عندما أعلن الرئيس عبدالفتاح السيسي عن مبادرة القاهرة بشأن الصراع الليبي، التي نصّت على وقف إطلاق النار، لم يكن أحدٌ من المراقبين أو المحللين يتوقع أن يتم ذلك، لسبب واضح وهو وقوف مصر مع أحد طرفي النزاع، وهو طرف حفتر المهزوم في تلك اللحظة، لكن كيف وصلت الأمور إلى أن تفقد مصر أي دور مؤثر لها في ملف آخر جوهري لأمنها القومي، مثل الملف الليبي، بعد أن فقدت أو كادت حقَّها التاريخي في مياه النيل؟
تدخل مطلوب.. ولكن
في فبراير 2014، قام خليفة حفتر -وكان وقتها القائد العام للجيش الليبي في الحكومة التي شكلها المؤتمر الوطني الليبي المنتخب تحت إشراف الأمم المتحدة- بمحاولة انقلاب فاشلة قوبلت باستنكار شعبي وإقليمي ودولي، لكنّ القاهرة وقتها “أخذت حفتر على محمل الجد”، بتوصيف تقرير شارح عن الحرب الأهلية في ليبيا، نشره موقع لوب لوغ الأمريكي، في سبتمبر من العام الماضي، بعنوان: “فهم الدور المصري في ليبيا”.
التقرير استعرض الدور المصري في الصراع الليبي منذ ذلك الوقت، مفصلاً مراحله “وتناقضاته”، فالدوافع خلف هذا الدور منطقية ومفهومه، حيث إن مصر تربطها بليبيا حدود تتخطى 1000 كلم، ووجود تنظيمات إرهابية مسلحة مثل داعش في ذلك الوقت يمثل خطراً داهماً على الأمن القومي المصري.
وواقع الأمر أنَّ التدخل المصري في الشأن الليبي مفهوم ومبرر تماماً من حيث دوافع الحفاظ على الأمن القومي، لكن غير المفهوم هو الأداء المتخبِّط والمتناقِض، والذي يرجع لأسباب عديدة، لكنها تندرج حقيقة تحت توصيف وحيد سنأتي على ذكره في حينه.
وفي هذا السياق، نجد أن مقالاً منشوراً في صحيفة المصري اليوم المحلية، في ديسمبر الماضي، للكاتبة الصحفية مي عزام، قد ذكر أن “اهتمام مصر بالملف الليبى يجب ألا يقل عن انخراط تركيا في الشأن السوري، بغرض تأمين حدودها وأمنها القومي”.
وقد تحقّق الآن ما تخوَّفت منه صاحبة المقال حينما كتبت: “يجب ألَّا نسمح بأن تفوت على مصر بعد ذلك فرصة لتأكيد دورها الريادي في محيطها، وبدلًا من أن تصبح الوسيط الأول واللاعب الرئيسي في الصراع الليبي تصبح مجرد طرف ضمن أطراف كثيرة تتصارع على الساحة الليبية، وأخاف من اليوم الذي تصبح فيه مصر وكل الدول العربية مُستبعَدة حين يتم التفاوض على مستقبل ليبيا، مثلما حدث في سوريا”.
رهان وحيد.. وها هو قد خسر
أما عن أسباب تخبُّط الدور المصري في الملف الليبي حتى الوصول لهذه النقطة من الضعف وانتظار ما سينتُج عن اتفاق اللاعبين الأساسيين في الملف، وهم حكومة الوفاق المعترف بها دولياً والمدعومة تركيّاً وروسيّاً، والآن دخلت أمريكا على الخط أيضاً، فيمكن العودة لتقرير أعده معهد كارنيغي للدراسات الاستراتيجية، لخّص فيه سبب مشكلة السياسة الخارجية المصرية في ذلك الملف، وهي أن “جهود الوساطة المصرية انصبّت على توحيد الجيش الليبي تحت قيادة حفتر، بغرض محاربة الإسلاميين في طرابلس، عوضاً عن السعي لتحقيق الاستقرار الذي يصبُّ في مصلحة الأمن القومي بلا شك”.
التقرير تحدَّث عن قرار الرئيس السيسي بتشجيع فرنسي، بل وأممي، لإنشاء لجنة مصرية للشؤون الليبية، وذلك في أغسطس 2016 -تولى رئاستها رئيس الأركان المصري وقتها محمود حجازي- بهدف جمع الفرقاء الليبيين في حوار شامل برعاية القاهرة، وتم بالفعل إجراء 6 جولات من المفاوضات بين القادة العسكريين في الغرب والشرق الليبي، وتحقق تقدم ممتاز في مارس 2018، حينما اتفقوا على تشكيل لجان فنية من الجانبين لإعادة هيكلة الجيش الليبي.
وفجأة دون مقدمات، توقفت تلك الوساطة ولم يصدر أي بيان رسمي من الجانب المصري بسبب توقفها وما إذا كانت قد فشلت أم نجحت أم أُجلت، وأشارت تقارير إعلامية وقتها أنّ سبب فشل تلك الوساطة هو رفض حفتر الاعتراف بالاتفاق السياسي الليبي -الذي يعترف به العالم أجمع بما فيه مصر نفسها- وهو ما يعني أن حقيقة أطماع حفتر وطموحاته الشخصية أصبحت واضحة تماماً للجانب المصري.
ولكن لأن السياسة الخارجية المصرية -التي يقودها الرئيس ودائرته المقربة من جنرالات الجيش- أصبح لديها هدف استراتيجي واحد، وهو محاربة أي نظام غير عسكري في دول الجوار، لذلك واصلت القيادة المصرية دعم خليفة حفتر، وحدث ما حدث ووصلت الأمور إلى ما وصلت إليه، وأصبح وجود حفتر المهزوم عسكرياً والمكروه شعبياً حتى في الشرق، بعد أن حاول اغتيال عقيلة صالح رئيس برلمان طبرق، أمراً مرفوضاً من الجميع، وهو ما يعني خسارة مصر لأي دور مؤثر في الملف الليبي، على الأقل حتى إشعار آخر.
تحوّل جذري في السياسة الخارجية
بالعودة للوراء كثيراً، نجد أنه منذ خمسينات القرن الماضي، كانت هناك خطوط استراتيجية عامة تحكم السياسة الخارجية لمصر، أكبر دولة عربية، والدولة التي تتمتع بنفوذ مستمد من عوامل التاريخ والجغرافيا، على أساس يتسم بالاستقلالية إلى حد بعيد، ويراعي الأمن القومي أولاً وأخيراً في التعامل مع دول الجوار والملفات الأساسية، على الأقل من وجهة نظر الحاكم.
وفي مقال منشور لمحمد حسنين هيكل في مجلة Foreign Affairs الأمريكية، ذكر أن “14 شخصاً فقط كانوا على علم بقرار الرئيس جمال عبدالناصر تأميم قناة السويس عام 1956، بينما لم يُطلع الرئيس أنور السادات سوى شخصين فقط على قراره طرد الخبراء الروس من مصر عام 1972، وقبل ساعات قليلة من إبلاغ السفير الروسي بالقرار، والسادات نفسه قال إن أحداً بخلاف وزير خارجيته لم يكن على علم بزيارة الرئيس للكنيست الإسرائيلي، قبل أن يتوجه بالفعل لتل أبيب”.
تغيرت الأمور كثيراً بالطبع في ظل النظام الحالي، ليس فقط في كيفية اتخاذ القرار ولا آلياته، ولكن الأهم هنا هو التحول الجذري الذي طرأ على استراتيجية التعامل في قضايا السياسة الخارجية التي تتعلق بملفات الأمن القومي، وتحولت مصر من المبادرة إلى رد الفعل الذي يأتي دائماً متأخراً بصورة لافتة.
تسليم القيادة لآخرين
التحول الذي طرأ على السياسة الخارجية المصرية من المبادرة إلى رد الفعل -البطيء والمتأخر والعاجز في كثير من الأحيان- لا يعبر عن نفسه فقط في الملف الليبي، فالأمر نفسه حدث مع ملف آخر أكثر خطورة وهو سد النهضة الإثيوبي.
الرئيس السيسي ألقى باللائمة على ثورة 25 يناير ، والأحداث التي شهدتها مصر عام 2011 وما تلاها، وحتى إن كان ما يقوله يحمل شيئاً من الحقيقة، وأن إثيوبيا استغلت تلك الأحداث وبدأت بالفعل في اتخاذ إجراءات عملية لبناء سد النهضة (رغم أن إثيوبيا كانت قد أعلنت بالفعل عن مناقصات لبناء السد منذ عام 2010)، إلا أن المؤكد هو أن مشروع السد نفسه كان متعثراً، ولم تجد إثيوبيا مَن يموله من المؤسسات والجهات الدولية، بسبب عدم وجود اتفاق ولو إطارياً مع دولتي المصبّ مصر والسودان، وهو ما أقدم عليه السيسي بتوقيعه اتفاق إعلان المبادئ في الخرطوم، في مارس 2015، ضارباً بنصائح المختصين في الخارجية ووزارة الري والمخابرات العامة عرض الحائط (رئيس الوفد المصري استقال وقتها اعتراضاً على توقيع الاتفاق).
ومنذ توقيع الاتفاق، تحوّل الموقف شكلاً ومضموناً، حيث انطلقت إثيوبيا في تشييد السد، ومع وصول آبي أحمد للسلطة تحوّل السد إلى مشروع قومي، واتخذت إثيوبيا موقفاً متعنتاً فيه إهانة واضحة لمصر، وها هي توشك على بدء المرحلة الأولى من تعبئة خزان السد، بينما أصبحت مصر في موقف ضعيف، على أقل تقدير.
موقف السودان أيضاً يُضاف إلى فشل السياسة الخارجية المصرية، التي تحوّلت إلى جهة لإصدار بيانات “المكايدة السياسية” تجاه تركيا وقطر وغيرهما، في تصرفات وصفها دبلوماسي مصري سابق لعربي بوست بأنها “هزيلة، وتعبر عن قلة الحيلة، بعد أن أصبحت مصر مجرد أداة لتحقيق ما يريده ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد”