لم يعبأ الشعب الفلسطيني بحوارات المصالحة بين فتح وحماس خلال السنوات الأخيرة بسبب الإخفاقات التي شهدتها موجات الحوارات السابقة المتتالية في القاهرة وغيرها من العواصم. وانخفضت توقعات الجميع، حيث اعتبر الفلسطينيون أن هذه الحوارات هي “حوار الطرشان”، أي بلا جدوى، وأن مآلات الحوارات الأخيرة مصيرها كمصير سابقاتها، حيث تصطدم بعثرات لا يتم الإعلان عنها.
إلا أن التراشق بين فتح وحماس حول الطرف المسبب للإخفاق يوحي بأن الطرفين غير مستعدين للتنازل، وأن الطريق المسدود يتمثل في تعارض المصالحة مع رؤية كل من الطرفين للمخرج السياسي من الأزمات الفلسطينية المتراكمة.
لم تتغير الصورة كثيراً بالنسبة للمتابعين، إلا أن التغير الدراماتيكي المفاجئ هو صدور المرسوم الرئاسي حول إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني الفلسطيني خلال هذا العام، وهو المرسوم الذي جاء بعد موافقة حركة حماس على إجراء الانتخابات على مراحل (متقاربة)، وتنازلها عن شرطها المسبق بأن تكون الانتخابات متزامنة. ويبدو واضحاً أن هذا الشرط كان مرفوضاً تماماً من حركة فتح، وأن العقدة تمثّلت في هذه النقطة وليس في غيرها.
أي أن العقبات الأخرى تم تذليلها خلال الحوارات السابقة، ووقف الأمر عند نقطة التزامن الانتخابي، والذي انتهى بموافقة حماس على عدم تزامن الانتخابات.
التصريحات التي صدرت عن الفصائل والقوى السياسية الفلسطينية، وكذلك عن بعض الدول العربية والإسلامية والأوروبية، بالإضافة إلى الأمم المتحدة، كانت تصريحات مشجعة ومؤيدة لإجراء الانتخابات. ربما الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحدها التي اعتبرت أن إجراء الانتخابات ليس كافياً لإنهاء الانقسام، وهو موقف واقعي جداً، ومعبّر عن واقع الحال.
إجراء الانتخابات في ظل واقع صعب، وفي إطار اختلاف الرؤى وتناقض البرامج السياسية بين فتح وحماس، أو إن شئت قل بين السلطة وفصائل المقاومة الفلسطينية، يمثّل مغامرة غير محسوبة العواقب، وفق المعطيات الموضوعية، وبناء على ما رشح سابقاً من معلومات حول مخرجات حوارات المصالحة بين فتح وحماس. فإلى أين ستقودنا الانتخابات؟
الحريات قبل الانتخابات
بداية لا بد من الحديث عن الأجواء السياسية الداخلية، وتحديداً عن الحريات السياسية في غزة والضفة الغربية، وبخاصة في الضفة، حيث يسرح جيش الاحتلال ويمرح، وبإمكانه أن يتدخل من خلال اقتحام المدن والقرى، والقيام بالاعتقالات باستمرار.
فهل يجرؤ أي شخص، أو أي جهة، على خوض الانتخابات، إذا كانت هذه الجهة مصنّفة على أنها “إرهابية” من قبل الاحتلال؟ بالتأكيد ستكون هذه الجهات عُرضة للاعتقال، إن لم يكن قبل الانتخابات أو أثنائها، فسيكون بعد إجرائها.
لكن، من جهة أخرى، هل بإمكان الأجهزة الأمنية في غزة والضفة الغربية أن تتسامح مع المعارضين الذين تعرّضوا للاعتقال والتحقيق طيلة الخمس عشرة سنة الماضية لاختلافهم السياسي مع الحكومة؟ وإذا افترضنا أن هناك ضمانات للتسامح وإتاحة المجال للجميع للتعبير عن رأيه السياسي، والعمل بحرية في الحملات الانتخابية، فمن يضمن ألا يتعرض هؤلاء للمساءلة بعد انتهاء الانتخابات؟
هذه التساؤلات مشروعة، ويمكن أن تمثّل حجر عثرة أمام مشاركة الجميع (وبخاصة حركات المقاومة في الضفة، وحركة فتح في غزة). فقد لا تشهد انتخابات 2021 مشاركة فاعلة كما كان الحال في العام 2006، على الأقل في مجال الحملات الانتخابية، عدا عن التوجه لصناديق الاقتراع بسبب غياب الحريات، وتعاظم السيطرة الأمنية، وبالتالي عزوف المواطن عن المشاركة السياسية.
العبرة في النتائج وليس في الانتخابات
لكن المسألة الأخطر تتمثل في نتائج الانتخابات. فالأسئلة المشروعة المطروحة في الوقت الراهن تدور حول ماذا سيحدث لو فازت هذه الجهة أو تلك. فالبعض يراهن على أن الانتخابات لا تعدو كونها عملية تجديد للشرعية لحركة فتح والسلطة الفلسطينية، والذي يعني ضمناً تجديد التفويض بالاستمرار في نهج المفاوضات، وهو الذي ترفضه حركات المقاومة الفلسطينية، أو بشكل أدق، غالبية القوى السياسية الفلسطينية.
ولكن من يجرؤ على التشكيك بمثل هذه النتيجة؟ من يجرؤ على التشكيك بحق حركة فتح في تشكيل الحكومة والمضي في نهج المفاوضات إذا فازت في الانتخابات بناء على برنامجها الواضح والمُعلن؟ المشكلة هي أن حماس والجهاد الإسلامي وغيرهما من حركات المقاومة، لن تتخلى عن برنامجها المقاوم، ولن تفكك أجنحتها العسكرية، الأمر الذي سيعيدنا إلى مربع الانقسام الأول. هل ستقبل فتح، في حال فوزها، أن تحكم غزة في ظل وجود عشرات الآلاف من المقاومين؟ ألم تعتبر السلطة أن وجود تلك التشكيلات العسكرية متعارض مع وحدانية السلطة، وشرعية السلاح؟ إذن ما الذي سيحدث حينئذ؟
هذا في حال فازت حركة فتح في انتخابات المجلس التشريعي والانتخابات الرئاسية.
لكن دعونا نتخيل سيناريو آخر، وهو فوز فتح في رئاسة السلطة، لكن حصولها على أقل من النصف في انتخابات المجلس التشريعي. هذا السيناريو هو الذي حدث في العام 2006، وهو الذي أدى إلى الأزمة السياسية التي استمرت ما يقارب الخمسة عشر عاماً. والمشكلة بالطبع تتمثل في أن القانون الأساسي الفلسطيني مزج بين النظامين الرئاسي والبرلماني، الأمر الذي أفضى لتنازع السلطات، وانتهاء الخلاف بسيطرة الرئاسة على السلطة في الضفة الغربية، وسيطرة حماس (المجلس التشريعي) على غزة في العام 2007.
إن فوز حركة حماس في الانتخابات، وتحديداً في انتخابات المجلس التشريعي هو الأمر الذي يستدعي البحث. فربما يكون مستبعداً أن تخوض حماس الانتخابات الرئاسية، ولكن قد تدعم أحد المرشحين للرئاسة. فحماس تسعى إلى امتلاك زمام الأمور من خلال المجلس التشريعي، والسيطرة على تشكيل الحكومة وتقييد الرئيس. ومثل هذا السيناريو يعيدنا أيضاً إلى الوضع الفلسطيني بعد عام 2006، والذي شهد حصاراً مالياً، وتكالبت القوى بقيادة الولايات المتحدة والاحتلال لإسقاط حكم حماس. وبالفعل، تأزمت الأمور وصولاً إلى الانقسام الحاد الذي فتت المجتمع الفلسطيني سياسياً واجتماعياً، وأوجد بيئة مشجعة للاحتلال للمضي قُدُماً في سياساتها التوسعية في مجال الاستيطان والتطبيع مع الدول العربية.
فهل يمكن لحركة حماس (في حال فوزها في الانتخابات) أن توقف نهج المفاوضات؟ وهل بإمكانها أن تُفعّل برنامج المقاومة؟ السؤال المهم يتمثل فيما إذا كانت حوارات المصالحة قد عالجت مثل هذه الأمور، وهو الأمر الذي لم يتم الكشف عنه.
والتساؤلات تتزايد إذا نظرنا إلى البُعدين العربي والدولي، حيث شهدنا بعد انتخابات 2006 كيف تم التعامل مع سلطة تقودها حماس على الصعيدين السياسي والاقتصادي، وتحديدا المساعدات المالية، في ظل تصنيف حماس في قائمة الإرهاب من قبل عدد من الدول على رأسها الولايات المتحدة والاحتلال الإسرائيلي.
انتخابات المجلس الوطني
يتضح من مجريات الأمور أن حركة حماس مصرّة على إجراء انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني، لأن هذا المجلس يمثل المرجعية السياسية للسلطة الفلسطينية، ويفترض أن يمثّل الكل الفلسطيني (علما بأن حماس غير ممثّلة في هذا المجلس حتى الآن). وتسعى حماس لدخول المجلس الوطني بثقل كبير، يحدوها الأمل بأن تكون مؤثرة في الاتجاه السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، بحيث يعكس تمثيلها في المجلس الوطني لحجمها على الأرض في الساحة الفلسطينية داخلياً وخارجياً.
وربما تهدف بشكل خاص إلى إدماج الشعب الفلسطيني في الشتات في المعادلة السياسية، حيث إن المجلس الوطني يمثل مجموع الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج (على العكس من المجلس التشريعي الذي يمثل الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة). فمشاركة فلسطينيي الشتات سيكون لها تأثير في اتجاه الحركة السياسية الوطنية، وتعالج القضية من أكثر من زاوية، وليس فقط من زاوية فلسطينيي الداخل.
أضف إلى ذلك أن اتفاقية أوسلو تم توقيعها باسم منظمة التحرير الفلسطينية. وهذا يعني أن منظمة التحرير هي التي ستلعب دوراً في تعديل أو إلغاء أو إعادة النظر في الاتفاقيات الموقعة. ربما يقول البعض إن دور المنظمة في هذا الصدد كان شكلياً، وهذا قد يكون صحيحاً، إلا أنها هي الجهة المخولة، وهي المرجعية، في هذا المجال، لأن التفاوض كان باسمها، والاتفاقيات أبرمت بتوقيعها.
أسئلة يجب الإجابة عنها
من المهم حل الإشكالات التي ذكرناها قبل التوجه إلى صناديق الاقتراع. علينا ألا نبتهج كثيراً لأننا سنخوض تجربة انتخابية من جديد بعد مرور خمسة عشر عاماً، بل الأوجب أن نلتفت إلى الأيام التي قد تكون صعبة بعد صدور نتائج الانتخابات. المؤسف أن كثيراً من الناس، وبخاصة السياسيون، يعتبرون أن الانتخابات هي الديمقراطية، وهذا ليس صحيحاً. فالانتخابات هي أحد مظاهر الديمقراطية، وربما تكون آخر تلك المظاهر. فالديمقراطية تقوم على ركائز التعددية السياسية، والحرية، ومشاركة المواطن، وحقه في التعبير والاختيار بحرية ودون ضغوط، ودون محاسبة.
إذن، كيف نقفز إلى مرحلة الانتخابات قبل أن نمهّد الطريق لها؟
من هنا، يمكن تلخيص الموضوع بالتساؤلات التالية، والتي تحتاج إلى إجابات ملحّة قبل الوصول إلى يوم الاقتراع:
أولاً: هل يوجد في فلسطين حريات تضمن إجراء انتخابات بدون ضغوط، وبدون شراء أصوات، وبدون ملاحقة؟ وهل يمكن ضمان ذلك قبل الانتخابات وبعدها؟
ثانياً: هل ستقبل حركات المقاومة الاستمرار بنهج التفاوض في حال فازت حركة فتح في الانتخابات؟ وهل ستسمح للسلطة بدخول غزة وتسليمها كافة السلطات؟ وهل ستقوم تلك الحركات بتفكيك أجنحتها العسكرية في حال تمخضت الانتخابات عن تفويض لحركة فتح بالمضي قُدُماً ببرنامجها السياسي؟ هل بالإمكان وضع معادلة تضمن عدم تعارض وجود أجنحة مقاومة مسلّحة في ظل سلطة ذات نهج تفاوضي لحل القضية الفلسطينية؟
ثالثاً: هل ستقبل حركة فتح بنتائج الانتخابات في حال فازت حركة حماس؟ هل سيتم التراجع عن نهج المفاوضات، وإطلاق يد المقاومة في الضفة الغربية؟ هل ستقوم حركة فتح بتسليم مقاليد السلطة لحماس، وتسهيل حصولها على المساعدات والدعم من الدول العربية والأوروبية؟ أم هل سيعود الحصار المالي على السلطة؟
رابعاً: هل اتفق الطرفان في إطار حوارات المصالحة على الشراكة السياسية، والاحتكام إلى الرأي الجماعي للقوى السياسية الفلسطينية (بصرف النظر عمن يفوز في الانتخابات)؟ وفي حال حدث ذلك، فهل يمكن لأي طرف أن يتنازل عن موقفه لصالح رأي المجموع؟
خامساً: هل تم الاتفاق على عدم الخضوع للضغوط الخارجية والتدخلات الدولية في الشأن الفلسطيني؟ هل تم الاتفاق على حل المشاكل الفلسطينية داخلياً؟
سادساً: ولكي يسهل على الجميع الإجابة على التساؤلات السابقة، هل تم إجراء حوار عميق وشامل حول الأهداف الوطنية، وآليات العمل؟ وكيف يمكن تحقيق الإجماع على المبادئ والأسس التي يتم بناء عليها إدارة الصراع؟
هذه التساؤلات هي التي تدور على كل لسان فلسطيني، وتمثّل مفاتيح الحل. وهي الأمور التي يدركها الساسة وتدركها فصائل العمل السياسي الفلسطيني. ولكن اختلاف البرامج السياسية، وفي كثير من الأحيان التدخلات الخارجية، تحولُ دون القدرة على تجاوز الواقع وتحقيق الوفاق الفلسطيني الذي هو جوهر القضية ومفتاح الحل