دائماً ما يقول لنا البعض بموتهم ما لم نسمعه منهم طوال حياتهم، يفاجئنا خبر الوفاة مصحوباً بمقالةٍ كبيرةٍ كانوا يقصونها علينا في كل وقت، لكننا لم ننتبه لها في وقتها، كنا “وِدن من طين وودن من عجين”، حتى إذا صُعقت الأذن بمنادي الوفاة انتبهنا، فوجدنا الرجل ساقطاً وفي يده الورقة التي كتب لنا فيها كل ما كان يقوله.
حاتم علي، كان من هؤلاء، ذلك المخرِج المَخرج، قارب النجاة من عتمة نكبتنا الكبرى، المسعِف المنقذ لجراحنا في نكستنا ووكستنا، الجرَّاح الذي يفتح القلب ويستأصل الأورام ويبتر الأوصال، ليعيش ما هو أهم من هذه القطع المتآكلة، الذي فتح لنا جراحاً كدنا ننساها، كنا على وشك تغطيتها وصلاة الجنازة عليها، لكن فقيدتنا لم تكُن لتموت، لا يجب أن تموت، هذا ليس حادث وفاة طبيعية، وإنما حادث قتل مرتب جيداً، عملية اغتيال منفذة ببراعة، ولِذا جاء حاتم غاضباً من أقصى الأفق، يجري، يرفع الغطاء عن فقيدتنا، يجري لها التنفس الصناعي، يحاول أن يعيد لها الحياة، وبَّخ المصطفّين للجنازة، وأمرهم أن يردموا حفرة المقبرة.
حاتم لم يكُن يجيد ذلك، لم يكُن يجيد الموت، كان حيّاً يرد إلى الناس الحياة، كان يمنحهم من عمره أعمارهم، كان يهبهم سنواته، يقول لهذه خذي عاماً قابلاً للتجديد، ويقول لذلك خذ عامين أو أكثر، كانت الساعات التي نشاهد فيها أعماله، تأخذ منه سنوات، وكانت الساعات التي نستمع له فيها، تمنحنا عمراً على بياض.
التغريبة.. رُشدي يجري- أقصد حاتم -، يجري مسرعاً، تتردد أنفاسه بصوتٍ مرتفعٍ داخل صدره، لكنه ما زال يجري، لا يبرح غايته، يراوح وسيلته، يقصد مكانه الذي حفظه، وحفظ فيه قضيته، يصل إلى الكهف المختبئ بعيداً عن العالم، يزيح الأحجار عن سرٍّ مدفون هنا، يظهر الخيش ملوفاً حول سره الذي يكشفه لنا الآن، إنها البندقية، التي كانت له إرثه الوحيد، وهي في الوقت ذاته ثروته الوحيدة.
يروي لنا حاتم القصة كاملة في كل مرة، يصوّر لنا العالم من زاويته التي لا تخطئ أبداً، وُلد حاتم حين وُلد ليجد نفسه حارساً على الذاكرة، كان العدو قد قصف الورَش كلها، فلم يستطِع الرجال أن يصنعوا من الرصاص إلا أقلاماً، قلّدوا حاتماً أحدها، ومضوْا، لكنه بقي يبحث ليعرف القصة، جمع خيوطها، وأعطاها لنا محبوكةً ببراعة، وصنع لنا- في ورشةٍ خاصة- من قلمه الرصاص رصاصات، وقال لنا أين الهدف؟
كنتُ في العاشرة من عمري ربما، حين اعتمدت على “ربيع قرطبة” كمصدر أساسي للغة، أتذوقها في ألسنة أبطاله، وأتوق إلى الأندلس من خلال كل شيء في المسلسل، كنتُ أنا المسلسلَ بهذه الحكايات، كنتُ بطل هذه القصص، لأن هؤلاء كانوا يمثلون، وأنا الوحيد الذي كنتُ في عالمٍ واقعي، يمكن لي أن أحرّك شيئاً، وهذا مما أجاده حاتم أيضا، أن يجعلك البطل، يروي لك القصة، يناولك السلاح، يشير لك نحو الهدف، ويقول تفضل.
ثلاثية الأندلس كانت نموذجاً خالصاً للجمال، كانت في فسحةٍ من الوقت والمكان، ولم يجد حاتم من ينتج له “سقوط غرناطة، ليكون المتمم لما كان في الأندلس، ولعل أحداً لم يلتفت له، خشيةَ أن تُجيّش المشاعر بعد كل حلقةٍ لإعادة فتح بلادنا التي هناك، لعل أحداً ما أراد لذلك أن لا يخرج للنور.
صلاح الدين الأيوبي لم يكن شخصية قدمها حاتم في مسلسل، وإنما شعرنا أن المخرج نفسه هو صلاح الدين الأيوبي، يحدثنا بصدقٍ عن نفسه، يكلمنا بذاتيةٍ عن الذي عاشه، يروي لنا كل شيء دون أن يحرمنا أجزاء من القصة، وكذلك كان كل ما قدمه حاتم علي.
الأسطورة “عُمر”، ولا أتخيل إنساناً في الدنيا سيقدم عملاً بذلك الإتقان، بتلك الجودة، بهذا الإبداع، من فينا لم يتخيل عمر الحقيقي في مسلسل عمر الذي قدمه حاتم علي؟ من فينا لم يشاهده أكثر من مرة؟ من فينا لم يشعر بأنه جالس بين الصحابة يتابع حديثهم؟ يتحيز لهذا تارة ويتحيز لذاك تارةً أخرى، حاتم الذي فعلها، حاتم الذي أبدع ما أبدع، فلم يدع مجالاً لغيره أن يغير ذرةً واحدةً في الثوابت التي أرساها. في عمر، كنتُ أشم الغبار حولي، كنتُ أسمع صليل السيوف في أذني لا من سماعة التلفاز، كنت أشعر بقرع الطبول وبصوت حوافر الخيول، لم يخبرني المخرِج بذلك في حلقاته، وإنما أخذني من البداية، من اللحظة الأولى، إلى هناك، ليس إلى موقع التصوير، وإنما إلى الحدث نفسه، إلى المكان والزمان.
كانت رسالة الرجل قوية في كل اتجاه، يثبت بالدليل العملي القاطع لصناع السينما والتلفزيون، كيف يمكن للرجل أن يعيش كريماً ويموت كريمًا، ليس مبتذلاً في حماقات وليس غارقاً في أفخاذ الممثلات حتى عنقه، وليس مدمناً يشمشم على المخدرات في كل عمل، ولا يشترط أن يقدم للناس وجباتٍ ساخنةٍ من مشاهد جريئة، ليجذب المشاهد الرخيص إلى أفلامه، وإنما كان رجلاً، وكان محترماً، وكان صاحب قضية، ولم يجتمع في غيره إلا نادراً مجامع تلك الصفات.
وكانت رسالته قوية أيضاً، لضيّقي الأفق الذين يسفّهون من السينما والدراما، للذين يحاربونها كلية ويقولون انصرفوا إلى ما هو أهم، ولم يكونوا يعلمون أن رجلاً واحداً كان قادراً بكاميرا وسيناريو، أن يُجيّش آلافاً فشلوا هم في حشدهم دائماً.
لم يمت حاتم علي، مثلما لم يمت غسان كنفاني، ولم يمت محمود درويش، ولم يمت ناجي العلي، ولم يمت أي رجلٍ أضرم النار في التوابيت، وأحرق الأكفان، وقال للناس: قوموا، لن تموتوا لمجرد أنهم حفروا لكم المقابر.
الكاتب : يوسف الدموكي