فيينا – د . هادي التونسي طبيب وسفير سابق ——
استلقي علي فراشه في نهاية يوم عمل شاق,يجترع متاعبه,مرور مزدحم,ضوضاء شوارع,موظفو خدمات متعسفون غير حرفيين,عمل مرتبك يؤدي دون المام و اتقان و تخطيط كافين,تصرفات عصبية دوافعها غير موضوعية,علاقات شخصية سطحية مغرضة تفتقر للمصداقية و الحكمة و الاخلاص,تتراوح بين مجاملات زائفة و غضب عنيف متسرع, و تحكمها ممارسات القوة,مقنعة كانت أو فجة.هو يوم عادي في حياة يؤديها بدأب و احتمال , و لكنه اليوم فقط يتساءل عن أسبابها و نوعيتها بل و جدواها,عن هذا التكالب اليائس المتهافت علي الهجرة الي و العيش في مدن مكتظة و ملأها بذرية كثيرة رديئة التربية محدودة التعليم مشوشة التفكير دون تخطيط لمستقبلها و رزقها قدر الطاقة,اعمالا لغريزة حب البقاء و لو بمضاعفة المشاكل بدلا من مواجهتها ,ثم القاء تبعة الحل مستقبلا علي الله و الحكومة حتي و ان كان المرء يشكو حاضره؟.يتساءل عن مغزي أن يتبرم مواطن من الضوضاء فقط اذا ما كان غيره مصدرها, و من سوء خدمات فقط اذا ما كان ضحيتها,في حين يعطي نفسه مطلق الحرية أن يؤدي عمله بأقل الجهد و الالمام و الفكر و المسئولية طالما كان أمنا من العقاب أو التوبيخ؟.يتساءل عما اذا كان الناقدون للتدهور الأخلاقي يضربون حقا المثل في الجدية و الصدق و الالتزام و الحكمة و المسئولية و الاحترام أم يشاركون في اللعبة ذاتها و يجأرون بالشكوي ان خرجوا خاسرين؟يتساءل عن سبب أن ينعي البعض ضياع الحقوق في حين يتهربون من القوانين ويفرضون قانونهم الخاص كلما سنحت الفرصة دون حسيب؟.يتساءل عن سبب الفردية المتوحشة,هل هو ناموس العصر أم ضعف الانتماء و اليأس من استمرار المعاناة؟, وعن جدوي الخلاص الفردي حتي و ان تحقق وسط غابة من الشقاء تفرض نفسها علي كل من يحس و يعي؟.
يري دولا غنية يظنونها مثلا للرفاهية,فيجد قوانينا تنظم الفردية و التنافس و تحمي المجتمع, و لكن يبقي القانون الذهبي أن القلة تحتكر أغلب الثروة حتي و ان كبرت الطبقة الوسطي ,انما الفرد و ان تمتع بجودة سلع و خدمات و ضمان اجتماعي لاهث في عمل يستهلك الطاقة و الفكر و الوقت طلبا للجودة و الاتقان و الابتكار و التميز,ليصمد في سوق عالي التنافسية غزير العرض,تتجاذب منتجاته المكلفة دخول أفراد يتهافتون علي زيادتها و علي الادخار,جريا وراء أحلام لا تنتهي لتملك كل ما هو جديد و متميز و لزيادة تنافسيتهم في سوق العمل. و يمر بهم العمرمنغلقين بين قضبان العمل و الاستهلاك و اشباع الدوافع الشخصية دون اثراء للنفس بالتواصل مع الأخر و الحياة التي تكيفوا مع ظلمها بقيم المنفعة,فهي حياة مميكنة قانونها كسب و ممارسة القوة المتوافقة مع القانون حتي و ان توارت العدالة و الدوافع و الأخلاقيات السامية.
بدا الأمر له و كأنه لا مهرب منه, و كأنه مغترب في عالم ينتحر شقاء,ناميا كان أم متقدما.هو لا يريد أن يعيش دون وعي رقما في قطيع,ولا
يملك أن يضيع نعمة حياة يستطيع فيها أن يكون مختلفا بأن يعيش ذاته,فليبدأ اذن بنفسه, بأن يعمل كما يجب حتي لو لم يكن ذلك ضروريا, بأن يحترم القانون حتي و ان كان أمنا من العقاب,بأن يراعي مبادئ متماسكة تصون الكرامة و تمنح المغزي لحياته حتي لو عاش في مجتمع يضع المصلحة فوق المبدأ و القوة فوق الحق, بأن يطبق أفكاره حتي لو كانت مختلفة أو جديدة, بأن يعبر عن مشاعر صادقة و يتخذ مواقف مسئولة حتي و لو كان ذلك صعبا, بأن يراعي توافق مصالحه الفردية مع الصالح العام حتي و ان بدا ذلك مثاليا.
لقد اختار طريقه بأن يتحلي بالقدوة و المسئولية الجماعية, بأن يكون مواطنا صالحا بمعني الكلمة.
طبيب وسفير سابق د/هادي التونسي