أنا هنا عالق بين حياتين، الأولى فاتني قطارها، والثانية لم تمنحني صك دخولها» بهذه الكلمات وصف محمد العايدي (اسم مستعار)، وهو شاب أربعيني من محافظة المنوفية، معاناته في أوروبا، بعد أن فاتته جميع المناسبات العائلية في مصر، حيث يعيش في النمسا بدون تصريح إقامة منذ ثماني سنوات، مع عدم قدرته على الاندماج في المجتمع الجديد.
حالة العايدي، الذي لم ير أهله منذ ثماني سنوات تغيرت فيها الكثير إذ توفيت الأم وتزوجت الأخت ثم أنجبت ودخل نجل الأخ الأكبر الجامعة، تتكرر مع مئات المصريين الذين يعيشون معاناة حقيقية في الدول الأوروبية، بحثًا عن إقامة شرعية.
وفي المتوسط، يصل أوروبا مئات المصريين سنويًا، بشكل غير شرعي، بحثًا عن حياة جديدة، أو فرصة عمل لم يجدوها في وطنهم، أو سعيًا وراء الصورة النمطية للحياة الأوروبية الرغدة والحرة، لكنهم يصطدمون بواقع أليم في أحيان كثيرة يسرق أعمارهم، ويفرغ حيواتهم من مضمونها.
الهجرة لأوروبا.. سنوات الذروة والتراجع
في عامي 2015 و2016، بلغ عدد المصريين الذين وصلوا أوروبا بشكل غير شرعي، ذروته، ووصل إلى 7 آلاف و12 ألفًا على الترتيب، أغلبهم عن طريق البحر المتوسط، في ذروة موجة هجرة غير شرعية ضربت أوروبا وأغرقتها بمليون مهاجر، وفق ما ذكره أحد العاملين فى المنظمة الدولية للهجرة في مصر في ديسمبر 2016.
وبداية من 2017، تراجع عدد المصريين العابرين للبحر المتوسط بشكل غير شرعي بشكل كبير، حتى وصل إلى صفر في 2018، و2019، نتيجة لحملة أمنية شنتها الداخلية المصرية ضد مهربي المهاجرين، وفي يونيو الماضي، قال وزير الداخلية المصري، اللواء محمود توفيق، أن أجهزة الأمن في بلاده نجحت في القضاء على ظاهرة الهجرة غير الشرعية بعدما تم تنفيذ استراتيجية أمنية متكاملة.
وأوضح توفيق في تصريحات صحفية إن الاستراتيجية شملت اتخاذ إجراءات استباقية لمكافحة الجريمة المنظمة في شتى صورها، ومن بينها الهجرة غير الشرعية حيث وجهت لها ضربات أمنية مركزة استهدفت القائمين على هذا النشاط بالمحافظات الحدودية.
وفي سبتمبر الماضي، قالت السفيرة نائلة جبر، رئيس اللجنة الوطنية التنسيقية لمكافحة ومنع الهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر، إنه منذ ثلاث سنوات لم يتحرك مركب واحد محمل بمهاجرين غير شرعيين، من الموانئ المصرية.
بدوره، أثنى الاتحاد الأوروبي على نجاح مصر في مجال مكافحة الهجرة غير النظامية، حيث قال المستشار النمساوي السابق سبستيان كورتس، إبان رئاسة بلاده الدورية للاتحاد الأوروبي، في سبتمبر في تصريحات صحفية: «يجب استغلال الفرصة وبدء تعاون وثيق مع مصر في مكافحة الهجرة غير النظامية».
وتابع: «مصر منعت الهجرة غير النظامية من سواحلها، والآن هناك فرصة سانحة للتعاون في هذا الإطار مع هذا البلد، ويجب استغلالها»، ووفق تصريحات كورتس، تستند رغبة الاتحاد الأوروبي في التعاون مع مصر في هذا المجال، إلى نجاح الأخيرة في منع خروج أي مهاجر غير نظامي من سواحلها باتجاه أوروبا خلال 2018.
وأكدت المتحدثة باسم وكالة حماية الحدود الأوروبية «فرونتيكس»، إيزابيلا فيفور، هذه الإحصائية، حيث قالت: «لم نسجل حالة عبور واحدة للبحر المتوسط انطلاقًا من السواحل المصرية خلال 2018، فيما سجلنا 95 ألف حالة عبور للمتوسط من قبل مهاجرين غير نظاميين من السواحل الليبية والمغربية في الفترة ذاتها».
وخلال العامين الماضين، تمثل طريق المهاجرين الوحيد للوصول لأوروبا، في الحصول على تأشيرة دخول للاتحاد الأوروبي بغرض السياحة، ثم الإقامة بشكل غير قانوني أو تقديم طلبات لجوء، وبصفة عامة، يقصد أغلب المهاجرين المصريين، الدول الأوروبية صاحبة الاقتصاديات القوية، وفي مقدمتها ألمانيا والنمسا.
وفي ألمانيا، على سبيل المثال، قدم 5166 مصريًّا طلبات لجوء في 2016 مقارنة بـ1077 في 2015، و1057 في 2017، و807 في 2018، و268 في 2019 (وفق بيانات حصلنا عليها من الداخلية الألمانية)، أي أن ما يقرب من نصف المصريين الذين وصلوا أوروبا في 2016، قدموا طلبات لجوء في ألمانيا وحدها، و14% في 2015. فيما لا تتوفر أرقام إجمالية عن عدد المهاجرين المصريين الذين وصلوا أوروبا في 2018 و2017 و2019.
وفي النمسا، قدم 107 مصريين طلبات لجوء في 2018، مقارنة بـ146 في 2017، و213 في 2016، و45 في 2019 ، وفق ما حصلنا عليه من الداخلية النمساوية، أما في إيطاليا، فتقدر السلطات عدد المصريين الذين وصلوا البلاد بشكل غير شرعي في 2019 بـ113 شخصًا. فيما لم تنشر إحصاءات عن السنوات من 2015 إلى 2018.
لماذا يهاجر المصريون؟
يقول محمد العايدي، وهو خريج كلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر، إن ضيق الحال في مصر، وفشله في الحصول على فرصة عمل مناسبة، وتنقله في أعمال لا تليق بمستواه التعليمي بينها العمل في المطاعم، كانوا سبب بحثه عن الهجرة. ويتابع «تمكنت من التواصل مع مهربي المهاجرين، وأمنت لنفسي رحلة لأوروبا مقابل 100 ألف جنيه في عام 2010».
ويمضي قائلًا «مسار الرحلة كان معقدًا، حيث سافرت لرومانيا جوا، ومن هناك بدأت رحلة التهريب، حيث قضيت المسافة من بوخارست حتى فيينا مختفيًا تحت أحد أسرة النوم»، ويستطرد «في لحظة دخول الشرطة لتفتيش المكان، كنت أشعر بخوف لم أشعر بمثله في حياتي، وشعرت لوهلة أنهم سيكشفون أمري، لكنهم لم يبحثوا بشكل مدقق، ونجوت ونجحت في الوصول للنمسا».
أما عبد الله رفض ذكر اسمه الثاني، الشاب الذي بلغ عامه العشرين مؤخرًا، فيقول إنه خرج من مصر طفلًا لم يبلغ الـ15 من العمر، بحثًا عن بناء منزل وتأمين حياة كريمة لأبويه وعائلته، ويتابع خرجت ذات يوم في 2014، بدعوى عن عمل في الإسكندرية، ومن هناك ركبت سفينة صيد صغيرة باتجاه إيطاليا، ويضيف لم يكن أبي يعلم بأمر الرحلة، ودبرتها بمساعدة أحد الأشخاص من عائلة والدتي يقيم في نابولي جنوب إيطاليا
ويضيف «في قريتي، بمحافظة المنوفية، هناك أمثلة عديدة لشبان سافروا لأوروبا ونجحوا في بناء منازل وتحقيق ثراء سريع، لذلك كان السفر لأوروبا هدف أساسي بالنسبة لي حتى لو جاء على حساب الدراسة
أحمد حسين (اسم مستعار) البالغ من العمر 27 عامًا، وهو حاصل على بكالوريوس تجارة من جامعة طنطا، خرج من مصر في 2015، بحثًا عن فرصة عمل تؤمن دخل يكفي عائلة بأكملها، ويقول كانت أوضاعنا المادية سيئة جدًا، فقررت السفر واقترضت بعض المال، وسددته لأحد المهربين
ويتابع سافرت جوًّا لروسيا بجواز سفري المصري، وهناك تسلمت من المهربين جواز سفر يوناني مزيف سافرت به لفيينا، لكن الشرطة اكتشفت الأمر، ويضيف لم ينقذني إلا أنني تقدمت بطلب لجوء في المطار بعد أن كانت السلطات على وشك ترحيلي لمصر بعد أن أبلغتهم بهويتي الحقيقية
ويستطرد عشت الأربع سنوات الماضية طالبًا اللجوء، وحصلت على فرصة عمل وتمكنت من تحقيق أهدافي المتمثلة في بناء منزل لعائلتي وإتمام زيجة أختي . فيما جاء الدكتور علي (اسم مستعار)، كما يناديه المصريون في الحي العاشر في فيينا، إلى النمسا، بحثًا عن تأمين حياة جديدة في أوروبا لعائلته.
الدكتور علي 40 عامًا، وهو متخصص في طب الأسنان، جاء لفيينا لحضور مؤتمر علمي، وتخلف عن العودة، وتقدم بطلب لجوء، لكن أهدافه مختلفة، فهو يبحث عن نجاح علمي وممارسة مهنته في أعلى مستوى ممكن، ونقل أولاده للحياة في فيينا، حيث التعليم الجيد.
ومعددًا أسباب لجوء المصريين للهجرة غير الشرعية، قال نور خليل اسم مستعار أيضاّ، الباحث المتخصص في الهجرة غير الشرعية، في تصريحات سابقة لصحيفة بيلد الألمانية الخاصة «سيواصل الناس الهجرة لأوروبا»، مضيفًا «الأوضاع الاقتصادية المتردية، وإغلاق المجال العام، وغياب الأمل هي الأسباب الأساسية لهجرة الكثير من المصريين».
تصريح الإقامة.. معاناة لا تنتهي
الوصول لأوروبا ليس النهاية السعيدة للرحلة كما يتصور المرء قبل أن يحزم حقائبه وينوي السفر، وإنما باب لمعاناة جديدة هي الحصول على الإقامة الشرعية. وفي حالات عدة، قضى مصريون سنوات طويلة عالقين في البلدان الأوروبية بلا تصريحات إقامة ولا فرص للعودة للوطن.
وفي هذا الإطار، يقول محمد العايدي أسعى خلف الإقامة الشرعية منذ ثماني سنوات بلا جدوى، ويتابع «تعرضت لعمليات نصب مرتين خسرت فيهما ما يربو على 15 ألف يورو ما يقرب من 270 ألف جنيه مصري، ويوضح أوهمني البعض مرتين بأنهم سيوفرون لي زوجة أوروبية أستطيع التقديم على تصريح الإقامة بوثيقة زواجي منها، وتقاضوا مني 10 آلاف و5 آلاف يورو على الترتيب، ولم يلتزموا بوعودهم وضاع مالي. ويمضى قائلًا: كما رفضت السلطات طلب لجوئي، وما يحول بينهم وبين ترحيلي هو عدم امتلاكي وثيقة سفر، حيث مزقت جواز سفري عند وصولي النمسا في 2010
عبد الله، يبدو حالة مختلفة، إذ يمنح القانون الإيطالي، المهاجرين القصر تصريح إقامة وفرصة لدخول المدرسة، وبالفعل حصل عند وصوله لإيطاليا على تصريح إقامة، لكنه لم يواظب على الدراسة، والتفت للعمل، حتى أوقفت السلطات تصريح إقامته، ويعيش في وضع غير قانوني حاليًا بلا هوية.
أما أحمد حسين، ففشلت كل محاولاته في الزواج من امرأة أوروبية، ورفضت السلطات طلب لجوئه أيضًا، ويقول «هناك تسعيرة للزواج من أوروبية في فيينا، تصل إلى 10 آلاف يورو تحصل عليها المرأة والوسيط مناصفة»، ويضيف «لا أستطيع تدبير هذا المبلغ، لأني مرتبط بالتزامات مالية في مصر، لذلك أعيش بلا إقامة أو هوية حاليًّا إلى أن يرسل الله حلًا».
وفي مدينة جراتس النمساوية، يعيش عماد (اسم مستعار) 35 عامًا في قلق بالغ بعد رفض طلب لجوئه ثم رفض طعن قدمه على القرار، ويقول جئت للنمسا في يناير 2017 بتأشيرة سياحة، ولم أعد منذ ذلك الحين، ويضيف تقدمت بطلب لجوء ورفض، ثم طعن على القرار ورفض، وأعيش الآن في قلق بالغ من الترحيل.
ويمضي قائلًا «لا أريد العودة.. أنا هنا قادر على إرسال احتياجات أسرتي المادية شهريًا، وأحلم بإقامة شرعية وجلب أسرتي إلى هنا»، وبصفة عامة، تراجع عدد المهاجرين الذين عبروا الحدود الأوروبية بشكل غير شرعي في 2018، وهو أحدث عام تتوفر فيه إحصاءات شاملة عن المهاجرين لأوروبا، مقارنة بالأعوام التي سبقته. وقالت وكالة الحدود الأوروبية في بيان قبل أشهر إنها سجلت دخول 150 ألف شخص الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بشكل غير شرعي في 2018، وهو أقل عدد يصل لهذه الدول في آخر خمس سنوات، وأقل بكثير من عام 2015 الذي شهد دخول مليون لاجئ أراضي التكتل.