في سبتمبر من العام 2018، أطلق الأمين العام للجمهوريين في فرنسا فابيان دي فيليبو لقب “الرئيس روتشيلد” على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وهو ما اعتبره فرانسيس، أحد قادة الجالية اليهودية الفرنسية “مثيراً للاشمئزاز”.
لماذا أدلى السياسي الجمهوري بهذا التصريح الذي وصل إلى حد اتهامه بمعاداة السامية، وهل لفرع عائلة روتشيلد اليهودية في فرنسا يد في إيصال ماكرون إلى قصر الإليزيه؟
تاريخ الصلة بين ماكرون وعائلة روتشيلد يعود إلى العام 2008، عندما تم تعيين ماكرون في إحدى مؤسسات روتشيلد بعد عام من زواجه من السيدة الأولى بريجيت ماكرون.
في ذروة الأزمة المالية، كلفت شركة Rothschild & Cie أحد المصرفيين المخضرمين بتدريب وتهيئة موظف جديد يُدعى إيمانويل ماكرون.
لم يكن للسيد ماكرون خبرة في العمل المصرفي، بل كان لديه علاقات نافذة أوصلته لروتشيلد بصفته “دانسور موندين” ما معناه حرفياً “راقص من المجتمع الراقي” يمكنه حشد الأعمال حسب ما نشرت صحيفة Wall Street Journa
ويتذكر سيريل حرفوش، المصرفي المخضرم الذي تم تعيينه لتدريب ماكرون: “تم تصنيفه على أنه شخص فريد جداً ولديه الكثير من الاتصالات”.
وبحلول الوقت الذي غادر فيه السيد ماكرون روتشيلد بعد أربع سنوات، كان قد تفاوض على صفقة بمليارات الدولارات وأصبح أحد أصغر شركائها على الإطلاق.
اتبعت مهنة ماكرون المصرفية كتاب قواعد اللعبة الذي أدى في نهاية المطاف إلى قلب النظام السياسي رأساً على عقب ووضع الرئاسة الفرنسية في متناول يده.
كوّن ماكرون صداقات في المجتمع الفرنسي الثري، واكتسب ذخيرة من المهارات، من البيانو والفلسفة إلى التمثيل والتمويل، ساعدت في إثارة إعجاب داعميه ومرشديه المستقبليين.
سمح هذا النهج لماكرون باختصار المسار السياسي التقليدي.
وبدلاً من الترشح لمنصب في مسقط رأسه، وبناء دائرة انتخابية تدريجياً، انتقل مباشرة إلى باريس، حيث أصبح خبيراً في الأعمال المصرفية والتكنوقراطية الأوروبية، مما جعله مساعداً قيِّماً للسياسيين الذين يتعرضون للخداع بسبب تعقيد الاتحاد الأوروبي وتقلبات الأسواق العالمية.
كيف تم تدريب ماكرون في مؤسسة روتشيلد؟
بعدما تخرج كأحد الأوائل على دفعته الجامعية، حصل ماكرون على منصب في المفتشية العامة للمالية، وهي هيئة مدققي حسابات حكومية تعمل كمرحلة نهائية للتخرج.
عمل ماكرون على تقوية صداقاته بزملائه الخريجين، نذكر منهم رجل الأعمال الثري آلان مينك ورئيس الوزراء السابق ميشيل روكار.
تتذكر إحدى الخريجات أنها في لقائها الأول مع ماكرون سألته أين رأى نفسه بعد 30 عاماً، فأجاب “رئيس الجمهورية” على حد زعمها.
لكن ماكرون تذكر المحادثة بشكل مختلف، حيث قال ببساطة إنه منفتح على مهنة في السياسة.
نصحت الخريجة ماكرون بتجنب السياسة التقليدية، قائلة إنها لا تضمن له الأمن المالي، وساعدت في ترتيب وظيفة له في بنك روتشيلد الاستثماري، والذي يشكل جسراً بين عالم المال والسياسة في فرنسا.
أثناء عمله في دائرة التفتيش، عمل ماكرون كمساعد للجنة الاقتصادية من كبار الشخصيات التي تضمنت رئيس شركة نستله بيتر برابيك-ليتمات. بدأ ماكرون اجتماعاته مع المدير التنفيذي بانتظام، وعرض هدف الاستحواذ: شركة أغذية أطفال تابعة لشركة Pfizer Inc.
أقنع ماكرون شركة نستله بالاستحواذ كطريقة لتعزيز وجودها في الصين، أحد أسواق أغذية الأطفال القليلة التي لم تكن الشركة السويسرية رائدة فيها.
وعندما اندلعت حرب مزايدة مع شركة دانون الفرنسية المنافسة، سارع ماكرون لانتزاع صفقة نستله البالغة 11.8 مليار دولار.
جعلت هذه الصفقة من ماكرون شريكاً في شركة روتشيلد، كما جعلته مستشاراً مطلوباً في الأوساط السياسية الفرنسية، بما في ذلك فرنسوا هولاند، زعيم الحزب الاشتراكي الذي كان يترشح ضد الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي.
كيف انتقل ماكرون إلى الدوائر السياسية؟
عين هولاند ماكرون كمساعد، وأرسله لطمأنة المستثمرين ورجال الأعمال القلقين بشأن خطة المرشح لفرض ضريبة بنسبة 75% على الدخل الذي يزيد عن مليون يورو.
وبعد فوزه بالرئاسة في عام 2012، أحضر هولاند ماكرون إلى قصر الإليزيه كنائب لكبار مساعديه.
وعندما هدد قادة الأعمال بمغادرة فرنسا، بسبب السياسة الضريبية الجديدة، حذر ماكرون رئيسه في رسالة بريد إلكتروني من أنه يخاطر بتحويل فرنسا إلى “كوبا بدون شمس”.
رضخ هولاند، مقلصاً خطته الضريبية المثيرة للجدل وأدخل بعض التخفيضات الضريبية على الشركات التي أطلق عليها اسم “ميثاق المسؤولية”.
عزز هذا المنعطف سمعة مستشاره المؤيد للأعمال والذين تدفقوا إلى جانب السيد ماكرون.
كان من بينهم جيرار كولومب، عضو مجلس الشيوخ وعمدة ليون.
يقول كولومب للصحيفة: “كنت قلقاً تماماً بشأن سياسات السيد هولاند لذلك تناول [السيد. ماكرون] العشاء معي ومع بعض المشرعين في محاولة لتهدئة الأمور”.
وتبع ذلك تدخلات أخرى، عندما حاول وزير الاقتصاد اليساري بقيادة هولاند، أرنو مونتبورغ، إفشال محاولة شراكة شركة جنرال إلكتريك لشركة ألستوم إس إيه، فتدخل ماكرون من جديد وتوسط في صفقة قيمتها 17 مليار دولار.
في العام 2014 استقال ماكرون من منصبه ليؤسس شركته الخاصة، ولكن بعدما أقال هولاند وزير الاقتصاد لمعارضته تخفيض النفقات، عرض المنصب على ماكرون فقبل.
عارض هولاند بعض المقترحات التي تقدم بها ماكرون متخوفاً من المعارضة الشعبية بعدما اندلعت عدة احتجاجات في فرنسا على مقترحات اقتصادية تقدمت بها حكومة هولاند، الأمر الذي خلق جليداً بين الرجلين.
في الأشهر التي تلت ذلك، اجتمع ماكرون مع أسماء عريقة من الحزب الاشتراكي للتخطيط للترشح للرئاسة.
فبدون دعم حزب عريق، سيحتاج إلى الاستفادة من جهات اتصاله في عالم الأعمال. وهذا يعني اتخاذ خطوة غير عادية في السياسة الفرنسية باستضافة حفلات عشاء خاصة لجمع التبرعات، ودعوة الأشخاص الذين لديهم شبكات خاصة بهم من المانحين المحتملين.
بعد ذلك، أسس ماكرون حزبه السياسي، En Marche، أو “إلى الأمام”، مما أدى إلى إصابة قاتلة لفرص إعادة انتخاب هولاند.
وقال هولاند في مقابلة تلفزيونية آنذاك “إنها مسألة ولاء شخصي وسياسي.. إنها ليست مجرد مسألة تسلسل هرمي، هو يعرف ما يدين لي به”.
بعد أيام أعلن السيد ماكرون الانقلاب في مقابلة صحفية محلية أكدتها المتحدثة باسمه وقال: “عندما يسمي رئيس شخصاً ما وزيراً، فهذا لا يجعله خادماً”. ثم تقدم باستقالته في أغسطس من العام 2017 ليترشح للرئاسة ويفوز فيها.
نظريات مؤامرة
تحولت السنوات التي قضاها ماكرون في مؤسسة روتشيلد إلى محور نظرية مؤامرة دفعت البعض لمناداته بالرئيس روتشيلد.
واستغلت المرشحة اليمينة مارين لو بان سنوات عمله الأربع هناك لتثير الشكوك حول ماكرون، بل قالت “إن عدو الشعب الفرنسي يقبع في عالم الاقتصاد وبأنه بات له وجه واسم وهو إيمانويل ماكرون”!
وحسب ما نشرت صحيفة Foreign Policy، تسببت عائلة روتشيلد- وهي سلالة بنكية يهودية متعددة الجنسيات ـ لأكثر من قرنين في إثارة الشكوك حول مسؤوليتها عن كل حرب قارية كبرى من أجل التمويل والربح من كلا الجانبين.
ويتهمها بعض الفرنسيين في التسبب بركود اقتصادي، واغتيال رؤساء في الولايات المتحدة وحكام في أوروبا، وحتى الهولوكوست، إلى جانب دعم رعاية زواج المثليين.
لطالما شكلت هذه العائلة “لاعباً رئيسياً وعالمياً في أكثر الدراما النفسية شراً في فرنسا” بحسب وصف المجلة، التي أكدت أنه على الرغم من الانتشار العالمي لعائلة روتشيلد، إلا أن هذه النظريات كانت الأكثر نشاطاً على الأراضي الفرنسية.
وأرجعت السبب “للعداوات القديمة تجاه الثراء الفاحش والقلق بشأن حالة الشعب، توازيها جذور متعمقة في معاداة السامية”، على حد ما جاء في المجلة المرموقة.
ماذا تقول عائلة روتشيلد عن ماكرون؟
في 24 سبتمبر من العام 2018، أجرت مجلة Business Day Wanted لقاء مع ديفيد دو روتشيلد.
قال وقتها ديفيد في سؤال عن الخلاف الذي حصل بين هولاند وماكرون: “هولاند ذكي للغاية، إنه رجل مثقف ولطيف. لكن لماذا خرج؟ لأنه لم يستطع اتخاذ القرار، لأنه كان دائم التردد. فقد مصداقيته في الخارج وتوصل إلى نتيجة مفادها أنه لا ينبغي له الترشح مرة أخرى”.
ثم أضاف روتشيلد: “أفضل ماكرون الحاسم، الذي يعتبر أن مصلحته الفضلى هي في النجاح. فماذا يريد الرجل في عمره؟ ليس التكريم الآن والفشل غداً”؛ في إشارة إلى عمره الشاب، إذ كان عمره 39 عاماً عندما ترشح للرئاسة ما جعله أصغر رئيس فرنسي.
وأضاف قائلاً: “لديه القدرة على فهم وتقييم واختيار الاتجاه، وهي مهارة متأصلة يستخدمها كرئيس للدولة”.