في ظل ظروف الحياة اليومية، لا يبدو أن البطاريات التي نستخدمها تدوم طويلاً بما يكفي؛ إذ يجب أن نشحن هواتفنا كل يوم، ويبدو أن أجهزة الكمبيوتر المحمولة متعطشة باستمرار لتوصيلها بكابلات الطاقة، ورغم أن السيارات الكهربائية تحاول أن تذهب بعيدًا إلا إننا لم نصل لشيء واضح حتى الآن.
كل هذا أخبرنا بوضوح أننا أصبحنا بحاجة لنوع جديد من إمدادات الطاقة، والآن، ربما يقترب العلماء من ذلك بالفعل عبر العودة إلى تكنولوجيا فضائية استخدمت منذ عام 1977. فما القصة؟
رحلة الفضاء الأطول في التاريخ
في عام 1977، أطلقت «ناسا» مسبارا الفضاء «فويجر 1» و«فويجر 2»، ليبدأ ما سيثبت أنه أطول رحلة قطعتها أجسام من الأرض نحو الفضاء على الإطلاق.
خرجت المركبتان الآن من النظام الشمسي، ويقوم مسبار «فوييجر 2» بإرسال قياسات فضائية من خارج المجموعة الشمسية، لكن هذا الإنجاز المدهش الذي يعد من بين أهم الإنجازات البشرية العلمية، لم يكن ليتحقق سوى بأحد الجوانب الحاسمة لهذا النجاح، فهذان المسباران يحتاجان بطاريات من نوع خاص تجعل أجهزتهما تدومان كل هذه السنوات.
يستخدم مسبارا «فويجر» مصدر طاقة نووية ضعيفًا، ونظرًا لكونه مشعًا، فإنه يعتبر خطرًا للاستخدام على الأرض. لكن هناك شكل من أشكال الطاقة وثيق الصلة بهذا المصدر، الذي يحتوي على قدر أكبر من الطاقة، ويمكنه العمل بأمان في سيارتك العادية.
كانت المرة الأخيرة التي فكر فيها العلماء بجدية في هذه التكنولوجيا قبل 20 عامًا، وانتهت بجدل كبير. ومع ذلك، عاد الجيش الأمريكي الآن ليضع هذه التكنولوجيا في عين الاعتبار، وأجرى تجربة ربما تمنحه فرصة جديدة من أجل العودة.
طريقة مختلفة لتخزين الطاقة
تشمل معظم طرق تخزين الطاقة الكيمياء أو عمليات وتفاعلات كيميائية، عندما نحرق البنزين في محرك السيارة، فإننا نطلق الطاقة المخزنة في روابط كيميائية بين جزيئات وذرات البنزين. بالمثل، تعمل البطاريات القائمة على الليثيوم في أجهزة مثل الهواتف المحمولة من خلال السماح بتدفق الأيونات المشحونة.
لكن هناك قوة أكبر يمكن الحصول عليها إذا نظرنا إلى ما وراء الكيمياء، وانتقلنا إلى داخل الذرة نفسها.
ترتبط الكيمياء بالتفاعلات والروابط بين الذرات، لكن يوجد عالم آخر مدهش وأكبر من ناحية الطاقة موجود داخل الذرات نفسها، وهي الطاقة النووية.
تتكون كل ذرة من نواة مكونة من جسيمات تسمى البروتونات والنيوترونات تدور حولها سحابة من الإلكترونات. يمكننا مشاهدة عملية دمج البروتونات والنيوترونات لتكوين أنوية الذرات المختلفة داخل النجوم، وهي العملية التي تحتاج إلى درجات حرارة وضغط شديدين.
إذا تعمقنا في نواة الذرة بالطريقة الصحيحة، يمكننا استخراج بعض هذه القوة الهائلة. الطريقة الرئيسية لفعل ذلك هي الانشطار النووي، عبر قذف نواة الذرة بنيوترون، لتطلق النواة مزيد من النيوترونات التي يمكنها بعد ذلك تقسيم المزيد من أنوية الذرات، مما يتسبب في تفاعل متسلسل يطلق كميات هائلة من الطاقة. هذه هي الطريقة التي تعمل بها محطات الطاقة النووية في العالم.
النشاط الإشعاعي.. طاقة مختلفة
ما سبق يمكن أن نراه مطبقًا في بعض الأجهزة مثل الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية، لكن يصعب علينا تخيل وجود سيارة تعمل بالطاقة النووية لاعتبارات الحجم والسلامة.
بالنسبة إلى مسبارا «فويجر»، فهما يحصلان على الطاقة اللازمة للتشغيل بطريقة مختلفة، بالتحديد من خلال الاستفادة من النشاط الإشعاعي الطبيعي.
للتوضيح، فإن بعض الذرات تكون غير مستقرة، وتطلق جزءًا من المادة والطاقة بين الحين والآخر، وهذه المادة والطاقة المنطلقتان يمكن أن تكونا عبارة عن مجموعة من بروتونين ونيوترونين (أشعة ألفا)، أو إلكترون (أشعة بيتا)، أو طاقة خام على شكل أشعة جاما.
لا يمكننا التنبؤ بموعد تحلل ذرة معينة، ولكن يمكننا تحديد المدة التي سيستغرقها تحلل نصف ذرات مادة مشعة، وهو ما يطلق عليه «زمن نصف العمر»، والذي يختلف بشكل كبير من مادة لأخرى، فبعض المواد المشعة تتحلل في ثوان، بينما يبلغ نصف العمر للبلوتونيوم 87.7 عامًا، ولهذا السبب اختير مصدرًا للطاقة لمسبار «فويجر». تحلل البلوتونيوم ينتج عنه إطلاق تيار من جسيمات ألفا، ويولد حرارة تتحول إلى كهرباء بواسطة مولدات كهربائية حرارية للنظائر المشعة.
تكمن المشكلة في أن النشاط الإشعاعي له سمعة سيئة، ولكن ليست كل أنواعه متساوية في سوء سمعتها. تخترق أشعة جاما – على سبيل المثال – الأنسجة البشرية بشكل أعمق وهو الإشعاع الأكثر خطورة. إشعاع بيتا ليس سيئًا للغاية، بينما لا يخترق إشعاع ألفا الجلد، لذلك فهو ضار فقط إذا تراكم داخل الجلد.
كيف تعمل البطارية النووية؟
بالعودة إلى محاولة الجيش الأمريكي لإحياء هذه التكنولوجيا وإنتاج بطاريات نووية طويلة العمر، فإن المفهوم الذي يتطلع إليه الجيش الأمريكي، هو نوع من الطاقة النووية التي يمكن أن تكون قوية وآمنة وطويلة الأمد.
يعتمد ذلك على حقيقة أن البروتونات والنيوترونات لعنصر معين يمكن أن تتجمع معًا في ترتيبات مختلفة في نواة الذرة. تسمى هذه «أيزومرات» أو «نظائر» ولكل منها طاقة مختلفة. تتواجد الذرات عادةً في صورة أكثر «الأيزومرات» استقرارًا، وهي الحالة ذات الطاقة الأقل. بينما تميل أيزومرات الطاقة الأعلى إلى إعادة ترتيب نفسها بسرعة للوصول إلى الحالة الأكثر استقرارًا. ولكن هناك عدد قليل من الأيزومرات عالية الطاقة التي تبقى على صورتها لفترة طويلة.
عام 1998، استخدم أحد العلماء مسرع الجسيمات لتحضير أحد هذه الأيزومرات المستقرة عالية الطاقة، والتي تسمى الهافنيوم «178m2Hf». ثم أطلق أشعة سينية على نواة هذا الأيزومر وقال إن هذا حول النواة إلى حالتها الأرضية؛ مطلقًا موجة من أشعة جاما في المقابل.
سيكون من الصعب بالطبع الاستفادة منه مصدرًا للطاقة لأنه خطير إشعاعيًا، لكن كانت هذه التجربة دليلًا على مبدأ أن الأيزومرات النووية يمكن أن تكون مصادر طاقة مفيدة.
لكن سخر علماء من هذه الفرضية بحجة أنه اضطر إلى بذل المزيد من الطاقة للحصول على مصدر طاقة أقل، بالإضافة إلى الحاجة لمسرع الجسيمات مما يعني إنتاج كميات صغيرة بتكلفة كبيرة. كان هدف هذه التجربة هو الحصول على كل القوة المكبوتة للأيزومر دفعة واحدة. ولكن هناك، من حيث المبدأ، طريقة مختلفة ويمكن القول إنها أكثر فائدة عرفناها منذ عقود، ولم يتم اتباعها بشكل صحيح.
محاولات الجيش الأمريكي لصنع بطارية نووية
تخيل أن لديك كتلة من الأيزومر المشع مثل الهافنيوم، ذات طاقة عالية لكنها لا تتحلل وموجودة بأمان لفترة طويلة لأنها بالكاد تصدر أي إشعاع.
عندما تحتاج إلى بعض الطاقة، فإنك تقوم بتحويل كمية صغيرة منها إلى حالتها المستقرة، لتبدأ في التحلل الإشعاعي بسرعة. يمنحك هذا مولدًا مشابهًا للمولد الموجود في مسبارا فويجر، ولكن الفرق هو أنه يمكنك تشغيله والحصول على الطاقة حسب الرغبة.
كان جيمس كارول في مختبر أبحاث الجيش الأمريكي يحقق في إمكانية تحويل الأيزومرات بهذه الطريقة. كانت إحدى الطرق المحتملة للقيام بذلك، وظهرت لأول مرة في عام 1976، تتضمن إطلاق إلكترون على أيزومر وامتصاصه في مدار حول النواة، مما يدفع البروتونات والنيوترونات إلى إعادة ترتيب نفسها.
استخدم كارول وفريقه مسرع الجسيمات لتخليق شعاع من ذرات الموليبدينوم (MO93m)، مع نصف عمر يبلغ حوالي 7 ساعات. وتوصل إلى أيزومر أقل استقرارًا، الذي تحلل بسرعة لدرجة أن الباحثين لم يتمكنوا من ملاحظته.
كانت التجربة خطوة مهمة إلى الأمام، لكن كان هناك خلاف حول مقدار الطاقة التي يمكن استخلاصها من الأيزومرات.
تشير أرقام كارول إلى أن العملية يمكن أن تنتج 5 جول من الطاقة لكل جول يتم إدخاله. ويعترف كارول بأن الأيزومرات أبعد ما تكون عن الاستخدام العملي باعتبارها بطاريات. لكن النظرية نفسها موجودة وحقيقية ويتبقى الوصول إلى الأيزومرات المناسبة.
المشكلة هي أن الخصائص الدقيقة للأيزومرات يصعب حسابها، ولن نعرف مدى ملاءمتها حتى نجربها. هذا بالضبط ما يريده الجيش الأمريكي الآن من خلال أبحاثه في أحد المفاعلات البحثية في بولندا. الهدف من المشروع هو معرفة طبيعة عملية شحن الأيزومرات وتفريغها عند الطلب، أو بعبارة أخرى، اكتشاف أي الأيزومرات ستصنع بطارية جيدة.
يحرك عملية البحث هذه دافع كبير، لأن تشغيل بطاريات الأيزومر يعني جمع كميات هائلة من الطاقة في حجم صغير، بسعة تصل إلى أكثر من جيجا جول لكل جرام. وهو ما يزيد بمليون مرة عن بطاريات الليثيوم أيون، وعشرات الآلاف من المرات أكثر من الطاقة التي يطلقها حرق البنزين.