف ممن لا معرفة لهم ولا رغبة في معرفة من يحكم في العاصمة، وإنما تنحصر مطالبهم في توفر الحياة الكريمة من غذاء وصحة وتعليم وأمن. بينما يطالب المتعلمون من سكّان الحضر بتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي، بالرغم من أن الاثنين لا ينفصلان عن بعضهما البعض. وعلينا تذكير حمدوك والبرهان والمسؤولين من العسكريين والمدنيين بحديث عمر بن الخطاب عن مسؤوليته تجاه بغلة عثرت في العراق، وليس أسرة سودانية تموت في صحراء ليبيا هرباً من واقع مرير.

 

شاهد أيضاً

“الإمبراطور الأبيض”.. مقاتلة الجيل السادس الصينية المصممة للهيمنة على السماء والفضاء

تشهد المنافسة بين الصين والولايات المتحدة تصعيداً ملحوظاً في العديد من المجالات، من أبرزها التسابق …