في بداية ثمانينات القرن الماضي كنت وبعض الشباب من أبناء جيلي ممن لا يستطيعون الذهاب للعاصمة الأردنية عمان لحضور مباراة كرة قدم لفريقنا المفضل، كنا نتصل بالهاتف الأرضي لصحيفة الدستور والتي يتلقى فيها مسؤول الاتصالات آلاف المكالمات في نفس الوقت تستفسر عن نتيجة اللقاء. وفقط المحظوظ هو من يكون له نصيب ويجيبه موظف المقسم بالنتيجة ومسجلي الأهداف، وبالتالي يعرف ليلته سعيدة أم حزينة حسب النتيجة.
ولكن في كثير من الأحيان ولكثافة الاتصالات ووجود رقم واحد فقط، فإن الاتصال لا يكتمل ولا نعرف النتيجة وهكذا تكون باقي الليلة مليئة بالتفكير والتوقعات حتى صباح اليوم التالي عندما نحصل على الخبر اليقين.
في صباح اليوم التالي نذهب للمحل الوحيد في المنطقة، والذي يبيع النسخة الورقية من الصحف اليومية وبلهفة العاشق نقلب أوراق الجريدة حتى يأتي الخبر اليقين من صفحة الرياضة ونذوب عشقاً ولهفة مع أدق التفاصيل.
كانت تلك وسائل الإعلام الرئيسية مع القناة الأرضية للتلفزيون في ذلك الوقت، وكانت بالنسبة للآباء أو الأجيال الأكبر عمراً من أبناء جيلي بمثابة شيء كبير جداً يقارب حد الخيال والنعمة الكبيرة، فخلال يوم في أكثر الأحوال نعلم عن خبر حصل على بعد مئات الكيلومترات.
إعلام بنكهة عسكرية
كما حدثني والدي وهو من المدرسة العسكرية عن إذاعة صوت العرب والتي تبث من القاهرة ويصل صداها للعواصم العربية وقد كانت أهم وسائل الإعلام في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، حيث كان الزعيم جمال عبدالناصر يلقي من خلالها خطاباته الحماسية التي تلهب العواطف وخصوصاً ما يتعلق بالقومية العربية والتي كانت تجد لها آذاناً مصغية.
كان المذيع المصري الراحل أحمد سعيد من خلال برنامج “صوت العرب” يحوز الاهتمام الأكبر بين الجماهير العربية في فترة الصراع العسكري مع الكيان الصهيوني المحتل خصوصاً في حرب “الأيام الستة” عام 1967 عندما كان ينقل البيانات العسكرية التي تؤكد الانتصار الساحق للجيش المصري في الحرب وتدمير العشرات من طائرات العدو، مع أن الحقيقة عكس ذلك تماماً حيث تم تدمير الطائرات المصرية قبل أن تقلع أصلاً وخسر الجيش المصري المعركة.
فرح والدي ومعه شباب العرب كثيراً عندما كان الإعلامي أحمد سعيد يصدح في صوت العرب “تجوع يا سمك البحر، سنلقي الصهاينة في البحر” ولكن بعد ذلك تبين أنها لم تكن أكثر من أوهام صنعتها وسائل الإعلام العربية بأوامر عسكرية عليا!
لا شك بأن أحمد سعيد كان رجلاً وطنياً وقد شارك العمل الفدائي المصري ضد الاحتلال البريطاني، ولكن الإعلام العربي في ذلك الوقت “إعلام النكسة” كان عنصراً مهماً في تزييف الحقائق وإن كان الهدف في حينها هو الحفاظ على الروح المعنوية للشعب العربي.
التغيير الجذري
تدرجت وسائل الإعلام في النمو والتطور والانفتاح حتى جاءت مرحلة التسعينات من القرن الماضي عندما بدأ دخول القنوات الفضائية للبيوت العربية دون استئذان، وقد شكلت في بداياتها حالة جدلية من عدة نواحٍ أبرزها رؤية بعض رجال الدين حيث وصفها بعضهم بأنها وسيلة هدم للبيوت، ولكنها أيضاً كانت قفزة كبيرة من ناحية سرعة نقل الخبر، رغم أن أغلبها كان إعلاماً رسمياً ينقل وجهة نظر الحكومات فقط.
توالت التطورات بشكل دراماتيكي حتى وصلنا لأعلى مستوى من وسائل الإعلام الرقمي ونقل الأحداث مباشرة وبدقة، وتقلصت مساحة الخصوصية والسرية ولم تعد وسائل الإعلام المحلية مؤثرة في إخفاء الحقيقة التي أصبحت متاحة بسهولة من خلال محركات البحث.
أحدثت الإنترنت التغيير الجذري في وسائل الإعلام وأصبح بمقدرة الإنسان أن يكون مؤثراً بعيداً عن وسائل الإعلام التقليدية، فمن خلال صفحته الخاصة على إحدى وسائل التواصل يمكنه صناعة الحدث، واعتمد الشباب العربي عليه كثيراً في “الربيع العربي” والذي أطاح بزعامات عربية حكمت عقوداً من الزمن وكذلك فهي عامل أساسي حالياً في حملة مقاطعة البضائع الفرنسية.
وماذا بعد؟ هل من مزيد من التطور وفي أي إتجاه؟ وأين نحن العرب منه؟ وهل يمكن أن نصبح رياديين في عالم صناعة الإعلام المؤثر خصوصاً أننا نتابع تأثير وسائل الإعلام الأمريكية التي يقود أغلبها يهود في نتائج الانتخابات الأهم في العالم، حيث أسهمت كثيراً بفوز ترامب في الدورة الماضية وهي تدفع بقوة من أجل فوز بايدن لغاية الآن هذه المرة!
عندما أراد الفرنسي ماكرون تخفيف وطأة مقاطعة المسلمين للبضائع الفرنسية بعد قصة الرسوم المسيئة، اختار قناة الجزيرة الفضائية لكي يبعث رسالته وهذا يؤكد مدى انتشارها وأهميتها وتكاد تكون هي الوحيدة المؤثرة في المنطقة، ويبقى الإعلام الرسمي العربي قليل التأثير ووسائل التواصل تفرض حضورها في صنع الحدث، ولكن هذا فيه مخاطر عديدة، ويبقى التساؤل مفتوحاً: إلى أين نسير في عالم الإعلام الرقمي، وخصوصاً في عالمنا العربي؟
الكاتب : علي أبو صعيليك