بيروت – كريم صلاح الدين —–
تعريف الدّستور في مجال العلوم السّياسيّة يؤكّد بأنّه القانون الأعلى لأيّ بلد، حيث يضع الخطوط العريضة لبنية نظام الدّولة ومؤسّساتها وطريقة سير العمل ضمنها. ولا يختلف اثنان أنّ بناء الدّولة يبدأ باحترام الدّستور وتقديسه ووضعه فوق كلّ اعتبار. من هنا نستنتج أنّ انهيار الأخيرة وسيطرة الفوضى يبدأ بالتّخلّي عن دستور البلاد وتحويله إلى وجهة نظر إمّا أن تُطبَّق أو لا حسب المصلحة كما هو الحال في لبنان، قبل وبعد الاستقلال.
لا بدّ من أن نعترف بأنّ دستور الطّائف بصيغته الحاليّة يفسح المجال أمام الكثير من التّكهّنات ويفتح الباب لبروز تفسيرات عدَّة تتعلّق بمواده، لكنّ الحلّ يكمن في تعديله لا في حلّه. وإذا قمنا بتعداد الأحداث الّتي سجّلت خرقًا لكتاب الـ«مئة ومادتين» منذ الطائف وحتى اليوم، نرى أنّ الرّقم الأخير قد يكون صادمًا، بدءًا بتمديد ولاية هراوي ولحّود مرورًا بانتخاب سليمان ووصولًا إلى تأجيل الانتخابات النيابية منذ عام 2013 وحتّى عام 2018.
وقد ظنّ البعض منّا بأنّ وعود الرّئيس ميشال عون السّابقة قد ساهمت في تحسين رؤية السّياسيّين للدستور وفرضت عليهم تغيير خططهم لتتلاءم مع مضمونه بهدف استعادة الدولة هيبتها المفقودة، إلّا أنّ ذلك لم يتحقّق يومًا باعتبار أنّ الرّئيس نفسه لم يعد قادرًا على حفظ وعوده الّتي لاقت حينها نسبة لا بأس بها من الإيجابيّة قبل أحداث 17 تشرين، فهو يكافح اليوم لينهي عهده بأقلّ ضرر ممكن بعد أن دخلت البلاد في موتٍ سريريٍّ.
يدرك حلفاء عون قبل غيرهم أنّ لا نهوض للبلاد في عهده، ولا استقامة للأوضاع طالما أنّ «الجنرال» يقطن قصر بعبدا، الجنرال نفسه الّذي وعد شعبه قبل شهرين وآنف من الثّورة أنّه سيسلِّم خلفه «وطنًا أفضل ممّا هو عليه» اليوم. ها هو اليوم الوطن ينهار أمام أعين رئيس البلاد الّذي لا يزال يتشبّث بمنصبه، وهو على الأرجح لن يتخلّى عنه، مهما علا صوت النّاس، واهمًا بأنّه خلاص لبنان ومعتقدًا أنّ الفرصة لا زالت أمامه لتسليم الرّئيس المقبل وطنًا أفضل. ما لبث عون أن صرَّح بما سبق حتّى انهارت الليرة، وشحّ الدولار، فأقفلت المؤسّسات، وارتفعت البطالة، وسحق الفقر ما تبقّى من الطّبقة الوسطى، وتحوّلت ودائع المواطنين في المصارف إلى ورق «مونوبولي»، وبات ثلث الجسم التربويّ للبلاد مهدّدًا بالبقاء في المنازل إذا ما استمرّت الأوضاع الرّاهنة.
لا يمكن بطبيعة الحال إلقاء اللّوم على عون وحده، إلّا أنّ التنصّل من المسؤولية تخطّت حدود المعقول، فتارة يتّهم العماد الجسم الحاكم منذ 1990 وحتى اليوم بانهيار لبنان، ناسيًا، أو متناسيًا، بأنّه عاد من باريس عام 2005 ليدخل في صلب هذا الجسم الحاكم، حتّى أنّ تشكيل الحكومات منذ عودة الجنرال وحتى اليوم ما ولدت يومًا دون موافقته المسبقة، فأصرّ على توزير باسيل سابقًا حتى نال مطلبه، وهدّد قبلها بتشكيل حكومة متوازية ضاربًا عرض الحائط الدستور، في محاولة انقلاب فاشلة على النظام عام 2007. كما أنّ فريق عون نفسه كان الّذي أسقط حكومة الحريري خلال زيارته إلى واشنطن من خلال استقالة وزراء تياره لتليها استقالة كلّ ممثّلي 8 مارس (آذار)، وتارة يلجأ تيّاره إلى ربط تفكّك ما بقي من لبنان بالتّدخّلات الخارجيّة والتّطوّرات الإقليميّة الّتي لا يمكن إنكار تردّداتها على لبنان، وهنا بيت القصيد!
قد يظنّ الجنرال أنّ لوم سياسة ما بعد الحرب هو أفضل الحلول لتبرئة نفسه، لكنّنا لم نأتِ به للبكاء على الأطلال وإنّما للنّهوض بالبلاد، ظنّا منّا أنّ تجارب 13 تشرين 1990 قد غيّرت من شخصه للأفضل، لكنّه عاد من جديد ليقلب الطاولة على وطنٍ بلا مرتكزات. وهنا يا فخامة الرّئيس، اسمح لي بأن أقم بمقارنة صغيرة بينك وبين الرّئيس الرّاحل فؤاد شهاب.
استقال بشارة الخوري من منصبه عام 1952 بعد معارضة شعبيّة واسعة وتهم الفساد الّتي وُجِّهَتْ بحقّه، فطلب رؤساء الكتل حينها من معارضة وموالاة من الجنرال شهاب التّرشّح لمنصب الرّئاسة فرفض رفضًا قاطعًا احترامًا لمركزه العسكري باعتبار أنّ مهمة الجيش تقضي دون الارتباط بالسّياسة. أتذكر جنرال يوم تعيينك رئيسًا لحكومة عسكريّة؟ طلب حينها أمين الجميّل من حضرتكم الإشراف على الانتخابات الرئاسيّة، فخضت حربًا ضدّ القوات اللّبنانيّة، وطلبت من الجيوش السوريّة الجلاء لكي تترك بعدها بيوم بعبدا تحترق بعد أن صمدت 47 دقيقة لا غير. لا انتخابات رئاسيّة، ولا من يحزنون تحت رقابتك.
وإذا كانت التوترات الإقليميّة قد حالت دون السماح لك بالقيام بأيّ إصلاح، فاعلم أنّ الشرق الأوسط كان يغلي في عهد شهاب، ونال لبنان قسطه من التّوتّرات الإقليميّة حينها، فأَنشأَ الغرب حلف بغداد الذي لاقى دعمًا من الرّئيس شمعون، فشدّد الأخير على توافق السياسة الخارجيّة لكلّ من لبنان وتركيا، ليدخل في نزاع عميق مع عبد النّاصر والجمهوريّة العربيّة المتّحدة، متّهمًا إيّاها بتسليح المعارضة الإسلاميّة، ومتوجّهًا بشكوى إلى مجلس الأمن، حتَّى إنّ الأمر انتهى بتفعيل شمعون لمبدأ Eisenhower واجتياح الولايات المتحدة لبنان الّذي أصبح حينها ساحةً للصراع الأمريكي-السّوفياتيّ. لم تهدأ الأمور إلّا بعد وصول شهاب إلى الرّئاسة، فشكّل حكومة وحدة وطنيّة نفّست الاحتقان، ومن بعدها حكومة مستقلّة لتشرف على انتخابات نيابيّة بقانون انتخابيّ جديد أعاد الهدوء إلى البلاد، ودائمًا ما عمل شهاب على توزير شخصيّات شبابيّة كفؤ، وشدّد على سيادة لبنان فوسّع علاقاته مع الغرب ووصل إلى تفاهم لبناني-مصريّ يضمن سلامة البلدين، فتحوّل لبنان من ساحة للصراعات إلى الرقم الأصعب في المعادلات الشرق أوسطيّة. أين أنتم اليوم، يا فخامة الرّئيس، من هذا النّهج الّذي كان قادرًا، ولو لفترة بسيطة، أن يصنع من لبنان وطنًا حرًّا ومستقلًّا؟
استقال شهاب عام 1960 بعد أن عاد الهدوء إلى الشّارع اللبنانيّ، ظنًّا منه أنّ الوطن لم يعد بحاجة إليه. فالوطن، برأيه، لا يمكن أن يحافظ على ديمقراطيّته مع رئيس عسكريّ، ولم يتراجع عن الاستقالة إلّا بمضد، وامتنع بعدها عن تعديل الدّستور لصالحه، وكان واضحًا حين قال أنّه لن يقبل بالتّمديد له، ليبتعد بعدها عن السّياسة. أين أنت جنرال من كل هذا؟ خطاباتك «الصّليبيّة» الّتي تدّعي فيها أنّك خير مدافع عن حقوق المسيحيّين كادت أن تعيدنا إلى صراع أهليّ، والغضب الشّعبيّ اليوم لم يهزّك ولم يدفعك لا إلى الاستقالة، ولا إلى تغيير نهجك، حتّى أنّك لجأت إلى ممارسة الكيديّة مع شعبك، ففرضت علينا حكومةً عقيمةً فشلت بوضع خطّة واضحة للتّقدّم، ولم يرفّ لك جفن عندما دفعت بلبنان إلى عمق الصراع الإيراني-الأمريكي، فوقفت متفرّجًا على انتهاك السّيادة وكنت الحاضر الأوّل في مراسم دفن لبنان بعد أن قضيت على آخر أنفاس دستورٍ سبق وحوّلته إلى «menu a la carte»، لنتفاجئ البارحة بطلبك من القاضي عويدات ملاحقة المسيئين لسمعتك. ألا تلاحظ جنرال ما وراء الرّفض الشعبيّ لحضرتكم في حين أنّ اللّبنانيّ الأصيل لا يزال يرفع رأسه بكلّ فخر ليقول «فؤاد شهاب رئيسي»؟
محبّة الشّعب جنرال لا تنالها بالقوّة ولا بالقبضة العسكريّة. شهاب نالها لأنّه أدرك أنّ كرامته من كرامة دستور بلاده، عسى أن تصحو يومًا لتنتبه أنّه كان على حقّ. ولكن، أرجو منكَ أن تعرف أنّه وبعد ما يقارب أربع سنوات على عهدك، ما عُدتُ بوارد البقاء صامتًا أمام الوضع الحاليّ. وسأرفع الصّوت عاليًا ولو كلّفني الأمر حرّيّتي. وكما قالت فيروز في مسرحيّة آل رحباني: «ما في حبوس تساع كل النّاس، بيعتقلوا كتير وبيبقى كتير، وباللّي بقيوا رح منكمّل».
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن شبكة رمضان الإخبارية