قبل 10 سنواتٍ تسببت موجة الاحتجاجات السلمية «الربيع العربي» في إسقاط أربعة أنظمة عتيقة في الشرق الأوسط: (تونس، ومصر، وليبيا، واليمن) وهز نظام آخر بشدة (سوريا)، ثم تبعها بسنواتٍ سقوط نظام البشير في السودان، لكنّ تلك النماذج التي شهدت تغييرًا وتحولاتٍ جذرية لم تهنأ أغلبها بانتقالٍ سلميٍ للسُلطة، وكان لها حظ وافر من العنف، واندلعت الحروب الأهلية في كل من دمشق وصنعاء وطرابلس، كما أدى ظهور «تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)» في العراق إلى دخول بغداد صدر تلك القائمة، وتُقدر تكلفة إعمار الأربع دول عربية نحو 700 مليار دولار، تتنافس للاستحواذ على الكعكة الأكبر، منها أربع دول رئيسة: مصر، وإيران، وتركيا، والسعودية.
العراق.. مصر ربحت ضد إيران
في يونيو (حزيران) عام 2014 أعلن «داعش» من الموصل الخلافة الإسلامية ومبايعة أبي بكر البغدادي خليفة المسلمين، قبل أن يسيطر على نحو ثلث مساحة العراق، وبعد ثلاث سنواتٍ من الحرب، التي احتشد لها تحالفٌ دولي مكون من 60 دولة على رأسه الولايات المتحدة، أعلن العراق في أواخر ديسمبر (كانون الأول) عام 2017 نهاية الحرب على «داعش»، قبل أن يعود التنظيم مؤخرًا إلى الظهور من جديد.
لقاء الرئيس المصري مع رئيس الوزراء العراقي في الأردن
وفقًا لبيان رسميٍ صادرٍ عن وزارة التخطيط العراقية فالعراق يحتاج نحو 88.2 مليار دولار، لتنفيذ مشاريع إعادة الإعمار داخل المحافظات التي شهدت دمارًا كبيرًا خلال الحرب، وبينما تكفل المانحون بمنح بغداد 30 مليار دولار أعلنت الحكومة أنّ كُلفة المحافظات السبع الأكثر تضررًا (نينوى، والأنبار، وصلاح الدين، وكركوك، وديالى، وبابل وبغداد) تُقدر وحدها بـ46 مليار دولار.
والعراق لن يكون بمقدوره وحده دفع تكاليف الإعمار، خاصة أنه يواجه عجزًا ماليًا في آخر موزانة بقيمة 43 مليار دولار في ظل تطلعه للحصول على استثمارات أجنبية عاجلة لنحو 157 مشروعًا، دون أن تضطر الحكومة إلى تحمل أعباء إضافية من الديون الخارجية المستحقة عليها.
دخلت مصر وإيران في منافسة لانتزاع الحصة الأكبر من إعمار العراق، ووجهت طهران تحذيرًا ضمنيًا على لسان وزير خارجيتها، جواد ظريف مفاده: «إذا قررت شركة أوروبية أو أمريكية المجيء للعراق للقيام بأعمال وإعمار، فإن تكاليف تلك الشركة لحماية عمالها وكوادرها في العراق ستكون أكثر مما تنوي إنفاقه من أجل إعادة الإعمار والبناء».
وبخلاف السياسة التي أعلنها رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي بالانفتاح على الدول العربية، ومحاولة تحجيم النفوذ الإيراني المتغلغل في دوائر حُكم بغداد، فالعرض المصري الذي تقدمت به الحكومة المصرية سُرعان ما قوبل بالموافقة؛ لأنه اعتمد سياسة «النفط مقابل الإعمار»، والعراق لا يملك حاليًا شيئًا لتقديمه سوى البترول.
وينتج العراق 3.5 مليون برميل يوميًا، وهو ما يمثل 93% من إيرادات الموازنة العامة، ومن بين 15 اتفاقية وقعتها مصر مع العراق، فالقاهرة ستحصل على12 مليون برميل سنويًا من خام البصرة الخفيف بسعر أقل من متوسط السوق العالمي بثلاثة دولارات، إضافة إلى إعفاء البضائع المصرية من التعريفة الجمركية.
وكان مصدر حكومي عراقي قد صرح لموقع «عربي بوست» بأن الشركات المصرية ستتولى إعادة إعمار وبناء مدن بالكامل دون منافسة من أية شركات أخرى، كما ستتولى مصر إعادة إعمار «محافظات نينوى، وصلاح الدين، والأنبار، وسامراء»، وبحسب تصريحات رئيس اتحاد المقاولين العراقيين للموقع نفسه فازت الشركات المصرية بحصة كبيرة في بناء المستشفيات، ومصانع الأعلاف والأسمدة، ومسارات السكك الحديدية، وبناء محطات الطاقة الشمسية.
مصر لم تنتزع من إيران ملف الإعمار فقط؛ فالقاهرة توصلت إلى اتفاقٍ مع الجانب العراقي أيضًا على مواد البناء بنحو مليار دولار سنويًا؛ وهو ما يعني خسارة إضافية لإيران التي احتكرت تلك السوق لسنوات، وبحسب آخر التصريحات الرسمية العراقية، فأكبر سبع شركات مصرية في مجال المقاولات حصلت بالفعل على موافقة مبدئية.
ليبيا.. ساحة الحرب الباردة بين مصر وتركيا
في عُمق الأرض الليبية احتياطاتٌ نفطيةٌ هائلة تُقدر بنحو 48 مليار برميل، إضافةً إلى احتياطات النفط الصخري بسعة 26 مليار برميل، وهي الثروة التي ساهمت في تحويل الصراع الليبي إلى حربٍ بالوكالة.
عقب اندلاع الثورة الليبية في فبراير (شباط) عام 2011 تحركت مصر بخلاف السياسة العربية التي عمدت إلى إسقاط نظام القذافي برفضها التدخل العسكري، وهو الموقف نفسه الذي تبنته تركيا برفضها تدخل حلف الناتو في ليبيا، فبينما كانت القاهرة تستهدف الحفاظ على ما تراه أمنها في الجانب الغربي، كانت أنقرة تدافع عن استثماراتها الضخمة التي وصلت ذروتها من التمدد، قبل أن تبوء بخسارة مدوية تجاوزت تكاليفها المبدئية نحو 2.7 مليار دولار.
وبينما لم تعترف تركيا بالمجلس الانتقالي الليبي الذي شكله ثوار ليبيا إلا بعد أسبوعين من تأسيسه، تباطأت القاهرة ستة أشهرٍ كاملةٍ حتى اعترفت بالقيادة الشرعية الجديدة، لكنّ التغيير السياسي الذي حدث في مصر بعزل الرئيس الأسبق محمد مرسي، أتبعه تغيرًا جذريًا في السياسة المصرية بظهور اللواء المتقاعد خليفة حفتر، الذي يسيطر حاليًا على الشرق، والجنوب الليبي، وأجزاء من وسط ليبيا، وهو شخصية عسكرية في ليبيا مثلت الرؤية المصرية الجديدة تجاه ليبيا.
رغم الدعم العلني الذي وفرته مصر للجنرال الليبي على حساب حكومة الوفاق المعترف بها دوليًا، إلا أنّ القاهرة حتى قبل عام 2019 كانت مرشحة بقوة لتكون الأوفر حظًا لانتزاع ملف عملية إعمار ليبيا الذي تصل تكلفته إلى 200 مليار دولار، بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي.
في البداية تعهدت حكومة الوفاق على لسان وزير ماليتها بأن تكون الأولوية للشركات المصرية في عملية الإعمار عبر الاستعانة بقطاعات التشييد، والبناء، والكهرباء، والتي يفوق تعدادها 500 شركة مصرية، إلى جانب جلب مليوني عامل مصري قد تمتد عقود عملهم إلى أكثر من 10 سنواتٍ، وهي المدة المقدرة للإعمار، وهو ما يعوض خسائر الشركات المصرية المتواجدة في السوق الليبية، ومنها الشركة القومية للتشييد – حكومية – التي كان يبلغ حجم أعمالها بالسوق الليبية بنحو ملياري دولار، إذ علقت مشاريع تتخطي قيمتها 10مليار دولار بعد أحداث العنف في ليبيا.
لكنّ كل تلك الوعود تغيرت عقب المعركة التي أطلقها حفتر على طرابلس في أبريل (نيسان) عام 2019 لإسقاط حكومة الوفاق التي سارعت لعقد اتفاقية أمنية وعسكرية غيرت مسار الحرب والسياسة في ليبيا.
عقب الانتصارات العسكرية التي حققتها قوات حكومة الوفاق، حصدت تركيا ثمار دعمها عبر زيادة الاستثمار التركي في السوق الليبية ليبلغ نحو 16 مليار دولار، إلى جانب الاتفاق على الاستئثار بالكعكة الأكبر من إعمار ليبيا من خلال الوفد التركي الذي زار طرابلس منتصف العام الماضي، وضم وزيري الخارجية والمالية ورئيس المخابرات تزامنًا مع تعهد الشرق الليبي بإعطاء مصر ملف الإعمار.
وحتى الآن لم تجهّز ليبيا قائمةً تحصر فيها حجم الدمار الذي حل بها، كما أنّ ملف الإعمار لم يحسم لأي طرفٍ حتى الآن، في ظل أن السلطة الجديدة قد انتخبت فقط قبل أيام ولم تزل هناك عقبات أمامها، وهو ما استدعى في الفترة السابقة تغيرًا مصريًا لدبلوماسيتها في ليبيا والتحول من الدعم العلني لحفتر إلى التقارب مع الغرب الليبي أملًا في الحصول على حصة الأسد من الإعمار.
سوريا.. هل سقط الحلفاء في مأزق الإعمار؟
اندلعت الثورة السورية في مارس (أذار) عام 2011؛ لتتحول بعدها مباشرة إلى حربٍ أهلية بين نظام بشار الأسد المدعوم من روسيا وإيران، وبين المعارضة المسلحة، إلى جانب تنظيماتٍ متشددة، والصراع المستمر منذ 10 سنواتٍ، أفرز دمارًا هائلًا، قدره الرئيس السوري بنحو 400 مليار دولار، هي كلفة إعمار البنى التحتية التي قد يستغرق تشييدها بين 10 و15 عامًا.
لكنّ المفارقة أنّ الأسباب السياسية التي دعت روسيا وإيران للتدخل لإنقاذ النظام السوري مهما كلف الأمر، لن تكون بنفس جدوى الأسباب الاقتصادية لانتزاع ملف الإعمار، وهو الذي منحه النظام السوري حصرًا لحلفائه بعد استبعاد الغرب، ولن يكون بمقدور النظام السوري تحمل تكلفة الإعمار، خاصة أنّ موازنة العام المالي الحالي تُقدر بنحو 6.8 مليار دولار، وهو رقمٌ لن تتحمل معه دمشق تحمّل دفع تكاليف الإعمار.
التمويل الأجنبي لعملية الإعمار ستكون أيضًا شبه مستحيلة خاصة بعد إقرار واشنطن «قانون قيصر» الأمريكي، الذي يستهدف فرض عقوباتٍ اقتصادية على النظام السوري، وأي شركة أجنبية تتعامل معه، خاصة فيما يتعلق بأربعة ملفات رئيسة: «الطاقة، والطائرات، والبناء، والهندسة».
أزمة العقوبات الأمريكية التي عمّقت تهاوي الاقتصاد المتأزم عطّلت وعودًا قديمة مبرمة عوّلت عليها مصر لاقتطاع 25% من كعكة الإعمار، بواقع 100 مليار دولار، كما أنها وضعت من جانب آخر كلًا من روسيا وإيران في أزمة أخرى بالتكفل بفاتورة الإعمار كاملة، وهو ما لا يتحمله اقتصاد كل دولةٍ منهما.
ورغم أنّ إيران حصلت على وعودٍ من النظام السوري بأن تكون لها أولوية الإعمار في سوريا، نتيجة لما أنفقته خلال سنوات الحرب العشر، وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلا أنّ متوسط ما أنفقته إيران يبلغ 6 مليارات دولارٍ سنويًا، أي بنحو 60 مليون دولار، حرصت طهران على تعويض تلك المبالغ بتوقيع صفقات لصالحها، منها بناء 200 ألف وحدة سكنية، إلا أنّ الاتفاقات لم تكن كافية.
فمنذ عام 2018 لم تنفذ إيران أي اتفاقية وقعها النظام السوري، وهو ما دفع رئيس جمعية الإعمار في طهران إلى القول: «أيٌّ من البنود الواردة في الاتفاقيات المهمة التي جرى التوصل إليها بين البلدين لم يترجم اقتصاديًا»، على جانبٍ آخر انتزعت روسيا حصرًا اتفاقات التنقيب عن الغاز والطاقة، وهو ما يضمن لها جزءًا من التعويض عما أنفقته في الحرب.
اليمن.. هل ستحتل السعودية صنعاء بعد نهاية الحرب؟
بحسب أحدث إحصائية أطلقتها الأمم المتحدة حول الحرب في اليمن، فالمعارك خلفت نحو 233 ألف قتيل، واحتدم القتال في 47 جبهة مقابل 33 العام الماضي، كما سيواجه نحو 16.2 مليون شخص – يمثلون نحو نصف السكان – خطر المجاعة بحلول منتصف عام 2021.
ومنذ بدأت الحرب في اليمن، قُتل نحو ربع مليون شخص، وخسرت البلاد مكاسب 20 عامًا من التنمية، وحوصر 80% من السكان بين الجوع والمرض في أكبر أزمة إنسانية في العالم، وفيما تستمر المعارك الدائرة يواجه الاقتصاد شبح الانهيار، بسبب انخفاض إيرادات البلاد من النقد الأجنبي، ونفاد الاحتياطي الأجنبي منذ عام 2016، بالإضافة إلى تهاوي سعر العملة المحلية؛ إذ يسجل الدولار حاليًا نحو 250 ريال يمني.
وتسببت الحرب في تدمير نحو نصف مليون منشأة، منهم 15 مطار، و14 ميناء، و1841 منشأة حكومية، و430 ألف منزل، و916 مدرسة، و181 منشأة جامعية، و363 مصنعًا، بحسب تقديرات أممية. وتصل تكلف إعادة إعمار اليمن إلى 100 مليار دولار، بحسب تقديرات الحكومة اليمنية عام 2019، إلا أنّ البنك الدولي يُقدّر أنّ اليمن يحتاج 26 مليار دولار من أجل تعافي الاقتصاد، وعودة العمران.
لكنّ اليمن لن يكون بمقدوره طرح مناقصاتٍ من أجل جذب الاستثمار الأجنبي؛ فبخلاف خزينته الخاوية وقعت السعودية معه في مايو (أيار) عام 2019 اتفاقية «إعمار اليمن»، والتي تُعطي المملكة صلاحيات كاملة في إدارة موارد الدولة اليمنية، بما في ذلك النفط، والغاز، والموانئ، والمنافذ البرية، وتستطيع المملكة بموجب الاتفاقية إدارة الملف الاقتصادي لليمن دون الرجوع للحكومة الشرعية.
وبموجب العقد، فالسعودية حصلت حصريًا على حق الاستثمار دون دخول أية شركات أجنبية أخرى، كما منحت المسؤولين السعوديين كامل الحصانة من أية مخالفات يرتكبونها بصفتهم دبلوماسيين، والأهم في الاتفاقية أنها تعفي الشركات والموردين السعوديين والجھات المتعاقدة مع البرنامج من دفع الرسوم الجمركية أو الضرائب، كما أن السعودية لم تضع إطارًا زمنيًا لانتهاء الاتفاقية التي جاء فيها: «تصبح سارية المفعول لمدة غير محددة».
وبينما حُسم ملف الإعمار في كلٍّ من اليمن والعراق لصالح السعودية ومصر على الترتيب إلى حد كبير، فمن المقرر أن تطرح صفقات الاستثمار مرة أخرى في ليبيا عقب تشكيل حكومة مؤقتة، بينما تنتظر سوريا رفع الحظر الاقتصادي المفروض عليها، إلى جانب تعويلها على مؤتمرات المانحين، التي لن تكون في حقيقتها سوى إنقاذ لشريكي الحرب: روسيا وإيران.