مقال – المدينة والناس

فيينا – دكتور هادى التونسي —–

مدينتان كبيرتان ، الأولى مزدحمة صاخبة ، الحياة فيها شاقة حافلة بالمتناقضات على ما في تاريخها وثقافتها من ثراء ، الأخرى هادئة منظمة جميلة الحياة فيها يسيرة وغنية بالمتع والثقافة  ، ولكنها تستغرق الجميع ، فيتعجلون قضاء حاجاتهم  ، الواحدة تلو الأخرى في حساب دقيق للوقت والتكاليف  ، فتبدو الوجوه صارمة أحيانا  ، وتعبيراتها مصنوعة تارة أخرى.

كثيرون فى المدينة الأولى هم من يرغبون في العيش فى الثانية  ، خاصة لو اعتادوا على طبائع سكانها  ، وآخرون مع هجرتهم لا يطيقون الهدوء أو انصراف كل شخص الى شئونه الخاصة بعيدا عن الأهل والجيران أو حتى الأصدقاء  ، وتستفزهم العلاقات المحسوبة وردود الأفعال المفتقرة لما يعتبرونه دفئا إنسانيا  أو نخوة أو كرم 0 وهكذا فبعد تحقق الحلم المبهر يشعرون بالوحدة والحنين لوطنهم بكل ماله وما عليه  ، وإذا استمرت هجرتهم يدخلون الدائرة المفرغة  ، يندمون على ما فعلوه أو يبرروه المرة تلو الأخرى دون إقتناع نهائي باختيار محدد 0

نفر آخر من الناس لا تكفيهم حياة المدن  ، لايقنعهم التدافع اللاهث خلف الضرورات والرغبات  ، يريدون أن يعيشوا اللحظة بوعي كامل ، بادراك عميق ، يخرج النفس من وحدتها  ، ويشغل الحواس والحدس بكل طاقاتهم ، تلك اللحظة التي يتواصل فيها المرء مع نفسه والآخرين والطبيعة والكائنات ، يمنحهم ذاته كاملة دون خشية أو انغلاق  ، هى حياة التلقائية والتحرر والانطلاق بفصي الدماغ  ، بحسابات المنطق والواقع وبالقيم الأصيلة والمشاعر العميقة الصادقة وقدرات الحدس الموثوق بها  ، وهى حياة يكون الفرد فيها واعيا بأنه جزء من كل  ، متحاب ومسئول بسكينة وعطاء دون حدود ودون شروط  0

ما الخطب إذن أن يترك المرء حياة المدن ولو وقتيا ، ويستغنى عن الاعتماد على الغير  والاحتياج لكثير من المتع والسلع والخدمات ؟ وهل يكون الاصرار  على حياة المدن أحيانآ عجزآ أو هروبا من النفس  ؟ هل يمكننا الحياة فى قرية صغيرة الى جوار بحر أوغابة  أو بحيرة ؟ هل يمنحنا ذلك الاختيار حيزا صحيحا من المكان والزمان  ، تتنفس فيه مشاعرنا وطاقات الحدس ، ويدرك الانسان أنه يكون سعيدآ  حينما يكون أفضل صديق لنفسه وللآخرين والحياة ؟

هل تساءلنا لماذا ينشد الصوفية التوحد ؟ ولماذا يفضل البعض حياة العزلة على علاقات اجتماعية وطيدة ينعمون بها ؟

قد يفتنك بحر بهدير أمواجه  ورتابة حركته ونسيمه المنعش  ، فتستغرق فى استرخاء وتأمل ، وتعتقد أن شاطئه مكانك الأثير، ثم يحين وقت تسكن فيه على ضفاف بحيرة فيخلب لبك  لساعات السكون والصمت والمدى  ، وقوارب متهادية على صفحة مياه نقية  ، وسماء تتبدل ألوانها وسحبها فى أوقات النهار، أو قد تكون قضيت ليلة فى نزل بسيط وسط حديقة فى جو صحو و جعلت تسترق السمع وتفسر أصوات الطيور وتشم عطر الورود والنباتات وترى ألوانها وتلحظ نداها بإحساس متوثب بالجمال والحيوية وبعين يقظة تشعر وتستوعب التفاصيل والكل 0

هل أثثت وزينت ورتبت منزلك بكل ما فيك من محبة وتوافق وحس جمالي وجعلته عنوانا لشخصك ومتحفا لذكرياتك ، فأنست الى كل ركن فيه  ، وأصبح جنتك تودعك كل صباح وتنتظرك كل مساء ؟ هل جمعت فيه ألوانا من الموسيقى  ولوحا فنية وكتبا تعود الى قراءتها ، كلها تأخذك الى عالمها ، تثري روحك ، ويحلق فيها خيالك وتتحدي فكرك  ، حتى وأنت قابع بين الجدران  ؟

هل جعل كل ذلك قلبك يمتليء حبا للكائنات والشعوب والثقافات ، ويجعلك تستوعب دروس التاريخ والحياة وروحك تعى أسباب الوجود ؟

قد تكتشف على أية حال أنه من السهل الشعور بالسعادة طالما أحسنت توجيه الانتباه والطاقة الى ما حولك ، بل قد تقفز إلى فكرك وأنت على هذا الحال حلول لمشاكل اعتملت داخلك ولم يعد يجديك طول التفكير فيها مرة تلو الأخرى 0

ما أعقد النفس ؟ وما أيسر وأقرب السعادة ؟

سفير سابق و طبيب/ د.هادى التونسي

شاهد أيضاً

بالصور – تعرف على بنك أهداف نتنياهو داخل إسرا؟؟ئيل الذين انقلب عليهم

لا يقتصر “بنك الأهداف” على الفلسطينيين فقط عند بنيامين نتنياهو، فالعديد من المسؤولين الإسرائيليين أيضاً …