العراق – عمّار الحمد —
اللغة لدينا نحن البشر بمثابة الماء عند السمك، «إننا نسبح في اللغة ونفكر في اللغة، ونعيش في اللغة»، ولهذا كتب أورويل قائلًا: إن «الفوضى السياسية مرتبطة بانحلال اللغة»، وهنا يتم إبعاد وفصل الكلمات عن معناها الحقيقي، ومن الناحية السياسية يفتح اللعب باللغة هوة بين أهداف القائد الحقيقية المبطنة والأهداف المعلنة.
وهذا هو السبب في أن الأنظمة الاستبدادية عبر التاريخ اختارت اللغة اليومية في محاولة للسيطرة ليس فقط على كيفية تواصل الناس، ولكن أيضًا في طريقة تفكيرهم. هذه اللغة الخشبية لها خاصية فريدة من نوعها، هي «خاصية الحشو». هذا كأن يقول المرء: «نظريات ماركس صحيحة لأنها صحيحة».
وقد تبنى الحزب الشيوعي لماو خطة للهندسة اللغوية بعد فترة وجيزة من توليه السلطة في الصين عام 1949، وخلق مفردات سياسية جديدة: وقمع بعض الكلمات؛ وشحن الكلمات الأخرى بمعاني جديدة؛ وتم حشو عقول الناس بالشعارات الحزبية من خلال التكرار المستمر. وهكذا تم جعل الناس يفهمون أن هناك طرقًا «صحيحة» و«غير صحيحة» للتحدث، وأن هناك نمطًا من التفكير يجب أن يُنتهج، وما هو صالح وما هو غير ذلك، طالما أن البشر يسبحون في بحر اللغة.
هذا هو النهج اليوم في السياسية الأمريكية، حيث أن لغتها تتصرف فيها من حيث المبنى والمعنى، ليتحول ما تسميه ديمقراطية إلى عنف، وحق المواطن إلى همجية، وممارسة الحريات إرهاب. رغم أن هذا كله في معجمها هي، أو بالأحرى هي من تتصدر الحديث في هذا الحقل الدلالي. ولنا فيما يحدث لترامب اليوم خير مثال.
لذلك فإن «تغلغل النظام في لحم ودم الشعب» من خلال التعابير وتراكيب الجمل التي «تفرض عليهم بمليون تكرار ويتم أخذها ميكانيكيًا وبلا وعي»، هو منهج تم استعماله حتى في ظل حكم ألمانيا النازية، لا سيما خطابات غوبلز، والدول الشيوعية، وحتى الأنظمة الأكثر شمولية، وأعني هنا الليبيرالية. هكذا يمكن أن نستوعب كيف يمكن للحاكم المستبد أن يستخدم اللغة كسلاح لقمع التفكير النقدي، وإثارة التعصب الأعمى، واختطاف العقول.
فكما أن القسوة قد تنقلب إخلاصًا، وسفك الدماء شجاعة، وهي كلمات كانت تغذي الراي، لتعني توكيد الذات من خلال الدفاع أو الهجوم، وتم ازدراء كلمة «النظام» لأنها كانت مرتبطة بجمهورية فايمار، التي احتقرها النازيون بنفس الطريقة التي يحتقر بها الجمهوريون اليمينيون اليوم ما يسمونه الدولة العميقة.
وبالمثل أصبحت الحرية والحقوق والقداسة تعني أمورًا تناقضها تمامًا، في ظل النظام الليبيرالي الديمقراطي.
الأمر الملاحظ أيضًا، الهوس بلغة الأرقام، وصيغ التفضيل فكل شيء يجب أن يكون الأفضل أو الأكثر. لو ذهب ألماني من الرايخ الثالث لمطاردة الأفيال، فسيتعين عليه التباهي بأنه «قضى على أكبر الأفيال في العالم، بأعداد لا يمكن تصورها، بأفضل سلاح على وجه الأرض». لكن كل الكذب والمبالغة في النهاية سيصل إلى النقطة التي تصبح في تلك اللغة «بلا معنى وغير فعالة تمامًا، مما يؤدي في النهاية إلى الإيمان بعكس ما هو مقصود».
بعبارات أخرى: يجري السياسيون خدعة أورويل «الحرب هي السلام»، «الحرية هي العبودية»، «الجهل قوة» باستخدام الكلمات لتعني عكس ما تعنيه حقًا.
في اللغة الجديدة لأورويل، كلمة مثل «بلاك وايت» لها «معنيان متناقضان بشكل متبادل»: «عند تطبيقها على الخصم، فهي تعني عادة الادعاء بوقاحة أن الأسود أبيض، بما يتعارض مع الحقائق الواضحة. إذا تم تطبيقه على عضو في الحزب، فهذا يعني استعدادًا مخلصًا للقول إن الأسود أبيض عندما يتطلب الانضباط الحزبي ذلك».
حتى أن رئيس مثل بوتين يلعب باللغة، أي يكذب كعادة أي سياسي، لذلك تكمن قوة بوتين في قدرته على قول ما يريد، عندما يريد، بغض النظر عن الحقائق. فهو رئيس بلاده وملك الواقع.
في كثير من الأحيان بالنسبة لهؤلاء يجب تغيير الحقائق. وبالتالي تتم إعادة كتابة التاريخ باستمرار. وكلما جاءت قيادة جديدة تحتم عليها تغيير اللغة، وتغييرها يعني تغيير الحقائق، بعبارة أورويل «تحديث اللغة لتعكس نهج القيادة الجديدة».