باتت معظم بلدان العالم الثالث الآن تعلق كل آمالها على الهند من أجل إمدادها بلقاح كورونا لكبح جماح جائحة الفيروس المستجد، خصوصًا بعدما استولت الدول الغنية على معظم سلة اللقاحات العالمية المتاحة من قبل شركتي فايزر وموديرنا.
ومن المثير للدهشة أن الهند – الدولة التي يبلغ عدد سكانها 1.4 مليار نسمة، ولديها ثاني أكبر عدد من الإصابات بفيروس كورونا في العالم بما يقرب من 11 مليون إصابة إلى الآن، بعد أن تعثرت في السيطرة على انتشار الجائحة – عازمة على إنهاء الوباء عن طريق اللقاح، ليس فقط على أراضيها، بل أيضًا في الخارج.
تهدف خطة ناريندرا مودي، رئيس الوزراء الهندي، إلى تلقيح 300 مليون مواطن هندي بحلول يونيو (حزيران) من هذا العام، وفي الوقت نفسه تسعى إلى تزويد عشرات البلدان حول العالم بملايين الجرعات من اللقاحات المصنعة لديها محليًا.
وجدير بالذكر أن إدارة الدواء الهندية قد منحت – حتى هذه اللحظة – الترخيص لاستعمال لقاحين محليين، الأول هو «كوفيشيليد» المعروف أيضًا بأسترازينيكا، والذي ابتكرته مختبرات أسترازينيكا بالتعاون مع جامعة أكسفورد، ويجري تصنيعه بكميات هائلة في الهند بواسطة «معهد الأمصال (Serum Institute)»، أكبر مصنع لقاحات في العالم.
أما اللقاح الثاني فهو لقاح «كوفاكسين»، الذي طُوِّر ويصنع من قبل «بهارات بيوتيك (Bharat Biotech)»، وهي شركة هندية رائدة في صناعة اللقاحات. فيما لم يزل هناك أربعة لقاحات قيد التطوير لشركات هندية بالتعاون مع جامعات ومختبرات غربية.
ومن المنتظر أن تلعب الهند دورًا رئيسًا في إنتاج لقاحات فيروس كورونا، بفضل قدراتها على الإنتاج الضخم والمنخفض التكلفة في الوقت ذاته؛ مما يجعل لقاحاتها أكثر ملاءمة مع إمكانات الدول الفقيرة. وقد بدأت الهند بالفعل في تصدير ملايين الجرعات من لقاح «كوفيشليد» إلى المغرب والبرازيل، فيما لم يزل هناك طابور طويل من البلدان التي تنتظر دورها لاستقبال حصتها من اللقاح.
«صيدلية العالم».. كيف أصبحت الهند بهذه الأهمية؟
لم يكن بروز الدور الحيوي للهند في تصنيع اللقاحات وليد جائحة كورونا، فحتى قبل الوباء كانت الهند تنتج 60% من لقاحات العالم، وتُورّد حوالي 60 إلى 80% من مشتريات الأمم المتحدة السنوية من اللقاحات؛ ما جعلها تستحق بجدارة لقب «صيدلية العالم»؛ إذ إنها على مدار عقود استطاعت استكمال بنية تحتية مهمة لإنتاج اللقاحات وتوزيعها في كل أنحاء الأرض، اكتسب على إثرها صانعو اللقاحات الهنود سمعة طيبة بفضل السعر المنخفض والفعالية على حد سواء.
إرادة سياسية قديمة لتحقيق الاكتفاء الذاتي
شهدت الهند في تاريخها الكثير من الأوبئة التي كانت تهلك الملايين من سكانها بلا هوادة، بداية من الطاعون، والكوليرا، والجدري، إلى شلل الأطفال، والتيفويد، وغيرها من الفيروسات القاتلة، زاد من سوئها الاكتظاظ السكاني الكبير لديها، وظروفها الاقتصادية المتداعية؛ مما جعلها هدفا سائغا للأوبئة.
لكن مع بدايات القرن العشرين أدركت أن عليها الاعتماد على نفسها في مواجهة الأوبئة إذا ما أرادت الحفاظ على وجود أمتها، ومنذ ذلك الحين دشَّنت الهند جهودًا منهجية حثيثة لتحقيق المناعة الذاتية من الأوبئة عن طريق تصنيع اللقاحات
بدأت هذه الجهود بإنشاء معاهد لقاحات جديدة في كل مقاطعة بالهند. فظهر معهد «حافكين» لأبحاث الطاعون، ومركز «كاساولي» البحثي، ومعهد «باستور»، تبعها العشرات من المعاهد البحثية والمراكز المعنية باللقاحات، مثل «المنظمة المركزية لمراقبة معايير الأدوية (CDSCO)»، و«قسم العلوم والتكنولوجيا (DST)»، و«مجلس البحث العلمي والصناعي (CSIR)»، و«المجلس الهندي للبحوث الطبية (ICMR)»، و«المعهد الوطني للمناعة»، وغيرها من المراكز التي لعبت دورًا حاسمًا وتكامليًا في تطوير الصناعة الدوائية الهندية على مر سنين.
وبالتوازي مع ذلك حظي حكام المقاطعات الهندية بصلاحيات سياسية أكبر، وأصبحوا يتحملون مسؤولية توفير الخدمات الصحية لمقاطعاتهم، وهو ما أدى إلى تسابق حكومات الولايات في تعزيز أمنها الصحي وتشجيع صناعة اللقاحات، عن طريق إغراء الشركات الدولية والقطاع الخاص ببناء وحدات تصنيع اللقاحات على ترابها، وكذا الترخيص لها لإجراء تجارب سريرية للقاحات المرشحة على عينات من الساكنة، خاصة مع عدم وجود حركة اجتماعية معادية للقاحات في الهند.
وبحلول عام 1990 أصبحت البلاد مكتفية ذاتيًا في قدرتها على تصنيع جميع اللقاحات، بل طوّرت محليًا عددًا من الأمصال ضد السل، والجدري، والانفلونزا، وداء الكلب. ومنذ ذلك الوقت انتقلت الهند إلى مستوى آخر تمامًا من صناعة اللقاحات، يتجاوز حدودها إلى المستوى العالمي، ولا سيما بعد دخول قطاعها الخاص إلى معترك تطوير الأمصال.
انخراط القطاع الخاص في صناعة اللقاحات
على مدار العقدين الماضيين، تطور القطاع الخاص الطبي في الهند بشكل مذهل، بدعم وتشجيع من الحكومة، لتصبح «صيدلية العالم»، إذ تمتلك الهند ما لا يقل عن 334 شركة تشتغل في مجال صناعة اللقاحات، يبلغ حجم مبيعاتها أكثر من 50 مليون يورو، كما تحتضن حوالي 5100 وحدة إنتاجية تابعة لشركات دولية، وفقًا لبيانات من مركز مراقبة الاقتصاد الهندي.
على سبيل المثال «معهد الأمصال»، والذي بدأ أول الأمر بوصفه مزرعة لتربية الخيول في مدينة بونيه سنة 1946، هو الآن شركة هندية عملاقة في صناعة اللقاحات، تنتج حوالي 1.5 مليار جرعة سنويًا، وتُطَعِّم ثلثي الأطفال في 170 بلد حول العالم من أمراض مثل: شلل الأطفال، والنكاف، والسعال الديكي، والتهاب السحايا، والحصبة. ويستعد حاليًا لتزويد العالم الفقير بمصل «أسترازينيكا» ضد فيروس كورونا
أيضًا «بهارات بيوتيك» هي الأخرى شركة دوائية هندية رائدة، ومقرها حيدر أباد، تُصدِّر حوالي 16 لقاح إلى أكثر من 100 دولة في العالم، بما في ذلك لقاح «جائحة أنفلونزا (H1N1)» سنة 2009. واشتُهرت الشركة بتصنيعها وتسويقها لقاحًا رخيصًا جدًا يساوي أقل من يورو ضد فيروس «روتا (وهو فيروس شديد العدوى يسبب التهاب المعدة والأمعاء)» لصالح منظمة الصحة العالمية.
بالإضافة إلى عدد من الشركات الهندية الأخرى التي تلعب دورًا حيويًا في ميدان الأمصال عالميًا، مثل مجموعة (Zydus)، وشركة (Premas Biotech)، وأيضًا شركة (Biological E)، وجميعها تعمل حاليًا على تطوير لقاحات مرشحة ضد فيروس كورونا بالتعاون مع مختبرات غربية.
ورغم أن الشركات الهندية لم تساهم حقيقة كثيرًا في ابتكار اللقاحات، فقد ميزت نفسها تاريخيًا من خلال قدرتها على استيعاب اكتشافات الشركات الغربية والتكفل بتصنيعها وتسويقها، كما هو الحال مع لقاح «استرازينيكا»، وذلك بسبب قدرتها على إنتاج كميات كبيرة من الأدوية بتكاليف تصنيع تقل في المتوسط بنسبة 50٪ عن مثيلاتها في البلدان المتقدمة.
وهكذا استطاعت الهند أن تحجز لنفسها مكانًا مهما في الصناعة الدوائية العالمية، إذ باتت تلبي 65٪ من متطلبات منظمة الصحة العالمية للقاحات، وتزود معظم البلدان الفقيرة بحاجياتها من الأمصال، كما أنها «ستساهم في مكافحة جائحة كورونا عالميًا، بفضل قدراتها على إنتاج اللقاحات بتكلفة رخيصة»، كما يوضح الباحث في علم الأحياء، أنانت بهان.
التعاون مع الشركات والمختبرات الغربية
أدركت شركات اللقاحات الهندية مبكرًا أن بإمكانها التقدم سريعًا إلى الأمام، من خلال توطيد شراكاتها مع الأوساط الأكاديمية والصناعية الغربية، والمؤسسات الدولية المعنية بمجال اللقاحات، كنهج إستراتيجي للنجاح أمام الشركات الغربية الدوائية المنافسة، والتي تملك الكثير من رؤوس الأموال والخبرة وروح الابتكار.
وبالفعل تمكنت العديد من الشركات الهندية من حيازة حق التصنيع والتسويق لكثير من اللقاحات، المبتكرة من طرف شركات ومختبرات غربية، ونسجت علاقات وطيدة مع الهيئات الدولية، مثل منظمة الصحة العالمية ومؤسسة «بيل وميليندا جيتس»، مستغلة ميزتها في قدرتها على الإنتاج الشامل بتكاليف منخفضة قدر الإمكان.
وكما استطاعت إنتاج لقاحات جديدة للكوليرا، والتهاب السحايا، والتهاب الدماغ الياباني بالتعاون مع شركاء دوليين، تسعى الآن الشركات الدوائية الهندية إلى تطوير لقاحات محتملة ضد فيروس كورونا بالشراكة مع مختبرات أمريكية.
من بين هذه اللقاحات واحد يطور بواسطة معهد الأمصال بالشراكة مع «شركة التكنولوجيا الحيوية (Codagenix)» ومقرها الولايات المتحدة، والذي كان يتقدم في البداية سباق اللقاحات الفعالة المرشحة، قبل أن يتخلف عن منافسيه فايزر وموديرنا في المرحلة الثالثة. وبالمثل دخلت «بهارات بيوتيك» في شراكة مع جامعة ويسكونسن و«شركة (FluGen)» الأمريكية لتطوير لقاح «Coro-Flu» ضد فيروس كورونا، يُعطى عن طريق الأنف
https://youtu.be/oM1Se2e1BEQ
وهذا التعاون الغربي في الصناعة الدوائية، بل في كافة القطاعات الحيوية مع الهند هو بلا شك سياسة مدعومة من خارجية الدول الغربية؛ وذلك من أجل تحقيق التوازن مع قوة الصين الصاعدة عن طريق بناء هند قوية، مثل أن تدرك نيودلهي جيدًا أنها في حاجة إلى الشراكة الغربية للتنافس مع جارتها الصين.
وعلى صعيد اللقاحات تحديدًا، فإن شراكات الهند الواسعة مع الشركات الغربية الموثوقة علميًا منحتها ميزة تفوقية على الصين وروسيا، اللتين تبدو لقاحاتهما مسيسة.
مع ذلك تبقى الروح الهندية المثابرة سر تقدم الهند في صناعة اللقاحات، فرغم قلة إمكاناتها ومشاكلها الاقتصادية والاجتماعية، إلا أنها تتقدم ببطء مع العمل الطويل المتراكم لتحجز لنفسها مقعدًا في مجالات لا يقربها إلا نادي الدول العظمى، مثل صناعة اللقاحات، واستكشاف الفضاء.