تجرى حالياً عملية واسعة النطاق للتوثيق، إضافة إلى تحليل جرائم الحرب في سوريا بواسطة الذكاء الاصطناعي قد تفضي إلى نتائج غير مسبوقة بشأن أسماء القادة المسؤولين عن هذه الجرائم.
فوفقاً لمعظم الروايات، كان الصراع السوري هو الحرب الأكثر توثيقاً في التاريخ، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Wall Street Journal الأمريكية.
لكن الكمَّ الهائل من الأدلة- ملايين الصور والفيديوهات ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي وصور الأقمار الصناعية- لا يُترجَم بسهولة إلى مساءلةٍ عن الجرائم المُرتَكَبة أثناء الحرب.
لذا بينما تُعِد الأمم المتحدة والسلطات الأوروبية وجماعات حقوق الإنسان قضايا جرائم الحرب، فقد تحوَّلوا إلى أداةٍ جديدة؛ ألا وهي استخدام الذكاء الاصطناعي في تحليل جرائم الحرب في سوريا.
تجدر الإشارة إلى أن محكمة ألمانية وجهت، في أبريل/نيسان 2020، اتهامات بالتعذيب والاعتداء الجنسي إلى شخصين يشتبه في أنهما من أفراد أجهزة أمن رئيس النظام السوري بشار الأسد، وهي أول محاكمة في جرائم حرب ارتكبها ضباط سوريون، وفق ما أكده محامون ألمان.
والمتهمان هما أنور.ر، وهو ضابط سابق في المخابرات السورية، طلب اللجوء إلى ألمانيا قبل ست سنوات بعد أن غادر سوريا؛ وإياد. أ، الذي يُعتقد أنه كان رئيس وحدة التحقيقات بالإدارة 251 المسؤولة عن دمشق، ووصل إلى ألمانيا في أبريل/نيسان 2018.
نعم، نظام الأسد انتصر، ولكن المحاكمات ما زالت ممكنة
مع انتصار نظام الرئيس السوري بشَّار الأسد إلى حدٍّ كبير في الصراع الذي يمتدُّ إلى ما يقرب من عقدٍ من الزمان، تكتسب الجهود المبذولة لتحقيق قدرٍ من المساءلة سرعةً إلى حدٍّ كبير في المحاكم الأوروبية.
منذ اندلاع الصراع السوري، خاطَرَ النشطاء على الأرض بحياتهم من أجل توثيق انتهاكات حقوق الإنسان، من التعذيب والهجمات على المتظاهرين إلى الضربات الصاروخية العشوائية والبراميل المتفجِّرة.
الآن، يمكن أن يضطلع الذكاء الاصطناعي والتعلُّم الآلي بدورٍ أساسيٍّ في تقديم مجرمي الحرب إلى العدالة في سوريا من خلال المساعدة في فرز مجموعةٍ ضخمةٍ من الأدلة، والعمل كنموذجٍ للتحقيقات في صراعات العصر الحديث الأخرى.
تقول كاثرين مارشي أوهيل، التي ترأس هيئة الأمم المتحدة المُكلَّفة بجمع المعلومات حول الصراع السوري وإعداد القضايا: “يمكن استخدام التكنولوجيا لنشر المعلومات والتقاطها، والآن للبحث عنها بشكلٍ مختلفٍ تماماً وتغيير طريقة عملك في عملية تحليل جرائم الحرب في سوريا”.
ما أهمية تحليل جرائم الحرب في سوريا؟
تهدف التقنية إلى تحليل جرائم الحرب في سوريا عبر المساعدة في معالجة البيانات وتنظيمها وتحليلها وتقليل الوقت الذي يقضيه المحقِّقون البشريون في غربلة فيديوهات صور مؤلمة يبلغ حجمها تيرابايتات كثيرة.
وتساعد خوارزميات الذكاء الاصطناعي في تجميع الفيديوهات لنفس الحادث والتخلُّص من النسخ المُكرَّرة أو الصور ذات الصلة. وتعمل الخوارزميات أيضاً على التعرُّف على الأشياء، وإيجاد جميع البيانات ذات الصلة بسلاحٍ معين للمساعدة في بناء قضية.
في العام 2017 أراد هادي الخطيب، مؤسِّس الأرشيف السوري، وهي جماعة حقوقية مستقلة تعمل على أرشفة الأدلة منذ بداية النزاع، تجميع قاعدة بيانات قابلة للبحث عن جميع هجمات الذخائر العنقودية.
الصراع في سوريا هو الحرب الأكثر توثيقاً في التاريخ
يأمل الخطيب أن تساعد قاعدة البيانات في بناء قضية أن النظام السوري وداعمه العسكري الأكبر، روسيا، استخدما أسلحةً محظورةً دولياً أثناء الصراع وذلك عبر تحليل جرائم الحرب في سوريا.
لكن كان من المستحيل على فريق الخطيب الصغير فرز أكثر من 1.5 مليون مقطع فيديو للعثور على تلك الفيديوهات المتعلِّقة باستخدام القنابل العنقودية.
في بعض الحالات توجد تقنية فرز الأدلة بالفعل، لكنها مُكلِّفة للغاية بالنسبة لجماعة حقوقية. وفي كثيرٍ من الأحيان، لا توجد تقنيةٌ لتمكين الآلات من التعرُّف على صورة أو صوت الذخائر العنقودية أو غيرها من أسلحة الحرب، وتحتاج هذه الآلات أن تُبنَى في المقام الأول.
مهندس ألماني يصمم طريقة لاكتشاف القنابل الذكية
لذلك لجأ الخطيب إلى آدم هارفي، مهندس البرمجيات المقيم في برلين والذي يقود مشروع VFRAME، وهو مشروعٌ مفتوح المصدر يركِّز على استخدام التعلُّم الآلي لتعزيز العمل في مجال حقوق الإنسان، لبناء كاشف ذكاء اصطناعي قادر على مثل هذا البحث.
توقَّع هارفي مهمة تشفير على قدم المساواة مع إنشاء خوارزميات للبحث عن الصور في غوغل بهدف تحليل جرائم الحرب في سوريا باستخدام الذكاء الاصطناعي.
لكن سرعان ما أدرك أنه يفتقد عنصراً حاسماً لتدريب الذكاء الاصطناعي، وهذا العنصر يتمثَّل في إدخال مجموعةٌ كافية من الصور والفيديوهات للقنابل العنقودية.
وقال هارفي: “عند البحث عن هذه العناصر المُحدَّدة في تحقيقات حقوق الإنسان، ليس لديك الكثير منها مثل صور القطط على الإنترنت”.
لذلك أمضى هارفي أكثر من عام في إنشاء بيانات تركيبية بما في ذلك صور ثنائية الأبعاد تهدف إلى تكرار البيئات الظاهرة في سوريا، واستخدام نماذج ثلاثية الأبعاد لإعادة إنشاء مقاطع فيديو ما بعد الانفجار في مواقع مختلفة في جميع أنحاء ألمانيا.
بعد تدريب البرنامج على البيانات، يختبر الباحثون دقة الخوارزمية من خلال تشغيلها على مجموعةٍ معروفةٍ من الصور، ثم يقومون بتعديل وإعادة تدريب مجموعة البيانات بغرض تحسينها.
ويأمل الخطيب وهارفي أن تكتمل قاعدة البيانات وتكون جاهزة لبدء بناء قضية بحلول منتصف العام الجاري.
وعلى صعيدٍ آخر يشارك مشروع مايكروسوفت للذكاء الاصطناعي للعمل الإنساني، الذي تبلغ تكلفته 40 مليون دولار، ومؤسَّسة Benetech غير الربحية في وادي السيليكون، في البحث عن أدلةٍ استخدام الذخائر العنقودية.
كجزءٍ من هذا الجهد، أكمل مشروع مايكروسوفت رمز نظام تحديد الأسلحة، العام الماضي، وهو رمزٌ يبحث ويكتشف مقاطع الفيديو المتعلِّقة بالذخائر العنقودية- بالإضافة إلى نيران المدافع والانفجارات العامة وصواريخ TOW الأمريكية المضادة للدبابات وصفارات الإنذار- استناداً إلى صوتها. ولدى القنابل العنقودية صوت طقطقة مميَّز عند انفجارها.
العدالة تحتاج إلى الذكاء الاصطناعي
اعتقد نشطاء حقوق الإنسان سابقاً أن المجتمع الدولي- الذي كان له وصولٌ محدودٌ إلى البلاد- حين يُظهِر ما كان يحدث، فمن شأن ذلك أن يؤدِّي إلى تدخُّلٍ ضد بشَّار الأسد. لكن هذا لم يحدث.
والآن، مع تحوُّل الاهتمام الدولي نحو المساءلة، ثبت أن هذا الكم من الوثائق غير مسبوق في حجمه وتنوُّعه في سجلات محاكمات جرائم الحرب، وفقاً للآلية الدولية المحايدة والمستقلة التابعة للأمم المتحدة. لكن الكم الهائل لا يُترجَم بسهولة إلى تحقيقٍ للعدالة.
قال كيث هياث، الذي يُشرِف على إدارة نظم المعلومات في الآلية الدولية: “مقاطع الفيديو لا تتحدَّث عن نفسها، فبغض النظر عن مدى دقة الفيديو، لن يفوز الفيديو أو يخسر قضايا في جرائم حرب”. وأضاف: “لا يمكن أن تُظهِر مقاطع الفيديو مدى انتشار الهجمات المُمَنهَجة”.
وقال إنه بدون استخدام التكنولوجيا في عملية تحليل جرائم الحرب في سوريا “لن هتكون هناك طريقةٌ للقيام بذلك”.
يمكن معرفة القيادات التي أصدرت الأوامر
وتستخدم الآلية الدولية برنامج التعلُّم الآلي لمسح مئات الآلاف من المستندات باللغة العربية- ومعظمها صور ذات جودة منخفضة- لاستخراج الأنماط ذات الصلة بجرائم الحرب، مثل الطوابع الرسمية أو الأوراق المُرفَقة بإمضاءات… إلخ.
عند بناء القضايا، يحتاج المُحقِّقون ليس فقط إلى إثبات الأدلة على ارتكاب جرائم حرب، والتي غالباً ما توجد في فيديوهات وصور، بل أيضاً لإثبات التسلسل القيادي الذي أدَّى إلى هذه الجرائم، وهو ما يوجد غالباً في الوثائق المُهرَّبة خارج سوريا.
قال هياث: “إنها الطريقة الوحيدة التي ستتاح فيها للأمم المتحدة فرصة لفهم صراع معقد مثل ما يجري في سوريا”. وأضاف: “الأمر أكبر من أن تفعله بالطريقة القديمة”، ويُشبِّهه أعضاء الآلية الدولية بالبحث عن إبرة في كومةٍ من القش.
بالمقارنة مع الكم الهائل من الأدلة الإلكترونية من الصراع السوري، كان لدى المحكمة الدولية للحرب في يوغوسلافيا السابقة حوالي 9 ملايين وثيقة- وكان ذلك كافياً ليلائم التخزين في قرص صلب حديث.
ويضم فريق الآلية الدولية الذي يعمل في القضية السورية “ضباط اكتشاف إلكتروني”، بالإضافة إلى محامين ومحقِّقين ومحلِّلين. وبعض هؤلاء، مثل القاضية الفرنسية السابقة مارشي أوهيل، عملوا في المحكمة الدولية ليوغوسلافيا السابقة.