العلاقات بين مصر والسودان تشهد حالياً تقارباً يمكن وصفه بالتضامن من الناحية العسكرية في مقابل عدم تنسيق يصل حد التناقض في المواقف بشأن مفاوضات سد النهضة، وفي كلا الملفين إثيوبيا حاضرة، فماذا يحدث في الكواليس؟
إذ شهدت الأسابيع الماضية تصعيداً على المستوى السياسي والعسكري وصل إلى حافة الحرب الفعلية بين السودان وإثيوبيا بسبب التوترات الحدودية بين البلدين، وبالتزامن بدأ يتبلور بشكل واضح تقارب سوداني مصري انعكس في أحاديث من مسؤولين في البلدين العربيين عن أن العلاقات بينهما أزلية وأن الجارتين تسعيان لمزيد من التعاون
فبعد 21 سنة من سيطرة ميليشيات إثيوبية عليها، دخلت القوات السودانية آخر نقطة على الحدود مع إثيوبيا وهي منطقة خورشيد، وأعلنت القوات الأمنية أنها أرسلت تعزيزات كبيرة إلى الحدود مــع إثيوبيا، مـن أجل استعادة ما وصفتها بالأراضي المغتصبة، وكان ذلك في أواخر ديسمبر/كانون الأول الماضي.
وفي أعقاب إعلان الحكومة السودانية أنها استعادت أراضي منطقة “الفشقة” (شرق) تصاعدت حدة التوتر في ظل اتهام أديس أبابا للخرطوم بأنها استغلت انشغال إثيوبيا في تيغراي واستولت على أراض داخل حدودها، وهو ما تنفيه الخرطوم.
وأعلنت القاهرة دعمها الكامل للسودان في هذا الصراع الحدودي مع إثيوبيا، ففي 17 ديسمبر/كانون الأول الماضي، قالت وزارة الخارجية المصرية، في بيان، إن “مصر تؤكد تضامنها الكامل مع السودان، وحقه في حماية أمنه وممارسة سيادته على أراضيه، وتشجب هذه الاعتداءات غير المبررة”.
والخميس الماضي اختتم وفد سوداني رفيع المستوى زيارة للقاهرة عقد خلالها لقاءات مع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ومسؤولين آخرين، وأطلع الوفد السوداني السيسي على تطورات الأوضاع على الحدود بين السودان وإثيوبيا. وصرح السيسي بأن موقف مصر تجاه السودان ينبع من الترابط التاريخي بين شعبي وادي النيل، وهو الموقف الذي لم ولن يتغير تحت أي ظرف، على حد قوله.
تقارب عسكري بين مصر والسودان
لكن التقارب الراهن بين الخرطوم والقاهرة بدأ عسكرياً عندما أجرت السودان ومصر مناورات جوية منتصف نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، هي الأولى من نوعها بين البلدين. وتزامنت المناورات مع مواجهات بين الجيش الفيدرالي الإثيوبي وقوات “الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي” في الإقليم الإثيوبي الحدودي مع السودان.
وسبق تلك المناورات زيارة رئيس أركان الجيش المصري محمد فريد حجازي، للخرطوم في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، حيث اجتمع مع نظيره السوداني محمد عثمان الحسن. وصرح حجازي وقتها في الخرطوم بأنه “خلال الفترة المقبلة ستشهد العلاقات العسكرية بين البلدين طفرة نوعية” على أصعدة عديدة، وخاصة التدريب وتأمين الحدود.
ولمّحت إثيوبيا على لسان المتحدث باسم خارجيتها قبل أسبوع إلى وجود “طرف ثالث” يسعى إلى تأجيج النزاع الحدودي مع الخرطوم، دون أن يسمي “الطرف الثالث”، موضحاً أن “السودان استغل فراغاً أمنياً على الحدود بسبب الحرب التي خاضها الجيش الإثيوبي في إقليم تيغراي وتجاوز حدود البلاد”.
“إثيوبيا سعت لعدم تضخيم موضوع الحدود مع السودان وجعله قضية إقليمية، باعتباره يمكن حله مع البلدين عبر الحوار، لكن هذا الأمر له حدود، كنا نعلم تماماً أن خلف هذه الأحداث طرف ثالث (لم يسمه) ولا يجب أن يعتبر صمتنا خوفاً من جانب إثيوبيا”.
ماذا عن مفاوضات سد النهضة؟
وبطبيعة الحال لا يمكن النظر إلى العلاقات بين الخرطوم والقاهرة بمعزل عن أديس أبابا، فلا زالت قضية سد “النهضة” الإثيوبي عصية على الحل بين الدول الثلاث، رغم مرور 9 سنوات منذ بدء التفاوض، في ظل مخاوف سودانية مصرية من تأثيرات سلبية محتملة للسد على حصتهما المائية.
ومن الطبيعي أن يكون التقارب العسكري بين مصر والسودان منعكساً بشكل مباشر على موقفهما في مفاوضات سد النهضة، لكن واقع الأمور يقول العكس تماماً، ففي منتصف ديسمبر/كانون الأول الماضي أعلن السودان فجأة مقاطعته للمفاوضات بسبب ما قال إنه اعتماد على “منهج قديم” لن يجدي، ومطالباً بإعطاء دور أكبر لخبراء الاتحاد الإفريقي، وهو موقف مناقض لموقف مصر ويصب في صالح إثيوبيا، لأنه يطيل زمن المفاوضات
وأعلن وزير الخارجية السوداني في 11 يناير/كانون الثاني الجاري، عن تقديم بلاده اشتراطات للاتحاد الإفريقي للعودة إلى مفاوضات “ذات جدوى” في ملف السد، ملوحاً بأن لدى الخرطوم “خيارات” أخرى، دون أن يوضح طبيعة تلك الخيارات.
وفي 4 يناير/كانون الثاني الجاري، رفضت الخرطوم المشاركة في اجتماع ثلاثي عبر تقنية الاتصال المرئي مع مصر وإثيوبيا حول السد، وقالت إنه لم يتم إقرار مطلبها بخصوص تعظيم دور خبراء الاتحاد الإفريقي والمراقبين عبر اجتماعات ثنائية.
وهذا ما عبر عنه عبدالمنعم أبو إدريس، المحلل والباحث في الشأن الإفريقي، بقوله لوكالة الأناضول إنه “لا يوجد تنسيق يذكر بين الخرطوم والقاهرة بشأن السد، فمواقف البلدين في آخر اجتماعات التفاوض كانت متناقضة”.
وأوضح أبو إدريس أن “موقف السودان هو إعطاء دور أكبر لخبراء الاتحاد الإفريقي، بينما مصر ترفض إعطاءهم دوراً أكبر، وهنا يكاد يكون الموقف المصري أقرب إلى إثيوبيا”، مضيفاً: “لا يوجد تنسيق وتعاون سوداني مصري في ملف السد، وكل ما تم هو زيارة وفد إماراتي للخرطوم، مؤخراً، وإجراء مباحثات مع السودان وإثيوبيا ومصر، في محاولة لتحقيق تقارب بين الدول الثلاث”.
هل يتجاوز شطرا وادي النيل بؤر التوتر بينهما؟
لكن الخلاف بين القاهرة والخرطوم بشأن ملف سد “النهضة” ليس العقبة الوحيدة في العلاقات بين البلدين، لذلك يرى محللون أن التقارب السياسي والعسكري بينهما قد يساعد على إنهاء الخصومة التي تتجدد من آن إلى آخر حول قضايا، أبرزها النزاع بشأن السيادة على منطقة حلايب وشلاتين الحدودية.
لكن المحلل السياسي يوسف سراج يرى أنه “من المستبعد أن نعتبر ما يجري بين السودان ومصر تنسيقاً أو تعاوناً، فحكومتا البلدين طالهما التغيير، لا سيما السلطة الانتقالية في الخرطوم”.
وبدأت بالسودان في 21 أغسطس/آب 2019 مرحلة انتقالية تستمر 53 شهراً تنتهي بإجراء انتخابات في يناير/كانون الثاني 2024، ويتقاسم خلالها السلطة كل من الجيش وائتلاف “قوى إعلان الحرية والتغيير”، وقاد هذا الائتلاف احتجاجات شعبية منددة بتردي الأوضاع الاقتصادية دفعت قيادة الجيش، في 11 أبريل/نيسان 2019، إلى عزل عمر البشير من الرئاسة.
وتابع سراج للأناضول: “الحكومة الانتقالية في السودان ليس لها موقف موحد، فهي مؤلفة من مكونين مدني وعسكري، والتباين بينهما واضح حتى في العلاقات الخارجية”، مضيفاً أن “التقارب المصري ربما يكون مع المكون العسكري بالسلطة الانتقالية (5 عسكريين بمجلس السيادة الحاكم) باعتبار أن خلفية الجانبين عسكرية”، في إشارة إلى أن السيسي كان وزيراً للدفاع.
وقال المتحدث باسم مجلس السيادة الانتقالي محمد الفكي سليمان، خلال مؤتمر صحفي، الجمعة، إن المسؤولين السودانيين عقدوا لقاءات في مصر وإريتريا وجنوب السودان وتشاد لتوضيح موقف السودان من الانتشار داخل أراضيه. وشدد الفكي على أن المواقف السياسية للسلطة الانتقالية يتم اتخاذها داخل سلطة موحدة سياسياً وعسكرياً.
وذهب سراج إلى أن “مصر قد تدعم تحرك السودان على الحدود مع إثيوبيا، لأن القاهرة ضد أديس أبابا.. ورأينا ذلك في تصريح مصري عقب الاعتداء (من طرف مسلحين إثيوبيين) على قوات الجيش السوداني. ما يمكن أن يُقال عن خلاف الحدود بين السودان وإثيوبيا، هو أن القاهرة وأديس أبابا، ومنذ زمن، تتصارعان على زعامة المنطقة لاعتبارات الثقل التاريخي والكثافة السكانية الكبيرة للبلدين”.
وأضاف سراج: “مؤشرات ذلك واضحة ضمن الصراع بين إثيوبيا ومصر، حيث تتواجد الأخيرة في جنوب السودان بشكل كبير ولها قاعدة عسكرية غير معلنة في إريتريا”.
وفي ظل تلك التعقيدات، التي تسود علاقات السودان ومصر، وتأثيرات التوترات الإقليمية، يبدو مصير التعاون والتنسيق بين البلدين رهيناَ بمصالحهما ودوافعهما وقدرتهما على تجاوز بؤر التوتر