نجحت الصين أخيرًا في تشغيل مفاعل الاندماج النووي «الشمس الاصطناعية» لأول مرة، فيما يمثل تقدمًا كبيرًا في قدرات أبحاث الطاقة النووية في البلاد. هذا المفاعل هو أكبر جهاز بحثي تجريبي للاندماج النووي في العالم الآن، ويأمل العلماء في أن يفتح مصدرًا قويًا للطاقة النظيفة.
حتى الآن يبدو هذا خبرًا عاديًا، ربما لا يثير انتباه أحدٍ، إلا المتخصصين في هذا الشأن، لكن ما يخفيه هذا الخبر هو طبيعة هذا المفاعل الاندماجي وإمكانية وجوده على الأرض، يكفي أن تعرف أن مقدار الحرارة المتولدة في هذا المفاعل تصل إلى 10 أضعاف حرارة مركز الشمس.
ربما يبدو لك الأمر صعب التخيل، ولكن هل سبق لك وشاهدت الجزء الثاني من سلسلة أفلام الرجل العنكبوت (Spider-Man 2)؟ في هذا الفيلم حاول عالم عبقري يدعى أوتو أوكتافيوس الذي يحلم بإحداث تفاعلات اندماج نووي ليتمكن من الاستفادة من طاقتها المتجددة، وبالفعل يتمكن من إحداث هذا التفاعل لتنتج منه شمس صغيرة بحرارة عالية جدًا. الأمر هنا مشابه، لكن الفرق أن الشمس المتكونة توجد داخل مفاعل مغلق، وليست شمسًا في الهواء الطلق كما ظهر في الفيلم.
يستخدم المفاعل مجالًا مغناطيسيًا قويًا لدمج البلازما الساخنة، ويمكن أن تصل درجات الحرارة فيه إلى أكثر من 150 مليون درجة مئوية، وهي أعلى بنحو 10 مرات من حرارة مركز الشمس. ربما عليك أن تتخيل وجود 10 شموس فعلية على سطح الأرض، وهو ما يثير التساؤلات حول كيفية التحكم بها، وما هي هذه التكنولوجيا بالضبط؟ وما فوائدها المتوقعة؟
مفاعل الاندماج النووي الصيني
يقع هذا المفاعل في مقاطعة سيتشوان جنوب غرب الصين، وبُني في أواخر العام الماضي، وغالبًا ما يُطلق عليه اسم «الشمس الاصطناعية»، بسبب الحرارة الهائلة والطاقة التي ينتجها. وبحسب وسائل الإعلام الصينية، فتطوير طاقة الاندماج النووي ليس فقط وسيلة لتلبية احتياجات الصين الاستراتيجية من الطاقة، ولكنه أيضًا له أهمية كبيرة للتنمية المستدامة المستقبلية للطاقة، والاقتصاد الوطني في الصين
ويعمل العلماء الصينيون على تطوير نسخ أصغر من مفاعل الاندماج النووي منذ عام 2006. يخطط هؤلاء العلماء لاستخدام الجهاز بالتعاون مع العلماء العاملين في المفاعل النووي الحراري التجريبي الدولي، أكبر مشروع بحثي للاندماج النووي في العالم مقره في فرنسا، ومن المتوقع أن يكتمل في عام 2025.
الاندماج النووي.. الطاقة الشمسية
يعد الاندماج «الكأس المقدسة» للطاقة، وهو ما يمد شمسنا بالطاقة. بكلمات أخرى، فإنه إذا كانت الشمس هي مصدر كل الطاقة الموجودة على كوكب الأرض، كما درسنا وكما اتفق كل العلماء، فإن الاندماج النووي هو المصدر الرئيس والوحيد لطاقة الشمس التي تصلنا، والتي تغذي كل كواكب المجموعة الشمسية.
في نهايات الحرب العالمية الثانية، تمكنت الولايات المتحدة من إنتاج أول قنبلة نووية في التاريخ؛ هذه القنبلة تعتمد على تكنولوجيا الانشطار النووي، والانشطار النووي هو انقسام نواة ذرة كبيرة إلى نوى أصغر. في المفاعل النووي الانشطاري، يطلق نيوترون على نواة الذرة (عادةً اليورانيوم 235)، وهو ما يتسبب في تحول نواة اليورانيوم 235 إلى يورانيوم 236، وهو غير مستقر بشدة. تنقسم النواة بأكملها إلى جزأين كبيرين وتنطلق نيوترونات وطاقة هائلة الحجم.
في القنابل النووية لا يريد العلماء السيطرة على هذه الطاقة، وهو ما يتسبب في دمار هائل، لكن في المفاعلات النووية، استطاع العلماء التحكم في الطاقة الناتجة وتحويلها إلى طاقة كهربائية لتغذية المدن والمصانع بالطاقة. هذا التحكم هو ما أنشأ لنا ذلك المصطلح الذي نسمعه كثيرًا في وسائل الإعلام «الاستخدامات السلمية للطاقة النووية».
بعد إلقاء الولايات المتحدة لأول قنبلة نووية انشطارية عام 1945 على اليابان، استطاعت الوصول إلى نوع مختلف من القنابل النووية. بعد سبع سنوات فقط، أطلقت الولايات المتحدة أول قنبلة اندماجية في التاريخ، وذلك بعدما اكتشف العلماء أن الاندماج النووي يولد طاقة أكبر بكثير من طاقة الانشطار النووي.
الاندماج النووي هو تفاعل تُدمج فيه نواتان أو أكثر لتشكيل نواة ذرية مختلفة أكبر، بالإضافة إلى جزيئات دون ذرية مختلفة (نيوترونات أو بروتونات). كتلة النواة الناتجة تكون أقل من أنوية الذرات المندمجة، وهذا الفرق يتحول إلى طاقة هائلة. هذه التفاعلات هي التي تحدث في الشمس؛ إذ تندمج ذرات الهيدروجين لتكوين ذرات هيليوم، وغيرها من تفاعلات الاندماج.
الميزة هنا هي أن تفاعلات الاندماج لا ينتج منها أي غازات دفيئة، وينطوي عليها أخطار أقل للحوادث أو سرقة المواد الذرية. لكن في الوقت ذاته فإن تحقيق الاندماج أمر صعب للغاية ومكلف للغاية؛ إذ تقدر التكلفة الإجمالية للمفاعل النووي الحراري التجريبي بنحو 22.5 مليار دولار أمريكي.
قصة تكوين الشمس على الأرض
محاولات الوصول إلى «شمس مصغرة» على كوكب الأرض تمتد لسنوات مضت. في عام 2016، كانت هناك تجارب ألمانية وصينية للوصول إلى هذه الشمس النووية. المحاولات الأولى جابهتها كثير من المشكلات التي تتعلق بإمكانية الحصول على بلازما مستقرة لفترة طويلة. التجربة الألمانية تمكنت من توليد البلازما لمدة ثانية واحدة، وفي العام نفسه تمكن الصينيون من توليد البلازما لمدة 102 ثانية. كانت المشكلة دائمًا هي السيطرة على البلازما من خلال المجالات المغناطيسية بحيث لا تلمس هذه البلازما جدران المفاعل.
السبق هنا جاء على أيدي البريطانيين، الذين تمكنوا من الوصول إلى «البلازما الأولى المستقرة»، داخل قلب المفاعل بشكل دائم. وتنتج البلازما نتيجة تسخين الغازات إلى درجات عالية جدًّا (الهيدروجين في هذه الحالة) فتتحول إلى غاز متأيِّن، تكون فيه الإلكترونات حرة وغير مرتبطة بالذرات أو الجزيئات. وتوجد البلازما كثيرًا حولنا مثل البرق وما يسببه من تأين الهواء، تشكل البلازما نسبة 99% من المادة الكونية في النجوم والمجرات من حيث الكتلة والحجم.
فوائد أكبر بآثار جانبية أقل
يجب أن نعلم أن الطاقة الناتجة من الاندماج النووي هي أضعاف طاقة الانشطار النووي، وبالتالي فإن توليد الطاقة عبر الاندماج أفضل بكثير من حيث كمية الطاقة المتولدة من استخدام المفاعلات النووية الانشطارية التقليدية، والمستخدمة حاليًا حول العالم في توليد الطاقة. ليس هذا فحسب، ولكن إحدى أهم مميزات الاندماج النووي هو عدم وجود نفايات نووية خطيرة بالمقارنة مع نواتج الانشطار النووي ونفاياته السامة، والتي تمثل عبئًا في التخلص منها والاضطرار إلى دفنها في مناطق نائية.
أضف إلى هذا أن وقود الاندماج النووي متوفر بشكل كبير حولنا، فكميات كبيرة من غازَي الهيدروجين والهيليوم، توجد بشكل طبيعي حولنا في كل مكان، وهي أشهر وأكثر المواد استخدامًا في التفاعلات الاندماجية، والأقل احتياجًا للطاقة، وذلك لوجود بروتون واحد أو اثنين في النواة؛ مما يجعل طاقة التنافر أقل. لكن الوقود المستخدم في المفاعلات الانشطارية هو البلوتونيوم واليورانيوم، وهما من المواد شديدة الندرة في الطبيعة.