منذ ساعات تصدرت عناوين الكثير من الصحف العالمية أخبار عن «تسريبات فينسن (FINCEN)»، وهي مجموعة ضخمة من الأوراق التي سُربت من وزارة الخزانة الأمريكية، وقد تهز المجتمع السياسي والاقتصادي الدولي، والتي تثبت تورط مجموعة كبيرة من البنوك العالمية بينها بنك عربي مركزي في عمليات غسيل أموال ضخمة يصل قدرها إلى تريليوني دولار.
جزء كبير من الأموال جرى الحصول عليها من عمليات النصب، وتهريب المخدرات، والاتجار بالبشر، والاتجار غير القانوني في السلاح، بالإضافة إلى عمليات ملتوية لبعض الحكومات للهروب من العقوبات الدولية، والتي قد تمنعها من التداول المالي واستخدام الدولار الأمريكي، ما يجعلنا نطرح سؤالًا مهمًّا: «على ماذا تحتوي تسريبات فينسن؟».
في البداية.. ما هي «فينسن» وما هي التسريبات؟
فينسن أو (FiNCEN) هو اختصار مبسط لـ«US Financial Crimes Enforcement Network»، أو ما يعني بالعربية «جهاز مكافحة الجرائم المالية»، وهو جهاز تابع لوزارة الخزانة الأمريكية يختص بمراقبة الجرائم المالية، مثل عمليات غسيل الأموال، والتي تجري بالدولار الأمريكي، سواء داخل الولايات المتحدة أو خارجها.
ويجري ذلك عن طريق تتبع التحويلات البنكية المريبة، مثل أن تودِع شركة أو شخص ما أو تحوِّل مبلغًا ماليًّا ضخمًا لا يتناسب مع قيمة الشركة أو ثروة الشخص نفسه. ويكشف جهاز فينسن عن المعاملات البنكية المريبة من خلال إصدار تقرير يعرف باسم «SARs» وهو اختصار لـ«Suspicious Activity Reports»؛ أي ما يعني بالعربية «تقرير مراقبة الأنشطة المشبوهة».
وهذا التقرير تجري تعبئته إلكترونيًّا على موقع جهاز مكافحة الجرائم المالية عن طريق البنوك نفسها، عندما يشعر مسئولوها بوجود تحويلات مالية مشبوهة، أو يطلب الجهاز من البنك أو المؤسسة المالية تعبئتها في حالة الإبلاغ عن أي عمليات مشبوهة تخص ذلك البنك؛ ثم يبحث فريق الجهاز للتأكد من صحة العمليات البنكية، وللتأكد من أنها تتناسب مع القيمة المالية لصاحب التحويل، لمعرفة ما إذا كانت هذه الأموال قد جرى الحصول عليها بشكل غير قانوني أم لا؟
في العام الماضي حصلت مؤسسة «BuzzFeed News» الأمريكية على حوالي 2500 مستند مسرب من تقارير «SARs» وتقارير أخرى تفيد بتورط أكثر من بنك عالمي، من بينها، بنك عربي هو «مصرف الإمارات المركزي»، في عمليات غسيل أموال وتحويلات بنكية مشبوهة بقيمة تريليوني دولار أمريكي بين عامي 2000م و2017م.
ويتورط أيضًا في عمليات غسيل الأموال هذه، رجال أعمال عرب وآسيويون وأمريكان وأوروبيون، بجانب بعض الشخصيات الحكومية المختلفة في دول كثيرة حول العالم. وعندما حصلت مؤسسة «BuzzFeed News» على المستندات شاركتها مع 108 مؤسسات صحفية في 88 دولة حول العالم، وعمل على تفريغها مئات الصحافيين حول العالم؛ حتى ظهر الكثير من الحقائق المثيرة التي سوف نعرضها في السطور القادمة من هذا التقرير.
كيف تورط مصرف الإمارات المركزي في غسيل كل هذه الدولارات؟
في عام 2012م أبلغ بنك «ستاندارد تشارترد» البريطاني جهاز فينسن الأمريكي بأن شركة تسمى «جونيش» للتجارة الدولية، ومقرها دبي في الإمارات المتحدة؛ تضخ مبالغ بقيمة مريبة إلى النظام المصرفي الإماراتي الذي يديره البنك المركزي.
وأوضحت التحقيقات فيما بعد، أن الشركة ضخت حوالي 142 مليون دولار أمريكي بين عامي 2011م و2012م في بنكين، هما بنك رأس الخيمة الوطني، وبنك الإمارات دبي الوطني. وقبل أن يبلغ البنك البريطاني السلطات الأمريكية، تواصل مع المصرف المركزي الإماراتي في سبتمبر (أيلول) 2011م، والذي أكد مسئولوه وقتها أن الأمر سوف يخضع للتحقيقات وسوف يوقف عمل الشركة حتى تظهر نتائج التحقيقات.
لكن هذا لم يحدث، وواصلت شركة «جونيش» للتجارة أنشطتها المريبة في مجموعة أخرى من البنوك الإماراتية حتى عام 2016م، قبل أن يصفي الشركة القائمون عليها في عام 2018م بعد عامين فقط من اعتقال أحد مؤسسيها في الولايات المتحدة، وهو رجل الأعمال التركي- الإيراني الشهير رضا ضراب.
رضا ضراب قيد الاعتقال في الولايات المتحدة
في عام 2016م أعلنت الحكومة الأمريكية أن شركة «جونيش» للتجارة الدولية، شركة من مجموعة شركات يستخدمها رجل الأعمال التركي رضا ضراب لكي يهرِّب ملايين الدولارات من البنوك الأمريكية إلى النظام المصرفي الإيراني، عن طريق تحويلها إلى النظام المصرفي الإماراتي أولًا ثم نقلها إلى إيران فيما بعد.
وتجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة كانت قد وقعت عقوبات اقتصادية تحدد تعامل إيران بالدولار الأمريكي، بعد حوادث احتجاز الرهائن الأمريكيين في إيران بين عامي 1979-1981م، وتصاعد الأزمة بين إيران وأمريكا بسبب البرنامج النووي الإيراني؛ وبسبب تلك العقوبات لجأت إيران إلى الطرق غير الشرعية – التي تحددها أمريكا – حتى تغذي أنظمتها المصرفية بملايين الدولارات.
صديق بوتين يستخدم بنك بريطاني لغسيل ملايين الدولارات لصالح روسيا
في مارس (آذار) عام 2014م بعد أن قررت الحكومة الروسية ضم إقليم القرم الأوكراني إلى السيادة الروسية؛ وقعت الحكومة الأمريكية عقوبات اقتصادية على روسيا لكي تحدها من استخدام الدولار الأمريكي في المعاملات التجارية، وتبعها الاتحاد الأوروبي بالعقوبة الاقتصادية نفسها. وبعد شهور قليلة، وتحديدًا في شهر يوليو (تموز) من العام نفسه؛ أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية ضم أركادي روتبرج، رجل الأعمال الروسي، ومؤسس «بنك روسيا»، إلى قائمة العقوبات الاقتصادية الموقعة على الأفراد.
وأركادي روتبرج هو صديق بوتين منذ الطفولة، بجانب أنه يتمتع بنفوذ سياسي كبير لكونه عضوًا في «دائرة القيادة الداخلية»، وهي الدائرة التي يدير من خلالها بوتين روسيا، ومن خلالها تخرج كافة القرارات المتعلقة بالشأن الداخلي والخارجي.
أركادي روتبرج مع بوتين في إحدى تمرينات الجودو
في عام 2008م، فتح روتبرج حسابًا في بنك «باركليز» البريطاني بلندن تحت اسم (Advantage Alliance)، وفي أبريل (نيسان) عام 2016م، بدأت إدارة البنك تحقيقًا داخليًّا أثبت أنه بين عامي 2012م و2016م، قام روتبرج بمجموعة تحويلات بنكية بين روسيا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية تقدر بحوالي 77 مليون دولار، على الرغم من كونه معاقبًا من الإدارة الأمريكية، وهذا لا يعطي له الحق في التعامل بالدولار بهذا المبلغ الضخم، ولا حتى يعطي الحق لبنك «باركليز» البريطاني بتمرير تلك التحويلات.
وما يثبت أن البنك متورط مع السيد أركادي روتبرج في العملية؛ هو أن البنك أعلن أن حساب (Advantage Alliance) الذي جرت من خلاله المعاملات البنكية المريبة؛ قد أُوقف في نهاية عام 2016م، إلا أن المستندات المسربة تثبت أن تعامل البنك مع روتبرج لم يقف؛ بل استمر من خلال حسابات بنكية أخرى حتى نهاية عام 2017م.
«دويتشه بنك» يمتلك نصيب الأسد بأكثر من تريليون دولار!
تشير تسريبات فينسن إلى أن 62% من عملية غسيل الأموال العالمية التي حدثت باستخدام الدولار بين عامي 2000 و2017م؛ حدثت من خلال البنك الألماني «دويتشه بنك». وأن الحكومة الأمريكية في عام 2005م وقعت عقوبة مالية قدرها 258 مليون دولار أمريكي على «دويتشه بنك» بسبب إجراء معاملات مالية مشبوهة بين عامي 1999 و2006م، بقيمة 11 مليار دولار مع أطراف تحظر الحكومة الأمريكية التعامل معها باستخدام الدولار، وكانت معظمها لمصلحة مؤسسات حكومية وسياسية في ليبيا، وسوريا، وبورما، وإيران، والسودان.
وفي عام 2017م، اتهمت السلطات الأمريكية «دويتشه بنك» بالتواطؤ مع رجل الأعمال التركي الإيراني رضا ضراب في عملية تحويلات مشبوهة، جرت بين فرع «دويتشه بنك» الأمريكي وبنوك إماراتية وتركية، هدفها ضخ حوالي 25 مليون دولار أمريكي في النظام المصرفي الإيراني للهروب من العقوبات الاقتصادية التي وقعتها الولايات المتحدة على إيران.
في عام 2017م حدثت الفضيحة الكبرى التي هزت أرجاء البنك الألماني في العالم، والتي تعرف إعلاميًّا باسم «Russian Mirror Trade» وهي العملية التي مرر «دويتشه بنك» في روسيا من خلالها معاملات غسيل أموال باستخدام الدولار بقيمة 11 مليار دولار أمريكي، وهي نصف القيمة المادية للبنك.
وعملية «Mirror Trade» جرت من خلال أن يضخ العميل أموالًا/ أسهمًا بالعملة الروسية (الروبل) في شركات ناجحة بالروبل، ثم يطلب من فرع لندن وفرع نيويورك بيع هذه الأسهم بالدولار الأمريكي. وفي الفترة بين مارس 2013م وحتى أبريل 2014م، تمكنت «مؤسسة الخناني» لغسيل الأموال من إجراء معاملات بنكية مشبوهة في «دويتشه بنك» فرع روسيا من خلال عملية الـ«Mirror Trade».
وتشير تسريبات فينسن إلى أن المستفيدين من هذه العملية كانوا مجموعة زبائن محرم دوليًّا التعامل معهم ماليًّا: مثل «تنظيم القاعدة»، و«حركة طالبان»، و«حزب الله» ومجموعة كبيرة من مجموعات الاتجار بالبشر والمخدرات في المكسيك.
وفي الحقيقة لا يعرف أحد لماذا يستمر «دويتشه بنك» في التعامل بمليارات الدولارات، وهو طرف في معظم الفضائح المالية. وتشير تسريبات فينسن إلى أنه في الوقت الحالي يوجد في البنك آلاف الحسابات المملوكة لشركات وهمية، تجري تعاملات مالية مريبة.
حتى إنه قبل فضيحة «Mirror Trade» أُرسل أكثر من 100 تحذير من موظفي البنك في روسيا إلى الإدارة في روسيا وإلى الإدارة المركزية في ألمانيا عما يحدث من عمليات غسيل أموال؛ إلا أن البنك لم يحرك ساكنًا، بل يعطي مسئولو البنك في كل فضيحة إجابة واحدة: «لقد تعلمنا مما حدث، ونعدكم بألا نكرر أخطاء الماضي في المستقبل»، ولكن تمر الأيام وتظهر فضيحة جديدة للبنك الألماني!
سلسلة عمليات بونزي وتورط بنك «إتش إس بي سي»
عملية بونزي أو ما تعرف باسم «Ponzi Scheme»، هي عملية تجريها شركة ما للنصب على المشاركين والمستثمرين فيها؛ وذلك من خلال تجميع رقم ضخم من المستثمرين – غالبًا ما يكونون مستثمرين صغارًا – ثم تدفع الشركة مجموعة من الأرباح المتفق عليها في البداية لكي تشجع المستثمر على استثمار مبلغ أكبر من الأموال، وعندما يتمكن القائمون على الشركة من تجميع أكبر رقم ممكن من الأموال؛ تتهرب الشركة من دفع الأرباح عن طريق مجموعة من السيناريوهات أبرزها: أن تعلن الشركة إفلاسها.
وعلى الرغم من تغريمه حوالي 1.9 مليار دولار في عمليات غسيل أموال مختلفة من قبل، فإنه في الفترة بين عامي 2013 و2014م، أقر بنك «إتش إس بي سي (HSBC)» – وهو أكبر بنك بريطاني موجود في العالم – مجموعة تحويلات بنكية بقيمة 80 مليون دولار أمريكي من مجموعة من الحسابات في الولايات المتحدة إلى حسابات موجودة في البنك نفسه، لكن في هونج كونج.
وكانت التحويلات خاصة بشركة تسمى «WCM777» وهي شركة أمريكية أُسست في الولايات المتحدة على يد مهاجر من أصل صيني يدعى مينج ذو، واستهدفت الشركة مجتمعات الآسيويين واللاتينيين الفقيرة في الولايات المتحدة لجلب استثمارات ضخمة لمشروعات عقارية وهمية.
«جي بي مورجان» تغسل الأموال حول العالم وفي أمريكا أيضًا
لم يسلم بنك «جي بي مورجان»، أكبر بنك موجود في الولايات المتحدة، وأحد أكبر البنوك التي تدير معاملات بنكية في العالم؛ من تسريبات فينسن الأخيرة، التي تثبت تورط البنك في تمرير تحويلات بنكية في عمليات غسيل أموال بقيمة 716 مليار دولار أمريكي، من ضمنها حوالي 174 مليون دولار تمت لصالح حكومة كوريا الشمالية داخل فروع البنك في الولايات المتحدة الأمريكية.
وتحويلات أخرى تمت لصالح زبائن – لم يعلن عنهم حتى الآن – في فنزويلا التي تعاني من كساد ودمار اقتصادي، وأوكرانيا التي اتهم فيها الكثير من المسئولين السياسيين منذ عدة سنوات بالتواطؤ في عمليات غسيل أموال داخليًّا وخارجيًّا، فضلًا عن فضيحة سرقة مليار دولار من صندوق التنمية الماليزي، والتي تشير تسريبات فينسن إلى أن جزءًا ليس بقليل من هذه الأموال جرى تحويلها في معاملات بنكية من خلال بنك «جي بي مورجان».
وتشير تسريبات فينسن أيضًا إلى أن بول مونفورت، المدير السابق لحملة دونالد ترامب الرئاسية، استغل التواصل بين مسئولين رفيعي المستوى في روسيا مع حملة دونالد ترامب في إجراء عملية غسيل أموال ضخمة؛ فقد استخدم مونفورت مجموعة حسابات بنكية في «جي بي مورجان» من أجل غسيل رقم ضخم من الأموال ويقدر بحوالي 6.9 مليارات دولار أمريكي لصالح مجموعة مختلفة من الشركات الوهمية التابعة لمسئولين ورجال أعمال في روسيا وأوكرانيا بين عامي 2016 و2017م.