ممنوع الإساءة للذات الديجولية !!!كيف تعاملت فرنسا الديمقراطية حين انتقد فيلم قائدها؟

 

نحن لا ندين الكاريكاتير، حتى حين يتردد الآخرون، لأنه في فرنسا، الأضواء لا تنطفئ أبدًا *الرئيس الفرنسي ماكرون

احتدم النقاش مؤخرًا في فرنسا حول حدود حرية التعبير بعد نشر صحيفة «شارلي إيبدو» لرسوم مسيئة للنبي محمد، ثم مقتل أستاذ تاريخ عرض رسومات مسيئة على طلَّابه، وتأكيد الرئيس الفرنسي أن فرنسا لن تدين هذا الكاريكاتير؛ كما عرضت الرسوم المسيئة على أوجه المباني الحكومية الرسمية في مدينتي تولوز ومونبولييه، وقد أوحت هذه الممارسات بأن التركيز على الرسوم المسيئة يعدُّ توجُّها رسميًّا للدولة، وليس مجرد ممارسات فردية تتعلَّق بالحرية الشخصية لأصحابها. فهل تمسَّكت فرنسا الرسمية دائمًا بشعارات الديمقراطية وحريَّة التعبير، كما يقول دومًا قادتها السياسيون؟

في عام 1985، خرج فيلم جزائري بعنوان «كم أحبكم» (combien je vous aime) للمخرج الجزائري عز الدين مدور، وهو فيلم وثائقي عن فترة الاستعمار الفرنسي للجزائر، وذلك من خلال تجميع لقطات أرشيفية من عهد الاستعمار، بالإضافة إلى خطابات المسؤولين الفرنسيين في قالب كوميدي ساخر، يفضح تناقض هذه الخطابات مع واقع السكَّان البائس والجرائم الاستعمارية من وجهة نظر المخرج. استفزَّ الفيلم السلطات الفرنسية بسبب الطابع الساخر الذي اتَّسم به، بالخصوص بسبب السخرية من الجنرال ديجول وتصريحاته المتناقضة، بالإضافة إلى الشهادات الصادمة لبعض الجنود الفرنسيين الذين يعترفون بقتل المدنيين الجزائريين بدم بارد، ويحتوي عنوان الفيلم على إشارة ساخرة لخطاب الرئيس الفرنسي ديجول بقوله «je vous ai compris»؛ أي «لقد فهمتكم».

 الجنرال ديجول

هنالك العديد من الأفلام التي تطرَّقت للثورة والعهد الاستعماري التي نالت قدرًا واسعًا من الانتشار والاحتفاء حتى لدى الأجيال الجديدة، لعلَّ أهمها «معركة الجزائر» للإيطالي بونتي كورفو؛ لكن الأجيال الشابة في الجزائر تكاد لا تعرف أي شيء عن فيلم «كم أحبكم» لعز الدين مدور؛ إذ إن التدخُّل الفرنسي منع ليس فقط عرضه على السينما والتلفزيون، بل حتى الحديث عنه في الصحافة منذ 1985، وهي الحادثة المعروفة بشكل واسع في الأوساط الثقافية الجزائرية، رغم عدم توثيقها بشكل كاف في الكتب والمقالات؛ إذ بقيت معروفة لدى من عاصروا المشهد السينمائي والثقافي في تلك المرحلة، بالإضافة إلى بعض المنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي التي تذكرها لصحافيين ومثقفين، من بينهم الكاتب الصحافي المعروف عبد العزيز بوباكير.

لم يتوقَّف الاحتجاج الفرنسي عند البيانات التنديدية فقط، بل ضغطت الحكومة الفرنسية من أجل منع الفيلم من البث وإيقافه عن العرض في السينما والتلفزيون، وذلك بالتهديد بأن الفرنسيين سيسربون لوسائل الإعلام ملفات فساد خاصة بمسؤولين جزائريين في حال عدم سحب الفيلم، وذلك حسب شهادة عبد الحميد عبدوس، الصحافي بجريدة «الشعب» القومية سابقًا في تلك الفترة، فصدرت أوامر بمنع ذكره في الصحافة الوطنية، بعد أزمة دبلوماسية حقيقية بين الجزائر وفرنسا بسببه.

عندما يتعلَّق الأمر بالرموز الفرنسية، كالحديث عن هزائم الجيش الفرنسي وقياداته، لا تصبح حريَّة التعبير أولوية قصوى بالنسبة للحكومة الفرنسية، خصوصًا عند التطرُّق للمعارك التي خسرها الجيش الفرنسي في فيتنام والجزائر. السخرية من الجنرال ديجول، الرئيس الفرنسي أثناء الحرب التحريرية، بالإضافة إلى باقي قيادات الجيش الفرنسي في الجزائر، كالجنرال ماسو، المسؤول عن إخماد «معركة الجزائر» التي دارت في العاصمة الجزائرية، والتي شهدت ارتكاب انتهاكات في حق السكَّان من طرف قوات المظليين الفرنسيين، والجنرال بيجار المعروف بطرق التعذيب المروعة في حق المقاومين الجزائريين، جعلت حكومة الرئيس فرانسوا ميتيران (الذي كان وزيرًا للداخلية ثم العدل أثناء الثورة التحريرية) تحتج لدى الجزائريين وتضغط لمنع الفيلم من البث.

لا توجد معلومات كثيرة حول حيثيات اختفاء الفيلم وتوقُّف عرضه ومنعه من البث في السينما والتلفزيون، لكنه بحسب الشهادات المتواترة قد أثار أزمة دبلوماسية حقيقية مع فرنسا؛ إذ استفزَّها لدرجة تدخُّلها لمنعه، وقد أشار أحد صحافيي جريدة «الشعب» القومية حينها، كما سبق ذكره، أن الفرنسيين قد هدَّدوا الحكومة الجزائرية بإخراج ملفات فضائح بعض المسؤولين في الدولة في حال عدم توقيف عرض الفيلم، وقد أرجع الصحافي الانزعاج الفرنسي الشديد من الفيلم إلى المشاهد التي تتحدث عن التجارب النووية التي أجرتها فرنسا في الصحراء الجزائرية، باستخدام أجساد مساجين جزائريين حقيقيين لقياس تأثيرات القنبلة في البشر؛ إذ احتوى الفيلم على شهادة حيَّة صادمة من أحد الجنود الفرنسيين الألمان، كشفت عن أن فرنسا استعملت أجساد جزائريين حقيقيين، وليس دمى مثلما ادَّعت من قبل.

سخرية من ديجول.. وتصريحات صادمة حول الجرائم الفرنسية

يلعب الفيلم على وتر المفارقة والسخرية الكوميدية، وذلك من خلال الهوَّة الشاسعة بين التعليق الصوتي والمشاهد التصويرية المأخوذة من أرشيف الأخبار وبرامج التلفزيون الفرنسي، فحين تُعرض صور لأطفال جزائريين يعملون في مهن شاقة وتبدو على وجوههم آثار البؤس والفقر والحرمان، يعلِّق الفيلم بأن الفرنسيين كانوا يعتنون بالأطفال الجزائريين ويحرصون على دراستهم وعلى لباسهم وهندامهم. يقول أحد الأطفال الجزائريين في الفيلم، بينما تبدو عليه علامات الفقر والشقاء: «أنا أيضًا رأيت الجنرال ديجول عندما زارنا، إنه هو الذي أضاء شمسنا».

في مشهد آخر، يسخر الفيلم من الخطابات الفرنسية عن الأخوة والمساواة، ويُظهر الفروقات الاقتصادية والاجتماعية بين العامل الجزائري والسيِّد الفرنسي، من خلال تعليقات كوميدية عن العيش بسلام بين العامل الواقف في حرارة الشمس يحمل المظلة للفرنسي الذي يستمتع بزجاجة بيرة باردة.

«في البادية أيضًا يعيش الجزائريون والفرنسيون جنبًا لجنب، هذا ابن ميسيو شوفان، انظر كيف يتعامل مع الفلاحين، يسايسهم ويعطف عليهم ودائمًا يساعدهم في العمل، في الجولة على أراضيه، يشجِّع هذا ويضرب «عفويًا» الآخر».  -مشهد من الفيلم

لا يترك الفيلم الفرصة للسخرية من الهزائم الحربية الفرنسية وجوقة الجنرالات الفرنسيين المهزومين في حرب الفيتنام، والذين جاءوا إلى الجزائر من أجل استرجاع الشرف الفرنسي ومحو «العار» الذي لحق بهم في حرب الفيتنام. ينتقل الفيلم إلى خطاب للجنرال ديجول يقول فيه: «المهمة التي تقوم بها فرنسا هنا، فرنسا وحدها؛ هل يمكنكم فعله للآخرين؟ كلَّا؟ إذن اتركوا فرنسا تفعل»، لينتقل الفيلم مباشرة إلى لقطة القنابل والمدافع الفرنسية وهي تدكُّ القرى الجزائرية.

طيَّارون فرنسيون في قبضة المقاومين الفيتناميين بعد إسقاط طائراتهم

في مشهد آخر تظهر النساء يبكين على وفاة أقاربهن في الجيش الفرنسي ممن ماتوا في الحرب ضد المقاومة الجزائرية، ثم يتساءل الفيلم عن المسؤول عن هذه الدموع، لينتقل إلى خطاب للجنرال ديجول وهو يقول: «أنا المسؤول الأوَّل عن مصير الفرنسيين».

يركِّز الفيلم على التناقض بين كلام ديجول وأفعال الجيش الفرنسي، فيظهر خطابه مرَّة وهو يتحدث عن مهمة فرنسا «التنويرية» في الجزائر، ثم لقطات من إحراق الفرنسيين للبيوت واعتقالهم للسكان الجزائريين وإطلاق الرصاص عليهم، أو حين يسخر ديجول من سؤال صحافي عن حقوق الإنسان الأساسية فيجيبه ديجول بأنه طوال حياته السياسية قد احترم حقوق الإنسان، وأنه «لن يصبح ديكتاتورًا بعد سنِّ السابعة والستين»، لينتقل الفيلم إلى شهادات التعذيب التي أدلى بها الجزائريون، وآخرون ممن فقدوا عقولهم بسبب شدَّة التعذيب.

يضمُّ الفيلم أيضًا مشاهد ساخرة من الجيش الفرنسي وقيادته وهزائمهم في فيتنام، من خلال إعادة تكرار لقطة لجندي شاب يعجز عن حمل السلاح بطريقة لائقة، وجنرال فرنسي يحمل تعابير طريفة في وجهه، مع موسيقى كوميدية في الخلفية، ويقول المعلِّق الصوتي بشكل ساخر «هذا جيش فرنسا، عندما يكثر عليه الريَّاس، وتصعد له الحرارة إلى الراس»، ثم يأتي مشهد لجنود فرنسيين في قبضة الفيتناميين بعد الهزيمة التي منوا بها في معركة «ديان بيان فو». «هؤلاء قادة الجيش في «ديان بيان فو» بعد أن خانهم الحظ، شوف كيف عمَّ عليهم الحزن، ها هو بيجار معهم حشمان، ها هو غضبان، حاطط عينيه وهاز يديه».

رغم الطابع الكوميدي للفيلم والمشاهد الساخرة والموسيقى المضحكة، فإن الفيلم لا يخلو من الشهادات الصادمة للجرائم التي ارتكبها الاستعمار في حق الشعب الجزائري، والتي من بينها شهادة صادمة لجندي فرنسي يعترف بقتله ثمانية جزائريين عزَّل، ويختمها بالقول بأنه «يعشق القتل»، كما ينتقل الفيلم بين مشاهد قتل الجزائريين وبين الميداليات التي يحصل عليها الجنود الفرنسيون، ويعلِّق على جنرال يحمل العديد من الميداليات والأوسمة في صدره بالقول: «لا شك أن وراء كل هذه الميداليات أموات عديدة».

تبون ينتقم.. «كم أحبكم» يعود إلى الحياة

الموسيقى التصويرية الكوميدية، مع التركيب (المونتاج) الساخر للقطات مختلفة تمامًا عمَّا يصفه المعلِّق الصوتي من أجل إظهار الهوَّة الشاسعة بين ما كانت تدَّعيه فرنسا الاستعمارية خلال احتلالها الجزائر من خلال شعارات الحداثة والمساواة والإخاء، وواقع السكَّان الجزائريين الذين كانوا يعيشون الفقر والحرمان والظلم والاستغلال، يجعل الفيلم بمثابة جلسة محاكمة للفترة الاستعمارية، ومحاولة لفضح ما يعده الفيلم نفاق الخطابات السياسية للمسؤولين الفرنسيين.

مخرج الفيلم عز الدين مدور

بعد 20 سنة من وفاة مخرجه عز الدين مدور في حادث سيَّارة سنة 2000، وأكثر من 30 سنة منذ عرضه لأول مرة في السينمات الجزائرية، سيعود فيلم «كم أحبك» إلى الشاشات مجددًا، وذلك في سياق تراشق سياسي بين ضفَّتي البحر الأبيض المتوسط. هذه المرة أعادت السلطات الجزائرية عرضه في التلفزيون الوطني ردًّا على وثائقي فرنسي من إنتاج قناة «فرانس 5» الحكومية حول الحراك الشعبي الذي أطاح حكم الرئيس بوتفليقة، والذي جاءت فيه مقاطع اعتبرتها السلطات الجزائرية مهينة للدولة والجيش الجزائري؛ كما نال الوثائقي الفرنسي سخطًا من طرف نشطاء الحراك بصفته يصوِّر هذه الحركة الشعبية بصورة موجَّهة وغير موضوعية.

 

شاهد أيضاً

“الإمبراطور الأبيض”.. مقاتلة الجيل السادس الصينية المصممة للهيمنة على السماء والفضاء

تشهد المنافسة بين الصين والولايات المتحدة تصعيداً ملحوظاً في العديد من المجالات، من أبرزها التسابق …