القاهرة – نيللى عادل —
الكعكة كانت مثالية. قشرتها مُحمَّصة بالقدر المطلوب، وقلبها طري وهشّ بالشكل الأنسب. رائحتها وهي تملأ أرجاء البيت كانت كفيلة تماماً بصُنع حالة من السعادة الضِمنية والشعور بالاكتفاء. لكن السؤال الذي دائماً ما يتردد بعد تلك المحاولات.. هل هو شعور بالاكتفاء حًقا .. هل حققنا السلامة؟ .. أم هو تسكين لحالة عدم الكفاية التي ابتلعت جيلاً بأكمله؟
كان يوماً عاديّاً ضمن سلسلة ممتدة من تلك الأيام التي نؤثِر فيها المَهام الروتينية المَحضة، لكيلا نغرق في عمق الصورة الأكبر، ونُفجع بفداحة التقصير من جانب، أو الإحباط وضياع الجدوى من جانب آخر. ضَلَلنا وضَلَّلنا بإرادة كاملة هذا الهدف النار الذي يوماً تضرم في الأحشاء فأيقظنا ملتاعين من أن يفوتنا شيء كان من الممكن أن نغيّره
ذهبنا لأرض نائية طَوعاً نحمل بين أذرعنا كتلة مُعقدة من “الإيمان بالصورة الأكبر“- إن جاز أن نُسميه بتلك التَسمّية، وألقيناه هناك ليجفّ إن نجا من الضِّباع، من قلة الاعتقاد به. وصرنا جميعنا، جيلاً عشرينياً/ ثلاثينياً/ أربعينياً يُفضل تحقيق نجاحات لا تتجاوز طهي وجبة لطيفة أو الفوز بالمركز الأول في لُعبة قتال على الهاتف، من حَمل قضية قد تضمن في أحد أبعادها: رؤية المُستقبل والتعويل على ما قد يَحمِل لنا من فُرص ثانية
قبل سنوات عشر بالتمام والكمال، كان للمعنى حيّز ضخم في كلٍ منّا. به صلنا وجلنا ونهلنا من كل الفُرَص ما أوتينا، لأنه بدا وكأنه بالإمكان فعلاً فعلُ أشياء عِظام. لا بُد أن يكُنّ عِظاماً!، فلا يُمكن لتلك الدماء والدموع السخية أن تُخضّب هذا القدر من التراب والهواء بلا أثر فوريّ مُقدّس يُغيّر الواقع بشكل جذري ويجعل البلاد والعِباد أسمى وأطهَر وأقرب لتحقيق المُبتغىَ
الثورة امتدّت من بين الأرض والحصى لقلوبنا جميعاً، قبل أن تكون أعوادنا منصوبة وصلبة كفاية لتقدِر على حَملِ ما في الكلمة من مضامين عملاقة المَعنى والمسؤولية. ولا شيء أخطَر على الفرد من أن يكون في سُكْر ثورته وتردد صدى صوته بين جدران السماء، ثم يجد إذ فجأة أنه لا يريد أن يواصل ذلك الحُلم بعد الآن.. لأنه ببساطة، تَعِب. أو لأنه لم يكُن من المفترض له من البداية أن يتخيل نفسه في هذا المكان من الأساس
وللتعب صوره وأنماطه.. أولها التعب من المحاولة والإخفاق.. التعب من فرط الطموح في واقع مفرط الإحباط.. التعب من انتهاج المرونة للتماشي مع النكبات المتوالية.. والتعب من تضاؤل قدرة التأقلم على المتغيرات.. وآخرها التعب المُطلق من كل شيء، وقد يشمل ذلك كل ما سبق في حزمة واحدة. لذا لا ضير إذاً في تحوّل فتاة ألحت في سؤال ربّها يوماً الإخلاص والشهادة، أن تُصبح أكبر هموم يومها الآن هي الوصول إلى بيت العنكبوت في أقصى السقف وتنظيفه لتشعُر بالسلام. وليس مفاجِئاً استشراء موجة الانخلاع من المُعتَقدات والعلاقات والرغبات، والبحث الهوسيّ عن الجدوى في “التجارب الجديدة” التي تتعارض خاصة مع ما نعتنق.. لعلّنا- ربما- نجد السبيل
لا ضير في الأمنيات الصِغار لا جدال، على شِباك بيت العنكبوت أن يتم تنظيفها بالفعل، ولولا الطعام اللذيذ لما صارت البيوت آمنة لحمل أحلام أهلها. لولا تمنّي الأشياء البسيطة لصِرنا جميعنا نحمل ذات الحَجَر الذي نحلُم أن نبني به وطناً لائقاً، ولكن كيف تُشيَّد الأشياء بحجر واحِد؟
جلّ ما في الأمر أن الاختباء في تفاصيل الصورة السطحية، لكي نتغافل عن المعنى الأعمق وراءها، ما هو إلا مُسكِّن لحظي قصير الأمد والجدوى لإيثار ما نعتبره “سلامتنا النفسية”، حيث إن الاعتقاد في الأمور العظيمة كُلفته أكبر مما نحتَمِل. ما نحتمله حالياً على الأقل.. أو هكذا نأمُل